رسالة إلى اليسار الغربي
لم تُفتح معركة عنوانها تغيير نظام أحاديّ القطبية الرأسمالي الإمبريالي العولمي الأمريكي، على المستوى الشعبي أو اليساري في الغرب.
ينبغي إبقاء النضال من أجل التحرّر الوطني، ومن أجل العدالة الاجتماعية، ومناهضة المظالم الاقتصادية والاجتماعية في صلب تلك الأممية.
ما ليس مفهوما كيف يسقط النضال ضد النظام الرأسمالي الإمبريالي، وبتطوراته الجديدة في زيادة الهوّة الاجتماعية على المستويين الداخلي والعالمي؟
لا مفر من خلال دراسة دقيقة للتناقضات بالعالم أن يُحدد التناقض الرئيس، وهو اليوم أحاديّة القطبية الأمريكية التي تفرض هيمنتها العالمية على كل الدول.
من المفهوم أن يتهاوى تبني "الاشتراكية العالمية" بعد ما حدث للمعسكر الاشتراكي، والدول الاشتراكية، وبعدما أحدثته الصين من تمازج اشتراكي رأسمالي في نظامها!
سؤال محيّر وموجّه إلى اليسار الغربي: لماذا أسقط مشروع النضال ضد الرأسمالية الإمبريالية؟ ولماذا لم يلتفت لنشوء نظام عالمي أحاديّ القطبية الأمريكية، ينفرد بهيمنته المتوحشة؟!
لم يعد هناك مشروع أممي ثوري، كما طويت أعلام حركات التحرر الوطني، بما فيها حركة عدم الانحياز، رغم وجود حركات يسارية بالغرب دون مشروع ثورة عالمية ولا ذكر لـ"الأممية".
اليسار العالمي وقوى المقاومة والحركات الشعبية بالعالم الثالث يجب أن يدخلوا في حوارات معمقة لتشكيل أممية عالمية جديدة تطيح بأحاديّة القطبية الأمريكية لأجل عالم أكثر عدالة.
* * *
هل من أممية جديدة؟
لو أخذنا القرن العشرين، وامتداده إلى العقود الثلاثة الأولى من القرن الواحد والعشرين، أي إلى 2023، وما ساد من مشروع ثورة عالمية، لوجدنا العالم اليوم يفتقر لهذا المشروع، أو في الأدق، لوجدناه يفتقر إلى من يحملون مثل هذا المشروع. فما تفسير ذلك؟ أو ما هي القراءة للتجربة العالمية؟ أين أنتم؟
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومع البيان الشيوعي الذي وقعه كارل ماركس وفريدريك إنجلز، أعلن عن ولادة مشروع الأممية الأولى: الثورة العالمية ضد الرأسمالية، وقد أوكلاها إلى الطبقة العاملة في أوروبا وأمريكا. وقبل أن ينتهي القرن التاسع عشر نشأت الأممية الثانية التي تخلت عن الأولى.
لكن مع ثورة 1917 في روسيا وولادة الاتحاد السوفييتي، تكرست الأممية الثالثة التي عبّر عنها لينين، ثم الكومنترن الشيوعي، ثم وجدت هذه نفسها تطوي أعلامها مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بنشوء المعسكر الاشتراكي، وتعزيزه بنجاح الشيوعيين في الصين 1949.
لكن قبل أن تنتهي خمسينيات القرن العشرين، ولدت إلى جانب عالمية، أو أممية، المعسكر الاشتراكي، عالمية حركات التحرر الوطني لشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقد ترجمت نفسها بداية من خلال مؤتمر باندونغ 1955، ثم حركة دول عدم الانحياز. وقد سارع الماركسيون إلى إلحاق ثورة التحرّر الوطني، كجزء من الثورة البروليتارية العالمية (الأوروبية الأمريكية أساسا)، ولهذا طبعا حديث آخر.
رغم الانقسام الخطير الذي وقع في صفوف المعسكر الاشتراكي: الانقسام الحاد بين الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو من جهة، والصين من جهة أخرى، وتبعثر مواقف عدد من الدول بينهما؛ كفيتنام وكمبوديا وكوريا الشمالية وكوبا وألبانيا، وذلك مع بداية الستينيات.
