اختار المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي دائما أن يسير عكس التيار، فاستبعد القصص الناجحة والشهيرة من قاموسه السينمائي، واختار الحكايات الثورية والمفصلية في تاريخ أميركا، ليسلط عليها الضوء، وكان قادرا على المواءمة بين وجهة نظره ووجهة نظر المنتجين الذين يهمهم العائد المادي للفيلم في المقام الأول، إذ يعد سكورسيزي نفسه راوي قصص قبل أي شيء.

قرر سكورسيزي منذ بدايته أن يركز على الصراعات والخلافات والمآسي التاريخية والوجه الخفي لأميركا، وأن يأخذ الجمهور في رحلات في أفلام "الويسترن" والعصابات؛ مثل "عصابات نيويورك" (Gangs Of New York)، و"كازينو" (Casino)، و"سائق التاكسي" (Taxi Driver)، وكانت جميعها هوليودية لكنها بمذاق سكورسيزي خالص.

ويقدم مارتي -كما يدعوه أصدقاؤه- فيلمه الجديد "قتلة زهرة القمر" (Killers Of the Flower Moon) المقتبس عن كتاب واقعي للكاتب الأميركي ديفيد غران، والذي يحكي قصة قبيلة الأوساج الهندية التي عاشت في أوكلاهوما في عشرينيات القرن الماضي، وقصة هجوم الرجال البيض عليهم بعد أن ظهر النفط في أراضيهم.

انتظار طويل من الجمهور

كان من المتوقع أن يعرض فيلم "قتلة زهرة القمر" عام 2022، لكن سكورسيزي أوضح أن الفيلم لن يكون جاهزا قبل عام 2023. وبالفعل تأجل إصداره لبداية العام الحالي، ثم تأجل مرة ثانية ليقال إنه سيعرض في مهرجان "كان" في مايو/أيار 2023، قبل أن يتأجل مرة أخرى.

ومن المفترض أن يعرض الفيلم في أكتوبر القادم. والعمل من بطولة أيقونات سكورسيزي المفضلة ليوناردو دي كابريو وروبرت دي نيرو، بالإضافة إلى ليلي غلادستون وجيسي بليمونز بطل فيلم "أفكر في إنهاء الأشياء" (I’m Thinking of Ending Things)، على أن يكون أغلى فيلم صور على الإطلاق في أوكلاهوما بميزانية تقدر بـ200 مليون دولار.

لماذا أعاد سكورسيزي كتابة الفيلم؟

بعد الانتهاء من الفيلم، قرر سكورسيزي إعادة كتابته مجددا، وقال في حديث مع مجلة "تايم" إنه عندما أعاد النظر فيه اكتشف أنه صنع فيلما يدور حول وجهة نظر الرجال البيض، وهو الذي اختار القصة في الأساس ليعرض وجهة نظر السكان الأصليين (الهنود الحمر) الذين قتلوا على يد المستوطنين البيض في عشرينيات القرن الماضي.

في البداية، ركز سكورسيزي على شخصية دي كابريو بصفته رئيس مكتب التحقيقات الفدرالي المشتبه فيه في جرائم قتل الهنود من قبيلة أوساج، لكنه قرر بعد ذلك إعادة كتابة الحكاية بالكامل؛ مما أدى إلى ظهور ما يشبه فيلما جديدا أو نسخة مختلفة من الفيلم، تحكي القصة من وجهة نظر قبيلة أوساج سكان أوكلاهوما الأصليين الذين واجهوا تحديات وظلم وأجبروا على مغادرة أرض أجدادهم بسبب سياسات الولايات المتحدة الأميركية المجحفة ضدهم.

تدور أحداث الفيلم في أواخر القرن 19، حين اكتشفت كميات هائلة من احتياطي النفط في أراضي السكان الأصليين، فأصبحوا أثرياء فجأة، لكن هذا الثراء لم يكن سوى نقمة جديدة عليهم؛ إذ عرضهم للاستغلال ومحاولات الاستفادة من ثرواتهم وسرقتهم والتلاعب بهم والسيطرة عليهم من أجل الثروة.

وفي بداية العشرينيات، انتشرت حالات القتل والاختفاء بين أفراد قبيلة أوساج في ظروف غامضة، وعرفت هذه الجرائم "بجرائم أوساج" أو "عهد الإرهاب"، وكان سببها الرغبة في تجريد السكان الأصليين من ثرواتهم.

قصة جديدة

رغم محاولات سكورسيزي والكاتب إريك روث أن يقدما القصة الواقعية لقبيلة الأوساج، إلا أنهم -من دون قصد- قدموا الحكاية من وجهة نظر ديفيد غران، التي تروي وجهة نظر المحقق الرئيسي في القضية توم وايت الذي كان من المقرر أن يلعب دوره ليوناردو دي كابريو.

