الرئيس علي ناصر يكشف لأول مرة عن كتيبة السلام اليمنية وإرسالها إلى بيروت الحلقة(40)
تاريخ النشر: 9th, October 2023 GMT
إعداد / د. الخضر عبدالله:
بيروت مدينة الحضارة والثقافة
بعد ان تطرق الرئيس علي ناصر محمد حول علاقات اليمن الديمقراطي مع دولة السودان، يستدرك لنا في هذا العدد عن زيارته الاولى لدولة بيروت.. حيث قال مسترسلا في حديثه :"كانت أول زيارة لي لبيروت في عام 1968م. أقلعت بنا طائرة شركة باسكو العدنية (دي سي 6 ذات المحركات الأربعة) من القاهرة إلى بيروت، ودعاني كابتن الطائرة إلى قمرة القيادة لأشاهد بيروت من الجو وهي تتلألأ بأضوائها الجميلة، وعند الاقتراب منها قام بانحناءة إلى اليمين لنشاهد ساحل الجنوب اللبناني وجزءاً من الساحل الفلسطيني المحتل، وطلب مني مشاهدة الهبوط في مطار بيروت، ولكنني اعتذرت وانسحبت وعدت إلى مقعدي استعداداً للهبوط على أرض لبنان، جنة الله على الأرض كما كان يردد السيد زين باهارون رئيس وزراء عدن السابق ورئيس مجلس إدارة هذه الشركة الوطنية التي أطلق عليها اسم باسكو في أحد اللقاءات معه.
وكانت تلك أول مرة أزورها.
وواصل حديثه وقال:" لم أكن أعرف أحداً من هذه المدينة إلا محسن إبراهيم وشريف الأنصاري صاحب المكتبات التي تعاقد معه زميلنا عبد الله الأشطل لتصدير الكتب الماركسية اللينينية والماوية إلى حضرموت، وكنت قد التقيته في القاهرة وبيروت حيث كان يسأل في كل مرة عن عبد الله الأشطل خريج الجامعة الأميركية القادم من أديس أبابا، الذي كان على صلة به، لتزويده بآخر ما يصدر من كتب يسارية في بيروت والعالم... تذكرته وأنا أجول في شارع الحمرا لأول مرة، وتذكرت جورج حبش وهاني الهندي ووديع حداد وأحمد الخطيب وحامد الجبوري، والحكم دروزة وإميل البستاني ونايف حواتمة الذين عرفنا بيروت من خلالهم!!!!
هنا بيروت
وتطرق الرئيس ناصر وقال :" هذه بيروت إذاً، التي ارتبطنا بها عبر قيادة حركة القوميين العرب وفكرها وتنظيمها والكتب والصحف التي كانت تصدر عنها، ومنها تعلمنا الكثير دون أن نعرفها أو حتى نتعرف إليها إلا من خلال قادة الحركة في نهاية الخمسينيات. سألت نفسي وأنا أجول في بيروت وشوارعها وأزقتها، وخصوصاً عند المرور بالجامعة الأميركية والمستشفى الأميركي ورأس بيروت والروشة وصخرتها، أتعلمنا من بيروت أفضل ما فيها؟ وهل كان قادة الحركة جادين في أفكارهم وتنظيراتهم، أم أن هذه الأفكار كانت نوعاً من الترف الفكري لهؤلاء الطلاب الذين ينتمون بانحدارهم الطبقي إلى البرجوازية أصلاً وكانوا لا يمثلون طبقتهم؟ لم أكن أشك في سلوكهم وأخلاقهم الثورية، إذ كنت عضواً عادياً لم يتعرف بعد إلى دهاليز السياسة وأحابيلها، وشعرت بحيرة لا حدود لها عندما شاهدت بيروت وقارنتها بتنظيرات نايف حواتمة التي كان يسوقها لقيادة الجبهة القومية في عدن عشية الاستقلال... لم أجد وجه مقارنة، ولم أحصل كذلك على إجابات عن أسئلتي الكثيرة... ولكن تلك الأفكار فعلت فعلها في واقعنا اليمني وعلى المستويات كافة... على مستوى التنظيم والدولة والمجتمع. فالجبهة وقيادتها منقسمتان بين يمين ويسار، والدولة وقادتها مرتبكون من هذا الانقسام، والشعب الذي كان يردد في أولى أيام الاستقلال «كل الشعب قومية» بدأ ينسى تدريجاً هذه الهتافات والشعارات وينسى البسمة والفرحة تحت تأثير موجة اليسار المتطرف والخوف من المجهول. وبدأ بعض أئمة المساجد يرفعون أصواتهم ضد هذه الأفكار، والمنابر تهاجمها بعد أن كانت تلك المنابر تسند الجبهة ونضالها وتهاجم الاستعمار والاحتلال البريطاني. خلقت تلك الأفكار والأطروحات شرخاً وجرحاً عميقين في جسم الجبهة القومية والوحدة الوطنية والنظام الوطني. وأودت به في النهاية. ولكن بيروت، بيروت الثقافة والحضارة بريئة من كل ما جرى لنا في عدن بسبب التنظير المدمر لأولئك النفر.
