الحرية جوهر كل الثورات التي تمتلك المشروعية، وهي كلٌ لا يتجزأ ولكنها تنظَّم عن طريق تشريع يعبر عن القواسم المشتركة للمجتمع وليس بواسطة حاكم مستبد، وللحرية مفهوم عام شامل ومفاهيم خاصة متعددة بتعدد مقاصدها مثل حرية الفكر والرأي والتعبير عنهما ومنها حرية الصحافة والإعلام وحرية العقيدة والانتماء الديني والفكري والسياسي وحرية التملك والتجارة والتنقل والحرية الشخصية وغيرها من الحريات المضمنة في الدستور والقوانين النافذة؛
والحديث عن الحرية المسؤولة حديث عن الأصل والاستثناء، فالحرية بمفهومها العام أصل، والمسؤولية قيد فرضه المجتمع، والأصل في الأشياء كما هو معروف فقهاً وقضاءً الحِل والإباحة، والحرمة استثناء مقيد بشروط توفرها، والعقل مناط التكليف، والمجتمع الذي تصدر عنه التشريعات كيان مؤلف من مجموع الأفراد يجمعهم وينظم شؤون حياتهم عقد اجتماعي مضمونه الموازنة بين المصالح الفردية المشروعة القائمة على مبدأ الحرية والاختيار، وغاية التنظيم الاجتماعي للحريات حماية حريات الأفراد من تضارب المصالح، وشرع الله يرعى المصالح المشروعة ويحميها، ولهذا قيل : (حيث تبدأ حرية غيرك تنتهي حريتك) ، أي أن مصلحة المجتمع تكمن في مجموع حريات الأفراد ومصالحهم المشروعة، وهكذا تصبح الحريات والمسؤوليات الفردية كياناً واحداً هو حاصل جمع حريات ومسؤوليات أفراد المجتمع ؛
وطبقاً لهذه القاعدة فإن الوظيفة المفترضة للسلطة العامة بكل تقسيماتها الدستورية هو التعبير عن مصالح مالكها وهو الشعب، والتداول السلمي للسلطة أهم علامات وجود المجتمع الحر، ولهذا أصبح من حق المجتمعات الحرة اختيار حكامها وتحديد صلاحياتهم ومراقبة أدائهم لواجبات الوظيفة العامة ومحاسبتهم على ما اقترفوه من جرائم وأخطاء وتجاوزات انطلاقاً من ضرورة اقتران السلطة بالمسؤولية التي تتفاوت مستوياتها بتفاوت درجات السلَّم الوظيفي، وهذا هو المعيار الذي تقاس به المجتمعات الحرة عن بقية المجتمعات البشرية، وكم من مجتمعات طحنتها الثورات والانقلابات الدموية، ومع ذلك كانت محصلة البناء العلمي والمدني والأخلاقي في هذه المجتمعات غير متناسبة مع مستوى تضحيات الشعوب في سبيل الحرية والاستقلال المعبر عن حالة التوازن بين المصالح الوطنية والإقليمية والدولية المشروعة بما يحقق العدالة للجميع!؛
والحرية والاستقلال والكرامة ليست كلمات تردد في المناسبات والاحتفالات وتمارس خلافها، ولكنها فعل خلاق يسطع كضوء الشمس في القلوب والعقول والأفهام وتعكسها الممارسات على أرض الواقع، ولهذا كان وعد الحر كما يقال دين عليه!،
إن الإنسان بلا حرية لا قيمة له ومكانته أدنى بكثير من مكانة أي كائن آخر، ولا معنى لأي وطن ترخص فيه قيمة الحرية ويتساوى فيه الأحرار مع العبيد، ولا علاقة لما أقول بالتمييز العنصري أو المذهبي أو الديني أو السلالي وأي اعتبار آخر يخالف المعنى الإنساني للحرية التي يتساوى أمامها كل أحرار العالم، فمنظمة الوحدة الأفريقية قلعة للحرية والأحرار في تمثيل مصالح شعوب ودول القارة السمراء، وإذا ما قيست بجامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الإسلامية نكون أمام فضيحة أخلاقية بكل المعاني من خلال مواقف هذه المنظمات ومواقفها ومستوى تمسكها بالقرار الحر والعلاقات المحترمة بين الدول والشعوب؛
وحيث توجد الحرية والكرامة توجد الثورة وتنمو دون حاجة لشعارات من أي نوع أو مظاهر براقة أو كلمات منمقة، حديقة الحرية تنمو وتزهر في نفوس الأحرار عطفاً وحناناً وحباً وإيماناً بحق الإنسان في العيش الكريم وفي المساواة والعدالة والتكافل الاجتماعي والإحساس بمعاني الثورة ضد الظلم والاستبداد وكل مظاهر وأسباب التخلف والفساد بصورها وألوانها وأشكالها المختلفة؛