ولكن بقيت ثمة عالمية بخطوط عريضة ضد الرأسمالية والإمبريالية تشمل الدول الاشتراكية، كما تشمل تيارات عرفت باسم قيادات اليسار الجديد، في ستينيات القرن العشرين، وبعضها استمر حتى اليوم، وإن بصيغ أخرى غير تلك التي في الستينيات.
حدث زلزال كبير في العام 1991 قبل نهاية القرن العشرين، فقد انهار المعسكر الاشتراكي من خلال انقلابات رأسمالية مؤمركة. وكانت الصين أيضا، بعد وفاة ماو تسي تونغ، وتسلم دينغ هسياو بينغ قيادتها، قد سحبت من أجندتها مشروع محاربة الرأسمالية العالمية والإمبريالية، أو مشروع الثورة العالمية، وقرينها الآخر ثورة شعوب العالم الثالث، لكن مع اعتبار النظام الصيني نظاما اشتراكيا، وفقا للخصوصية الصينية.
هذا الزلزال على الطرف الآخر، أعاد تشكيل النظام العالمي على أساس أحادية القطبية، المتمثلة بأحادية الهيمنة الأمريكية عسكرياً واقتصاديا وماليا وحضاريا وثقافيا، وطويت أعلام الماركسية- اللينينية السابقة.
ولم يعد هناك من مشروع أممي ثوري، كما طويت أعلام حركات التحرر الوطني، بما فيها أعلام حركة عدم الانحياز، رغم وجود حركات يسارية في الغرب، ولكن من دون مشروع لـ"الثورة العالمية"، ولا حتى لذكر "أممية".
صحيح أن فكرة نشوء دول كبرى متعدّدة بدأت إرهاصاتها تتحرك، بصورة مبكرة، في النصف الثاني من التسعينيات، وردّد صداها جزئيا كل من جاك شيراك (فرنسا)، ويفغيني بريماكوف (رئيس وزراء روسيا 1998)، وأصوات خجولة من الصين.
على أن النظام العالمي أحاديّ القطبية الأمريكية بقي على عرشه مع قليل أو كثير من الإزعاج؛ من إيران وحركات إسلامية مقاوِمة.
المهم هنا، لم تُفتح معركة عنوانها تغيير نظام أحاديّ القطبية الرأسمالي الإمبريالي العولمي الأمريكي، على المستوى الشعبي أو اليساري في الغرب!
هذا إلى جانب جنوح عدد من حركات اليسار لتقاوم من مواقع البيئة، و"الأخضر" أو الخضر، ولكن أيضا باهتزاز مع أول تجربة نجاح برلماني هنا وهناك. وذلك مع التحفظ من التعميم، إذ لا بد من أن يكون هناك مَن أو بعض من لا ينطبق عليه أو عليهم هذا التعميم.
على أن السؤال المحيّر هنا، والموجّه إلى اليسار في الدول الرأسمالية الغربية، لماذا أسقط مشروع النضال ضد الرأسمالية الإمبريالية العالمية عموما؟ ولماذا لم يلتفت إلى نشوء نظام عالمي أحاديّ القطبية الأمريكية، يبسط هيمنته المنفردة النهبية المتوحشة، حتى على البلدان الرأسمالية الأخرى، عسكريا وسياسيا واقتصاديا وماليا. طبعا، فضلا عن هيمنته على العالم كله عموما.
إذا كان من المفهوم أن يتهاوى تبني "الاشتراكية العالمية" بعد الذي حدث للمعسكر الاشتراكي، ولعدد من الدول الاشتراكية، وبعدما أحدثته الصين من تمازج اشتراكي رأسمالي في نظامها، وأدى بالكثيرين إلى اعتباره انحرافا نحو الرأسمالية، من دون أن يلفتهم قيادة حزب شيوعي ماركسي- لينيني- ماوي- بتطوير شيوعي صيني!