كتيبة السلام
ويتابع الرئيس ناصر حديثه قائلا:" بعد 26 سنة زرت بيروت مجدداً عام 1992م (عبر البر مع كل من الدكتور عبد الحافظ نعمان، عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، والسفير محمد عبد الله الشطفة وسفير اليمن في بيروت عبد الله ناصر «الفاصوليا» الذي استقبلنا على الحدود السورية اللبنانية مع عدد من أعضاء السفارة والمرافقين اليمنيين والفلسطينيين الذين كانوا يوقفون أي سيارة تمر بالقرب منا ويخرجون بنادق الكلاشينكوف من شبابيك السيارات ويلوحون بها للتهديد والوعيد وأحياناً يتوقفون ويخرجون من السيارات وهم يحملون الكلاشينكوف لإيقاف السيارات، منظر لا أنساه في بلدٍ بدأ يتماثل للشفاء من جروح الحرب الأهلية. كانت الفوضى والقوة هي السائدة آنذاك) ها أنا ادخل بيروت وقد أصبح لدي الكثير من الأصدقاء والمعارف من جميع الأحزاب والشخصيات الذين زاروا عدن ، ففي عدن تغير كل شيء، وكذلك تغيرت بيروت الجميلة تماماً، التي تعني الربيع بالفينيقية. قال عنها الكاتب محمد حسنين هيكل: «إنها نافذة زجاجية معشقة وملونة في جدار عربي، وإذا خرق هذا الجدار وقع هذا الزجاج الجميل بين الجدار والنافذة والمشكلة أن أصحابها ممكن أن يدمروها»، وهذا ما حدث. كانت نتائج الاقتتالات هي الشاهد على ما أصابها. خلفت الحرب الأهلية اللبنانية أكثر من 150.000 قتيل، و17.000 مفقود إضافة إلى الجرحى والمصابين بعاهات، فضلاً عن الدمار الذي حلّ في لبنان بتدمير البنية التحتية وهجر مئات الآلاف من أبنائه له... آثار الحروب والصراعات العربية والإقليمية والدولية واضحة على ملامحها الخارجية، وحتى على تشكيلها الاجتماعي، حيث إن بعض القوى والأحزاب والشخصيات أصبحت محسوبة على دولة أو تنظيم خارجي ما، وهذا ما يضعف الولاء للوطن ويوهن الشعور الوطني، فتصبح هذه المجموعات والأحزاب أداة طيّعة لتنفيذ سياسة البلد المرتبطة به، سواء في لبنان أو خارجه أو في اليمن وغيرها، ويتحول بمرور الوقت إلى نوع من إدمان الولاءات الخارجية والارتهان بها، وسبّب ذلك الدمار الذي لحق ببيروت، فكل شيء تحطم ودمر العمران والإنسان... وبعض مبانيها وأحيائها عبارة عن أطلال وآثار الرصاص والقذائف على بادية جدرانها. كان منظّرو الحروب يلهون بأرواح الأبرياء، ما حَوّل لبنان إلى ساحة للصراع الإقليمي والدولي، ووصفها الرئيس الأميركي رونالد ريغان بأنها «ساحة المصالح الحيوية الأميركية».