والحرية المسؤولة تناقض الانفلات بكل معانيه الأخلاقية والقانونية والدينية والمدنية، وكلها معانٍ تتحد من حيث المضمون والجوهر وإن تعددت من حيث الشكل ، ومن يقبل على نفسه أن يكون عبداً فقد قبل على نفسه أن يكون كائناً أدنى من جميع الكائنات ، والحر لا يستعبد الناس ولا يقبل أن يستعبده الناس بأي مستوى وأي صورة ، وتنسب للإمام علي كرم الله وجهه قوله: (الناس إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق)؛ وهي مقولة يقال أنها مرفوعة في إحدى قاعات أو ساحات الأمم المتحدة تلخص المعنى العام لحرية الإنسان وقيمته أمام نفسه وأمام غيره ، والحرية قيمة تدور حولها كل معاني الدعوة للخلاص من براثن الظلم والاستبداد ، فلا ثورة بدون حرية ولا حرية بدون التسليم بحق الإنسان في التعدد في الفكر والرأي والتعبير عنهما أما من يرى بأن الكلام لا ينفع فإن عليه أن يبحث عما في وسعه.
خيوط الفجر تنشد كل حرٍّ فتسأله المحبة والوفاءُ
ويسألني عن الأسماء قلبي وكف الغيب يملأه الرجاءُ
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
نظير عياد: الخطاب الإفتائي المعاصر يتطلب الوعي بالواقع والانضباط بالمنهج
أكد الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، أن الخطاب الإفتائي في عالمنا المعاصر يمرّ بتحديات متسارعة، لا يمكن مواجهتها إلا بوعي دقيق بالواقع، وتفاعل رشيد مع مستجداته، وانضباط علمي رصين بالمنهج الصحيح، مشيرًا إلى أن الفتوى لم تعد مجرد استجابة لحادثة أو سؤال، بل أصبحت فاعلًا محوريًّا في ضبط حركة المجتمعات، وصناعة الاستقرار، وبناء السِّلم الأهلي، وهو ما يحتم على المفتين والمؤسسات الإفتائية أن يطوّروا أدواتهم وخطابهم بما يواكب تحولات العصر وتعقيداته.
جاء ذلك خلال الكلمة التي ألقاها اليوم الإثنين، في ندوة «مختبر الإفتاء» التي تنظمها هيئة الإفتاء بسنغافورة، بمشاركة عدد من المفتين والعلماء من مختلف دول العالم، ضمن مسار علمي رائد يهدف إلى تبادل الخبرات بين الجهات والمؤسسات الإفتائية، وإتاحة المجال للتلاقي العلمي وتطوير الأداء الإفتائي بما يتوافق مع خصوصيات المجتمعات وواقعها.
وأوضح المفتي، أن المؤسسات الدينية أصبحت مطالبة أكثر من أي وقت مضى بتعزيز آليات التعاون العلمي، والتكامل الفقهي والإفتائي، في مواجهة خطاب العنف والكراهية، ومحاصرة تيارات التشدد والانغلاق، التي باتت تهدد بنية المجتمعات واستقرارها الداخلي، مؤكدًا أن وحدة المقاصد الدينية العليا يجب أن تكون الإطار المرجعي المشترك الذي يحكم أي اجتهاد أو فتوى تصدر عن الجهات المختصة، مشيدًا في هذا السياق بتجربة سنغافورة المتميزة في حفظ التوازن المجتمعي، وصيانة التعددية الدينية والثقافية، وهو ما يعكس وعيًا حضاريًّا ورؤية استشرافية لواقع العالم وتحدياته المستقبلية.
وأضاف مفتي الجمهورية، أن الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم تبنّت خلال السنوات الماضية رؤية شاملة تهدف إلى تطوير الخطاب الإفتائي، من خلال برامج التدريب والتأهيل، ومراكز الرصد والتحليل، والمراكز البحثية المتخصصة، إيمانًا منها بأن صناعة الفتوى لا تقتصر على الجانب النظري فحسب، بل تحتاج إلى دراسة متأنية للواقع وتحليل دقيق للمستجدات، مؤكدًا أن تجربة «مختبر الإفتاء» تمثل خطوة نوعية في هذا المسار، بما يتيح بناء خطاب ديني يتسم بالوعي والانفتاح، ويعالج قضايا الواقع بعيدًا عن الجمود أو الانفلات، ويتصدى للأفكار المتطرفة بأساليب علمية رصينة، تستند إلى أصول الشرع وقيم العقل والعصر معًا.