لكن ما ليس مفهوما، كيف يمكن أن يسقط النضال ضد النظام الرأسمالي الإمبريالي، وبتطوراته الجديدة في زيادة الهوّة الاجتماعية على المستويين الداخلي والعالمي. وقد أصبح في عهد الأحاديّة الأمريكية يحمل من النقد ما يزيد أضعافا، مما وجّه في السابق للأنظمة الرأسمالية الإمبريالية الغربية.
هذا التساؤل يجب أن يواجه الأجيال القديمة الجديدة، أو الجديدة الجديدة من اليسار الغربي، لكي يُطرح مشروع جديد لعالمية أممية يتصدّى لنظام عالمي أحاديّ القطبية الأمريكية.
وقد أصبح في مصلحة كل شعوب العالم، إسقاطه في سبيل إقامة نظام عالمي جديد، يشمل التعدّدية القطبية العالمية والإقليمية، وبمساواة مع كل شعوب العالم، ويكون أقرب للعدالة والمساواة والحرية، ويمنع استمرار الظلم العالمي الذي مارسته الرأسمالية الإمبريالية على شعوب العالم بمراحلها المختلفة.
ولا سيما مرحلة أحاديّة القطبية التي استفردت دولة رأسمالية كبرى واحدة في اضطهاد كل دول العالم ونهبها، بما فيها الدول الرأسمالية الغربية، واليابان وعشرات الدول الأخرى.
إن الأحاديّة القطبية الأمريكية منذ 1991 حتى اليوم، أخذت تشكل خطرا عسكريا واقتصاديا وماليا وبيئيا ومناخيا، وهي تدفع اليوم الحرب في أوكرانيا إلى حافة الحرب النووية، وذلك بغض النظر عن تفاصيل تلك الحرب، وكيف تقوّم.
صحيح أن ما من دولة كبرى، إلّا وعليها الكثير، وكذلك أكثر دول العالم، ولكن لا يجوز وضعها جميعا في بوتقة واحدة، أو المساواة فيما بينها.
لذا لا مفر من خلال دراسة دقيقة للتناقضات في العالم أن يُحدد التناقض الرئيس، وهو اليوم يتمثل بأحاديّة القطبية الأمريكية التي تفرض هيمنتها العالمية على كل الدول.
وأدخلت العالم في مخاطر بعضها يمسّ الوجود الإنساني نفسه، مما يتوجب أن تتحدّ شعوب العالم، بما في ذلك فئات من الشعب الأمريكي ضد هذه الأحاديّة في سبيل نظام عالمي جديد تتساوى كل دوله في إدارته، ويقوم على أساس الالتزام بالقانون الدولي، وبمبادئ ميثاق هيئة الأمم المتحدة، مع تغيير هيكليتها الظالمة، وتغيير موقعها ليكون في بلد غير الولايات المتحدة.
بالنسبة إلى اليسار العالمي، كما بالنسبة إلى قوى المقاومة والحركات الشعبية في العالم الثالث، يجب أن يدخلوا في حوارات معمقة لتشكل أممية عالمية جديدة، تطيح بأحاديّة القطبية الأمريكية، في سبيل عالم أكثر عدالة لشعوبه كافة، ولدوله كبيرها ومتوسطها وصغيرها.
وذلك مع إبقاء النضال من أجل التحرّر الوطني، ومن أجل العدالة الاجتماعية، ومناهضة المظالم الاقتصادية والاجتماعية في صلب تلك الأممية، فيما كل بلد يسعى للعدالة الاجتماعية، ومن أجل عالم أقل فروقا في المعيش ومستوى الحياة، والخدمات الصحية والاجتماعية، والفرص التعليمية، عالم لا تحتكر قيادته دولة واحدة، ولا حتى قبضة دول.
إن الظاهرة الجديدة في عالمنا على المستوى الجيوسياسي الاستراتيجي هو هيمنة أحاديّة القطبية الأمريكية، على النظام العالمي الراهن، وريث عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة ابتداء من 1991. ولا يغيّر من هذه الظاهرة تحالف دول الناتو واليابان وغيرها معه، وذلك رغم هيمنته عليها وتبعيتها له.
أما الظاهرة العالمية الثانية النابعة من الأولى، ومنبثقة عنها، فهو خضوع الرأسماليات العالمية الكبرى لأحاديّة الرأسمالية الأمريكية التي أخضعتها، وجعلت الدولار العملة المسيطرة الأولى في العالم.