قوات الدرع العربي
ومضى يقول :" وفي فترة الصراع جرى الاتفاق على إرسال قوات عربية سُمّيت حينذاك «قوات الردع العربية»، وقد أرسلت اليمن الديمقراطية قوات يمنية سميناها «كتيبة السلام»، واخترنا لها أفضل القيادات والجنود بقيادة الضابطين عبد الرحيم عتيق ومحمد عبد الله امزربة ، كان مواقع انتشار كتيبة السلام الجنوبية في عدة أحياء في بيروت ومقرها الرئيسي في حي الشياح. وفي خطوط التماس بين المتناحرين في (الأشرفية) بين المسيحيين والشيعة وفي صبرا بالقرب من السفارة الكويتية وفي الضاحية في منطقة صفير . وتمتعت هذه القوة بسمعة ممتازة ولم تشارك في حرب الطوائف والأحزاب، ولا في السطو والسلب والنهب بل كانت نموذجاً رائعاً لقوات السلام في هذا البلد الشقيق الذي عانى من تلك الصراعات الطائفية ، والحروب الفلسطينية والسورية والإسرائيلية وتدخلات حلف الأطلسي في الصراعات بقواته وحلفائه، والتي دفع ثمنها الكثير جراء العمليات الانتحارية الجريئة التي أفقدته مئات من الجنود والضباط الأمريكيين والفرنسيين، بما اضطرهم بعد ذلك للانسحاب.
المؤيد ومعارض لمشروع الدعم
وأشار في حديثه :" لم يقتصر دور النظام في عدن على إرسال الجنود والضباط للمشاركة في قوات الردع العربية وفي دعم المقاومة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، بل طالبنا بتقديم الدعم إلى الشعب اللبناني الذي فتح قلبه وأرضه للشعب الفلسطيني وتحمّل أعباءً كبيرة وخطيرة بسبب هذا الموقف. في قمة بغداد عام 1978 قدمنا مشروعاً إلى القمة لتقديم جزء من المساعدة المالية إلى سورية والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية قدّرت آنذاك بثلاثة مليارات وربع مليار دولار... وإلى لبنان أيضاً، وقد دار نقاش في المؤتمر استمرّ أكثر من ساعتين بين مؤيد ومعارض لمشروع الدعم، وكان السؤال لمن سيقدَّم هذا الدعم في ذروة الخلاف بين أطراف الصراع في لبنان؟ وأكدت حينذاك أن الدعم يجب أن يقدّم إلى الحكومة الشرعية في لبنان، بصرف النظر عن الخلافات بين الحكومة والمعارضة، وقد شكرني الرئيس إلياس سركيس على موقفي من القضية اللبنانية ودعم الشعب اللبناني الذي هو بحاجة إلى مثل هذه المساعدات وتحمّل الكثير بسبب موقفه وموقعه في المنطقة.
اغتيالات بيروت
واختتم الرئيس علي ناصر حديثه في هذا اللقاء بقوله:" كانت بيروت قد شهدت اغتيال الرئيس بشير الجميّل في 14 أيلول/سبتمبر 1982م على يد أحد عناصر الحزب السوري القومي الاجتماعي، وادعى آخرون أنهم هم الذين نفذوا عملية الاغتيال خوفاً من قيام نظام عسكري قوي في لبنان مرتبط بإسرائيل ومعادٍ للنظام في سورية، وكذلك كان الخوف من أن يبني جيشاً قوياً تحت قيادته وأن يقمع بقية القوى والميليشيات على الساحة اللبنانية، وأكمل الصورة الأستاذ كريم بقردوني حيث قال: «ينبع الخطر الأكبر من بشير الجميّل، فهو أقرب المسيحيين اللبنانيين إلى إسرائيل. وبشير الذي يحلم بخروج السوريين يرى أن السبيل إلى ذلك في مواجهة إسرائيلية سورية، وحال خروج السوريين سيوجه ضربة إلى آل فرنجية ويخضع منطقتهم ليحقق بذلك حملة توحيد المناطق المسيحية تحت سيطرته من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، بما فيها منطقة سعد حداد» . وبعد مقتله انتُخب أخوه أمين رئيساً للجمهورية، وفي عهده عُقد اتفاق 17 أيار عام 1983 بين لبنان و«إسرائيل»، الذي لم يُعمّر طويلاً فأُسقط عام 1984.