قرر سكورسيزي تغيير ذلك البناء الدرامي وإعادته بالكامل والتركيز على قبيلة الأوساج ورواية الحكاية من وجهة نظرهم، وبالتالي تغيرت بعض الأدوار في الفيلم، وأهمها دور دي كابريو الذي تحول من المحقق الفدرالي إلى دور إرنست بوكهارت؛ أحد قدامى المحاربين في الحرب العالمية الأولى، الذي تزوج من مولي (ليلي غلادستون) وهي امرأة من قبيلة الأوساج، ليسهل عليه التخطيط لسرقة ثرواتهم. أما دور المحقق الفدرالي توم وايت فقد تحول إلى الممثل جيسي بليمونز.

قالت ليلي غلاديستون إن الفيلم قبل التعديل كان منصبا على مكتب التحقيقات الفدرالي، لكن مع التعديلات لم يعد يحكي قصة "المنقذ الأبيض" للقبيلة؛ وكأن الأوساج يقولون "هيا لمساعدتنا". ويبدو أن سكورسيزي كان متفقا مع هذا المعنى، وأعاد كتابة السيناريو حتى لا تروى القصة بالكامل من وجهة نظر الرجل الأبيض.

ذكر دي كابريو في حديث له مع موقع "ديد لاين" أن العبيد المحررين أنشؤوا اقتصادهم الخاص، وظهرت الأوساج كأمة غنية، لكن مع صعود حركة "كو كلوكس كلان" المتطرفة، التي كانت تسعى لتحقيق أهداف أجندة التفوق الأبيض من خلال العنصرية والإرهاب، تحولت قبيلة الأوساج لضحية لهذه الحركة وهو ما حاول سكورسيزي إظهاره في النسخة الجديدة من الفيلم.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: من وجهة نظر دی کابریو

إقرأ أيضاً:

"السينتينليون".. قبيلة معزولة تواجه خطر الانقراض بسبب تطفل الغرباء

تعيش قبيلة « السينتينليون » بجزيرة « نورث سينتينل » النائية، إحدى جزر أندمان الهندية الواقعة بخليج البنغال، حياة بدائية منعزلة تماما عن العالم الخارجي، إلا أن محاولات الغرباء المتكررة للتطفل على حياتهم والتواصل معهم تشكل خطرا وجوديا يهدد بانقراضهم.

السائح والمؤثر الأمريكي ميخايلو فيكتوروفيتش بولاكوف، حاول في مطلع أبريل الماضي، الوصول إلى جزيرة نورث سينتينل، متحديًا الحظر الصريح الذي فرضته السلطات الهندية لحماية السكان المحليين بالجزيرة. ورغم ذلك، سبح بولاكوف حتى شاطئ الجزيرة، حيث أطلق صافرة لأكثر من ساعة، في محاولة للفت انتباه أفراد القبيلة والتواصل معهم.

وفي محاولة لكسب تفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، ترك بولاكوف على الشاطئ صندوقًا يحتوي على مشروبات وجوز الهند، وسجّل لحظات زيارته بالفيديو، متجاهلًا التحذيرات التي تؤكد أن أي تواصل مع هذه القبائل قد يشكّل خطرًا وجوديًا عليهم، بسبب غياب المناعة لديهم ضد كثير من الأمراض شائعة مثل الحصبة والأنفلونزا.

وألقت السلطات الهندية القبض على بولاكوف، في حادثة أعادت إلى الأذهان قصة المبشر الأمريكي جون ألين تشاو، الذي قُتل على يد سكان الجزيرة عام 2018، في مشهد مشابه يعكس النتائج الكارثية لمثل هذه المحاولات غير المسؤولة.

وتضم جزر أندمان ونيكوبار العديد من القبائل المعزولة مثل، « غريت أندامانيز »، و »جاروا »، و »أونغه »، و »السينتينليون »، و »نيكوباريز »، و »شومبن ». وقد تسببت محاولات التواصل السابقة مع هذه القبائل في كوارث حقيقية؛ إذ انقرضت قبيلة « جانغيل »، بينما تراجع عدد سكان قبيلة « أونغه » بنسبة تجاوزت الـ 85 بالمئة نتيجة انتقال الأمراض إليهم.

في هذا السياق، قال « كالم راسل »، من منظمة « سيرفايفل إنترناشونال » (Survival International)، وهي منظمة معنية بالدفاع عن حقوق الشعوب الأصلية المعزولة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في معرض تعليقه على محاولة السائح والمؤثر الأمريكي بولاكوف، الوصول إلى جزيرة « نورث سينتينل »، رغم الحظر، إن ما قام به بولاكوف يُعد « خطيرًا للغاية ».

وأوضح راسل في حديث للأناضول أن قبائل مثل السينتينليون لا تملك مناعة ضد أمراض شائعة في العالم الخارجي مثل الحصبة والإنفلونزا، ولذلك فإن مجرد اقتراب شخص يحمل أحد هذه الفيروسات يمكن أن يؤدي إلى كارثة صحية تودي بحياة عدد كبير من أفراد القبيلة.

وأشار إلى أن السبب الرئيسي وراء سلوك الحذر والعداء الذي يظهره أفراد القبائل تجاه الغرباء هو الخوف من الأمراض التي قد يحملونها، والتي أثبت التاريخ أنها قادرة على إفناء مجتمعاتهم بالكامل.