ونوّه، إلى أن المؤسسات الدينية اليوم ليست مجرد منصات للتعليم أو الإفتاء فحسب، بل هي مؤسسات استراتيجية تسهم في توجيه الوعي، وتشكيل الرأي العام، وتحقيق الأمن الروحي والاجتماعي، مشددًا على أن دار الإفتاء المصرية حرصت على أن تتحول من مجرد جهة تُسأل وتُجيب إلى مؤسسة بحثية معرفية لها حضور علمي وتأثير دولي واسع النطاق، وهو ما يعكسه التعاون البنّاء مع الدول الإسلامية، وفي مقدمتها سنغافورة، التي أثبتت أنموذجًا رائدًا في التنسيق والعمل المشترك من أجل ترسيخ ثقافة الاعتدال والعيش المشترك.
وتناول مفتي الجمهورية في كلمته، أبرز التحديات الجسيمة التي تواجه الخطاب الإفتائي المعاصر، مشيرًا إلى أن من أخطرها، تصدُّر غير المتخصصين لهذا المجال دون تأهيل شرعيّ منضبط، وهو ما يؤدي إلى تشويه صورة الإسلام وإثارة الفوضى في المجتمع، إلى جانب فوضى الفتاوى في الواقع الافتراضي، التي تُنشر دون أهلية علمية، وتُستخدم أحيانًا كأدوات للإفساد باسم الدين. كما حذّر فضيلته من الفتاوى التي تصدر عن جماعات العنف والتطرف، والتي شرعت التكفير والعنف واستباحت الدماء تحت مسميات دينية مزيفة.
وأشار أيضًا إلى خطورة التساهل والتشدد في الفتوى، باعتبارهما مسلكين يخلان بوظيفة الإفتاء الشرعية، إلى جانب ضعف التأهيل العلمي والروحي لدى بعض من يتصدّرون للإفتاء، وغياب المرجعية المؤسسية الموحَّدة في عدد من المجتمعات، مما أتاح المجال للفوضى الإفتائية وأفقد الناس الثقة في الخطاب الديني الرشيد، وهو ما يستوجب مضاعفة الجهود لإعادة الاعتبار للمؤسسات الرسمية وتكثيف برامج التأهيل والرقابة والمواكبة.
وفي ختام كلمته، عبّر المفتي، عن تقديره العميق للجهود المبذولة من قبل المؤسسات الدينية في سنغافورة، وحفاوة الاستقبال والتنظيم، مؤكدًا أن مثل هذه المبادرات تعكس إدراكًا عميقًا لحيوية الدور الديني في صناعة السلام العالمي، وترسيخ قيم الأخوة الإنسانية، والتعاون الحضاري، وأن "مختبر الإفتاء" بما يحتويه من أنشطة وبرامج ومداولات علمية، يمثّل منصة علمية مرموقة تسهم في بناء كوادر علمية قادرة على فهم العصر، وتقديم الفتوى بمنهج وسطي راشد، يجمع بين أصالة المرجعية وجِدّة الواقع، ويحمل في مضمونه رسالة السلام، وكرامة الإنسان.
وتأتي مشاركة مفتي الجمهورية في هذه الندوة، تأكيدًا على الدور الريادي لدار الإفتاء المصرية في تعزيز الحضور العلمي، والتنسيق الإفتائي بين مختلف الجهات المعنية بالشأن الديني، وإسهامًا فعّالًا في بناء الجسور الفكرية بين المجتمعات الإسلامية حول العالم، وتعميق مفاهيم الاعتدال والتسامح، ونقل التجربة المصرية الرائدة في مجال الإفتاء ومواجهة التطرّف، وهو ما يتكامل مع رؤية الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم نحو ترسيخ خطاب ديني رشيد يخدم حاضر الأمة ومستقبلها، ويُسهم في بناء عالم أكثر أمنًا وتفاهمًا وسلامًا.
اقرأ أيضاًمفتي الجمهورية يدين التفجير الإرهابي الذي استهدف كنيسة «مار إلياس» بدمشق
مفتي الجمهورية يبحث مع وزير الأوقاف الجزائري سبل تعزيز التعاون في مجالات الإفتاء
المفتي: القرآن لم يقتصر في خطابه على تزكية النفس بل صاغ منظومة متكاملة لبناء الإنسان