شارون في بيروت
ويشرح الرئيس ناصر تفاصيل دخول شارون وبعض قادة اليهود إلى قصر بعبدا في لبنان .. حيث قال :" دخل شارون وبعض قادة إسرائيل إلى القصر الرئاسي في بعبدا، وكانت بذلك أول عاصمة عربية تسقط بيد القوات الإسرائيلية بعد القدس. حاولنا من عدن المساعدة، وقدمت اليمن الديمقراطية أطناناً من السلاح وملايين الذخائر وعدداً من صواريخ الدفاع الجوي في محاولة لإنقاذها... كذلك قمنا بمبادرة أملنا من خلالها رصّ الصف العربي لمواجهة الاجتياح، وذلك عندما تحركت مع الرئيس علي عبد الله صالح في حزيران/يونيو 1982م سعياً وراء عقد قمة عربية طارئة لمواجهة الموقف. وأتذكر هنا حديثاً ساخناً ومهماً في محطتنا الأولى في جَدّة مع قادة المملكة العربية السعودية، وفي مقدمتهم الأمير فهد بن عبد العزيز، وليّ العهد آنذاك، الذي كان هائجاً عندما كنا نتحدث عن فك الحصار عن بيروت والمقاومة الفلسطينية واللبنانية، وقال إنه «كان بالإمكان أن نحصل على اعتراف دولي بالمنظمة، ودولة فلسطينية عاصمتها القدس استناداً إلى قرار الأمم المتحدة 242 وغيره من القرارات، وقد أقنعنا الرئيس كارتر بذلك عبر وزير خارجيته سابرس فانس الذي حمل إليه مشروعاً متكاملاً بشأن الصراع العربي الإسرائيلي في المنطقة، وقال: إن هذا المشروع قد اتُّفق عليه بيننا وبين ياسر عرفات، وبعد أن وافق عليه الرئيس كارتر تراجع عرفات ووضعنا في مأزق وحرج مع الإدارة الأميركية..». واستناداً إلى ذلك، فإن الفلسطينيين كما قال (فهد) هم الذين فرضوا على أنفسهم هذا الحصار بسبب المواقف التكتيكية الخاطئة وعدم الثبات في المواقف والعديد من الأخطاء التي ارتكبوها في أكثر من بلد عربي، واستشهد بأحداث عَمّان 1970م، وممارساتهم الخاطئة في لبنان، وازدواجية السلطة التي فرضوها في هذين البلدين، واستنتج أنه كان لا بد من الوصول إلى هذه النتائج. حاورتُ القيادة الفلسطينية في ذلك، واطلعت على وجهة النظر الفلسطينية في هذا الموضوع الذي سُمِّي حينذاك «مبادرة الأمير فهد بن عبد العزيز» التي عُرضت على قمة فاس الأولى.
موقف الملك فهد بن عبدالعزيز
ويستشهد الرئيس ناصر بما نُشر في مذكرات الدكتور طلال ناجي الأمين العام المساعد للجبهة الشعبية القيادة العامة لتلخيص وجهة نظر إحدى القيادات الفلسطينية أذكر أنه عندما طرحت هذه المبادرة همس في أذننا أنها حاصل اتفاق بين قيادة فتح (ممثلة بخالد الحسن رحمه الله) والأخوة السعوديين أي إن الأمير فهد تبنى في حينه أفكار قيادة فتح وطرحها في مبادرته. حتى إنه قيل لنا إن هذه الأفكار صاغتها له قيادة فتح، وبرأيي إن السعوديين ظلموا في هذه القصة لأنهم تبنوا فكرة قيادة فتح وطرحوها عبر مشروع... وطبعاً نحن اعتبرنا المشروع بشكل أو بآخر عملية تكملة لاتفاقات كامب ديفيد، لأنه لأول مرة يطرح مشروع من زعيم عربي كبير لدولة عربية كبيرة المفروض أنها وقفت ضد كامب ديفيد حول إمكانية الاعتراف بإسرائيل. فقد كان واضحاً في المبادرة أنه يوجد اعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وقد صدمنا ورفضنا واصطدمنا بأعضاء اللجنة التنفيذية الذين يتبعون ياسر عرفات، وكان معنا أعضاء اللجنة المركزية لفتح الذين اتخذوا الموقف ذاته قبل ذهابنا إلى الاجتماع في فاس، وكان أبرزهم «أبو اللطف» فاروق قدومي رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وافقنا جميعاً على الذهاب إلى المؤتمر لإفشال تبني عرفات هذا المشروع في اجتماع قمة عربية، ففي ذلك الوقت كان أبو عمار وفي مجالسه يهدد بأن رفض هذا المشروع سيكلفنا غالياً في لبنان.