وأضاف راسل أن هناك حالات سابقة لزوار قُتلوا على يد السكان المحليين، لأنهم اعتبروا أنفسهم في موقف دفاعي لحماية أراضيهم وهويتهم من التعدي الخارجي، مؤكدًا أن هذا الخوف لا يزال قائمًا حتى اليوم.

ووصف الدخول إلى الجزيرة دون إذن بأنه تصرف « متهور وخطير وقاسٍ »، داعيًا السلطات المحلية إلى اتخاذ خطوات أكثر صرامة لمنع تكرار مثل هذه التصرفات.

لا أحد يرغب في أن يطرق الغرباء بابه فجأة

وفي حديثه عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، قال راسل: « أن يقوم البعض بمخاطرة كهذه فقط من أجل الحصول على بعض الإعجابات على تيك توك أو زيادة عدد المشتركين على يوتيوب، فهذا تهديد كبير يجب أخذه على محمل الجد ».

وذكّر راسل بمقتل جون ألين تشاو، مؤكدًا أن السبب الرئيسي في تكرار مثل هذه الحوادث هو ضعف تطبيق القوانين القائمة، وأنه لو كانت القوانين تُنفذ بصرامة لما تمكن أمثال تشاو أو بولاكوف من الوصول إلى هذه المناطق المحظورة.

وتابع قائلاً: « لا حاجة لأن نعرف أي شيء عن السينتينليون. كل ما يجب فعله هو تركهم يعيشون كما يشاؤون. هل تود أن يأتي غرباء إلى باب منزلك فجأة ويطرقونه أو يضربون نافذتك؟ هذا بالضبط ما يواجههه هؤلاء السكان. تخيل أن تكون في وضع صحي هش أو أنك تعيش مع أفراد كبار في السن من عائلتك، إنهم يواجهون الخطر ذاته يوميًا ».

وأشار راسل إلى أن معظم ما يُتداول عن قبائل مثل السينتينليون في الإعلام وعلى الإنترنت عبارة عن شائعات ونظريات مؤامرة وأفكار مسبقة، تُغذيها عقلية استعمارية تنظر إلى هذه الشعوب على أنها متخلفة أو بدائية، وتمنح لنفسها حق اقتحام حياتهم لأغراض ترفيهية أو فضولية.

محاولات التواصل تعكس فكرًا استعماريًا

وأكد راسل أن كل محاولة تواصل مع قبائل معزولة تنطوي على احتمال وقوع كوارث، مشيرًا إلى تجربة عالمة الأنثروبولوجيا أنستيس جاستن (Anstice Justin)، التي حاولت بين عامي 1970 و1990 التواصل مع قبيلة السينتينليون، لكنها كانت تُقابل في كل مرة بسهم يُطلق نحوها من قبل أفراد القبيلة، في إشارة واضحة إلى رفضهم لأي تقارب أو اقتراب من الغرباء.

وأضاف: « السينتينليون لم يكونوا عدائيين بطبعهم، بل كانوا يدافعون عن أنفسهم وعن أرضهم، وهذا ما نراه بشكل متكرر في جميع القبائل المعزولة حول العالم ».

وأشار إلى أن أنستيس جاستن، التي كانت تؤيد سابقًا فكرة التواصل، أصبحت الآن من أبرز من يحذرون من خطورته، بعد أن أدركت أن نتائجه غالبًا ما تكون مأساوية وتفوق أي منفعة محتملة.

وشدد راسل على أن « مجرد التفكير بأن للغرباء الحق في دخول أراضي هذه الشعوب دون إذن منهم، هو إعادة إنتاج مباشرة لذهنية استعمارية قديمة، لا تزال تجد لها مكانًا اليوم عبر أشكال جديدة من التعدي الثقافي والرقمي ».

وفي ختام حديثه، دعا راسل وسائل الإعلام الدولية إلى تحمل مسؤولياتها في نشر الوعي حول قضايا الشعوب المعزولة، محذرًا من أن مصير قبائل مثل جانغيل، التي انقرضت بالكامل في أوائل القرن العشرين، قد يتكرر مع قبائل مثل السينتينليون، ما لم يتم احترام حقهم في العزلة والخصوصية والحياة بكرامة.

مقالات مشابهة

  • قبائل دهم تحتشد في العبر مطالبة بكشف قتلة قيادي في مقاومة صعدة
  • إنهاء قضية قتل في قبيلة نهم دامت 8 سنوات
  • المؤشرات السياسية للبلدية بعيون غربية
  • أطباء يعيدون كتابة الحمض النووي لإنقاذ رضيع
  • المغرب بعيون إسكندرانية.. رحلتي في بلد عرفته قبل أن أراه
  • أسترالي يدخل السجن مرتين بسبب خطأ في كتابة اسمه!
  • وكالة يوروبول تحذّر: قتلة مأجورون من الأطفال ينتشرون في أوروبا
  • شاب يتعرض للسجن بسبب خطأ في كتابة اسمه
  • "السينتينليون".. قبيلة معزولة تواجه خطر الانقراض بسبب تطفل الغرباء
  • اليمن قبيلة تريد ان تكون دولة