*منير شفيق سياسي ومفكر فلسطيني
المصدر | عربي21المصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: أمريكا اليسار تحالفات الهيمنة الغرب الصين الأممية الرأسمالية الإمبريالية النظام العالمي الثورة العالمية القرن العشرین ة الاجتماعیة شعوب العالم ة الأمریکیة إلى الیسار نظام عالمی النضال ضد ر الوطنی من خلال من أجل بما فی
إقرأ أيضاً:
دمشق تستعد لاستقبال «برج ترامب» الذهبي.. مشروع فاخر يعيد سوريا إلى خريطة الاستثمار العالمية
سوريا تدخل حقبة جديدة من الاستثمار والتعافي الاقتصادي مع إعلان مجموعة “تايغر” العقارية إطلاق مشروع “برج ترامب” في دمشق، الذي يعد واحدًا من أضخم المشاريع العقارية في المنطقة ويحمل اسمًا لامعًا يعكس توجهات جديدة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، هذا المشروع الفاخر الذي يتجاوز 45 طابقًا ويزينه الذهب، ليس فقط تحفة معمارية، بل رسالة أمل وتفاؤل تعيد سوريا إلى خريطة الاستثمار العالمية بعد سنوات من الصراعات والعقوبات.
ووفقًا لصحيفة “الغارديان” البريطانية، يبلغ ارتفاع “Trump Tower Damascus” خمسة وأربعين طابقًا، وتقدر تكلفته المحتملة بين 100 إلى 200 مليون دولار، مع اسم Trump مطبوع بالذهب على قمته، في نصب معماري براق تأمل سوريا أن يعيدها إلى الساحة الدولية بعد سنوات الحرب المدمرة.
وقال وليد محمد الزعبي، رئيس مجموعة “Tiger Group” التي تتخذ من الإمارات مقرًا لها وتقدر قيمتها بنحو 5 مليارات دولار، والمطور الرئيسي للمشروع: “هذا المشروع يمثل رسالتنا – بأن هذا البلد، الذي عانى طويلا وتعب شعبه على مدى سنوات، وخصوصًا خلال الأعوام الخمسة عشرة الأخيرة من الحرب، يستحق أن يتخذ خطوة نحو السلام”.
ويأتي اقتراح بناء البرج كجزء من مساع أوسع لاستقطاب اهتمام الإدارة الأمريكية، في وقت بدأت فيه الحكومة السورية الجديدة بالتحرك نحو رفع العقوبات الأمريكية وتطبيع العلاقات مع واشنطن. وترافقت هذه الخطوة مع عرض لتوفير وصول أمريكي إلى النفط السوري، وفرص استثمارية، إلى جانب تقديم ضمانات لأمن إسرائيل.
وأوضح الزعبي أن الدراسة الحالية تشمل عدة مواقع مقترحة، ويقترح حاليًا بناء 45 طابقًا، مع إمكانية تعديل العدد بحسب الخطط التنظيمية. كما بيّن أن تكلفة المشروع ستتراوح بين 100 و200 مليون دولار.
وبعد الحصول على التصاريح الرسمية من السلطات السورية، سيقوم الزعبي بالتواصل مع مؤسسة ترامب للحصول على حقوق الامتياز لاستخدام العلامة التجارية، مع العلم أن الصور الأولية التي نشرتها “الغارديان” تظهر نموذج المبنى دون شعار ترامب، لأن الموافقة على استخدام الاسم التجاري لا تزال قيد الإجراء.
وقدر الزعبي أن تستغرق أعمال البناء حوالي ثلاث سنوات بعد نيل الموافقات القانونية اللازمة من الحكومة السورية والحصول على حقوق العلامة التجارية من مؤسسة ترامب.
ويضم فريق “Tiger Group” ضمن مشروعه أحد قادة مشروع “Trump Tower Istanbul”، وقد نفذ الزعبي 270 مشروعًا عقاريًا في أنحاء مختلفة من الشرق الأوسط، ما يعكس خبرة كبيرة تدعم نجاح المشروع في دمشق.