ويضيف الرئيس ناصر قائلا:" ان طلال ناجي قال «لقد نجحنا في مؤتمر فاس بإحباط تبني مشروع الأمير فهد، وربما يسأل البعض ألم تحسبوا حساباً لما تحدث به عرفات؟ الحقيقة أننا أخذنا كلامه بالاعتبار، لكن ذلك لم يكن ليعني أن نتخلى عن مواقفنا ونوافق على تعميم كامب ديفيد، وهناك أمر آخر: لقد كنا نعيش حالة من الضرب الدائم في لبنان قبل ذهابنا إلى فاس، كانت هناك حرب مستعرة في البقاع وفي بيروت، ودمر الإسرائيليون مباني في بيروت، هذا ما حدث قبل مؤتمر فاس بأشهر. لم يكن هناك جديد عندما قال لنا عرفات: ستُضربون، واعتقدنا أن الأمر هو في سياق الضربات المستمرة علينا. فقد كان هناك اجتياح عام 1978م، وأيضاً دخل الإسرا.
موقف اليمن
ويوضح الرئيس ناصر حول موقف من أزمة بيروت وقال :" أما بالنسبة إلينا نحن والرئيس علي عبد الله صالح، فقد تابعنا جهودنا، حيث انتقلنا من جدة إلى دمشق، والتقينا الرئيس حافظ الأسد الذي رحب بالمبادرة اليمنية لعقد القمة العربية. لكن قرار عقد القمة لم يكن بيد العديد من قادتها، فبعد موافقة معظم قادة هذه الدول تراجعوا، وبدأ العد التنازلي حتى تقلّص عدد الموافقين إلى ثلاث دول بعد أن كانوا ست عشرة دولة، ويبدو أنهم وافقوا في زحمة الاحتلال، ولم يدركوا أن الذين يقفون وراء الحرب كانوا أيضاً ضد عقد القمة. تكرر مثل هذا الموقف في الحرب على لبنان في تموز/يوليو عام 2006م. عندما رفض القادة العرب عقد اجتماع قمة عربية، والضاحية وجنوب لبنان وغيرهما من المدن يحترق، ولبنان مقطَّع الأوصال بسبب تدمير أكثر من 160 جسراً، وجّه حزب الله والمقاومة الوطنية اللبنانية ضربة موجعة وألحقا الهزيمة بالجيش الإسرائيلي. هنا نتذكر مثل هذا الموقف عندما كانت رام الله محاصرة، وقبلها بيروت، فلم يفعل العرب شيئاً في المرات السابقة ولا اللاحقة. وأذكر أن الموقف نفسه استمرّ من الرئيس ياسر عرفات، وأتذكر خلافاً نشب حول بيان في أحد المؤتمرات، ولم أصدق وأنا أستمع إلى أحد المسؤولين من المثقفين العرب وهو يرفض المطالبة برفع الحصار الإسرائيلي عن ياسر عرفات عام 2002م، ويقول: لماذا لا يقتلونه، إنه خائن وعميل؟ بينما كان عرفات يردد ويقول إنه لن يستسلم وإنه سيصبح شهيداً شهيداً شهيداً.
دعوات القذافي
يؤكد الرئيس علي ناصر في حديثه " لم تُجدِ دعوات القائد الليبي معمر القذافي لتشكيل قوات عربية بقيادته في لبنان، فقد رحبنا وأكدنا أننا سنُرسل ثلاثة ألوية من عدن للمساهمة في ذلك، ولكن تعذر نقلها إلى قلب المعركة، حيث كانت الطرق السياسية والطبيعية معقدة وبعيدة عن عدن، ولم يتخذ العرب قادةً وشعوباً أي موقف من الاجتياح الإسرائيلي، إذ كانوا مشغولين بمتابعة كأس العالم وبقضايا أقل شأناً، فيما بيروت تحترق والإسرائيليون يعربدون في شوارعها، وقصر الرئاسة في بعبدا يستغيث ولا مغيث. قال وزير الدفاع الإسرائيلي إن العرب مختلفون على كل شيء، ولكنهم متفقون على عدم الحرب مع إسرائيل. نجحت إسرائيل في الاجتياح، ولكنها أخفقت في الاستمرار في الاحتلال، واحتفظت بالشريط الأمني بالتعاون مع عملائها. غير أن المقاومة اللبنانية لم تستكن لهذا الواقع، وبدأت نضالها لتغيير واقع الاحتلال، واستهدفت القوات الإسرائيلية وعملاءها، وكان في مقدمة المستهدَفين قائد ما يُسمى «جيش لبنان الجنوبي» العميل أنطوان لحد الذي تكفلت باغتياله المناضلة اللبنانية سهى بشارة ، وقد حملت السلاح لأول مرة للقيام بواجبها ضد العدو الإسرائيلي والمتعاونين معه في الجنوب. وهكذا تقدمت إليه في عقر داره وحاولت إطلاق النار عليه من المسدس الروسي عيار 5.5 الميكروف، ولم تتمكن من إطلاق النار عليه لعدم خبرتها وثقل وزن المسدس في يدها، فاستبدلت به مسدساً روسياً آخر بحجم الكف خفيف الوزن وله تأثير قوي وفعال تنتشر شظاياه في الجسم. وفي 7 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1988 الساعة 8 مساءً أطلقت سهى بشارة النار على أنطوان لحد من مسافة لا تتجاوز 20 سم على الاكثر وأصابته إصابة مباشرة، ونقل انطوان لحد إلى مستشفى مرجعيون، ومن ثم إلى حيفا.
وكان هذا المسدس هدية شخصية مني إلى الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي، كذلك أهدينا إلى الآخرين من القيادات اللبنانية والفلسطينية مثل هذا النوع من المسدسات التي حصلنا عليها من وزارة أمن الدولة في الاتحاد السوفياتي.
سلاح عدن في بيروت
ويختم الرئيس ناصر حديثه ويقول :" وكما أسلفت، فإننا قدمنا آلاف الأسلحة وملايين الذخائر دعماً للمقاتلين أثناء الاجتياح عام 1982 وحصار بيروت، بشرط عدم استخدامها بعضهم ضد بعض، وقد أرسلت عشرة آلاف بندقية وعشرة ملايين طلقة إلى مطار دمشق لإدخالها إلى لبنان لمواجهة العدوان الإسرائيلي، وأرسلنا بطاريات للدفاع الجوي دفاعاً عن بيروت. وكان الرئيس السوري حافظ الأسد قد انزعج من وصول هذا السلاح إلى سورية ودخوله إلى لبنان لأنه كان يخشى أن يتسرب إلى أعداء سورية والثورة الفلسطينية. وهنا أتذكر حديثاً مع الدكتور علي التريكي وزير الخارجية الليبي والصديق صالح الدروقي وعبد الله حجازي، وهما من القيادات الليبية المهتمة بالشأن الفلسطيني، عن أنهم قدموا سلاحاً إلى الفلسطينيين واللبنانيين ومساعدات مالية تكفي لتحرير لبنان وفلسطين، ولكنهم استعملوها في صراعاتهم الداخلية ولمصالحهم ومشاريعهم الخاصة... في حين أن حزب الله لم يحصل على أكثر من 10% من حجم تلك المساعدات، واستطاع أن يعمل من أجل تحرير جنوب لبنان وهزم الجيش الإسرائيلي، وهو ما تحقق بفضل التضحيات الجمّة التي قدمها شعب لبنان العظيم بمساندة سورية والجمهورية الإسلامية الإيرانية التي ارتبطت بعلاقات خاصة مع حزب الله، وقد تعرفت إلى عدد من الشخصيات اللبنانية بعد خروجي من السلطة سواء في سورية أو لبنان، وكانت القيادات اللبنانية تتنقل بين دمشق وبيروت لكسب ود القيادة السورية التي كانت تبارك اختيار الرؤساء ورؤساء الوزراء والوزراء وقادة الجيش، وكان بعضهم يتردد إليّ بين حين وآخر لتقديمهم إلى الرئيس أو نائبه باعتبارهما صديقين لي، وكنت أتجنب الدخول في مثل هذه العلاقات والصفقات تجنباً لأي إحراج أو إزعاج، وكنت أعرف أن هناك قنوات معتمدة من قبل الرئيس، بواسطتها يمكن الوصول إلى باب الرئيس ومكتبه ومباركته. وأتذكر أن وزير الخارجية اللبناني الأسبق جان عبيد، المقرب من النظام في دمشق، كان مرشحاً للرئاسة، ويبدو أن هذا الموضوع قد تعطل بسبب المنافسة بين المرشحين للرئاسة، وقال لي إن الاختيار وقع على العماد إميل لحود، ولم أعلق.
وأنا لا أخفي أنه كانت تربطني صداقة وعلاقة مع القيادة السورية ومع اللواء غازي كنعان رئيس شعبة المخابرات السورية في لبنان. وأتذكر أنني زرته في مكتبه وطلبت منه مساعدتنا على عقد ندوة للمركز العربي للدراسات الاستراتيجية في بيروت بدعم من الحكومة اللبنانية التي كان يرأسها حينذاك رفيق الحريري، وأنه لا يوجد اتصال بيني وبينه آنذاك. وعلى الفور اتصل اللواء غازي برفيق الحريري رئيس الوزراء وأعطاني سماعة الهاتف لأتكلم مع الحريري الذي رحب باللقاء صباح اليوم الثاني في مكتبه بالقصر الحكومي، وبعد تبادل كلمات المجاملة والكلام عن الماضي والحاضر وتاريخنا المشترك في حركة القوميين العرب، أعطى توجيهاته باستضافة المؤتمر وتقديم التسهيلات كافة، سواء في المطار أو الفنادق وغيرها مما نحتاج إليه لنجاح ندوة مركزنا التي كانت بعنوان «نحو مشروع للنهضة العربية في القرن الواحد والعشرين». وأكدت له حينذاك أننا لا نطلب إلا رعايتكم وحضوركم للندوة وترتيب حفلة عشاء للمشاركين بحضوركم لأنّ كل ما يتعلق بالتذاكر والفنادق قد تم ترتيبه مع اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) التي يرأسها الدكتور حازم ببلاوي.
زيارة جنوب البنان
ويواصل الرئيس ناصر حديثه حول زيارته إلى جنوب لبنان وقال:" لا يمكن استكمال مذكراتي عن لبنان دون الإشارة إلى جنوب لبنان، وهو يذكّرنا بعدن وجنوب اليمن ومقاومة الاحتلال البريطاني. فكلا الشعبين خاض معركة التحرير من الاحتلال، وكنا نسمع عن بطولات هذا الشعب والأغاني الوطنية لفيروز وجوليا بطرس، ونتغنى بها كما كنا نتغنى بأغنية الفنان محمد محسن عطروش «برع.. برع.. يا استعمار. من أرض الأحرار برع». ولهذا، فقد كنت أتطلع لزيارة الجنوب اللبناني، وقمت بزيارته مرتين.
الزيارة الأولى كانت لمتحف مليتا عام 2014، وهو المتحف الحربي الذي يحكي عن معارك المقاومة مع الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، ويوثّقها.
ويكمل الرئيس ناصر ويقول :" أما الزيارة الثانية، فكانت في يوليو 2019 برفقة عدد من قيادات حزب الله اللبناني وبعض مرافقيَّ من رحلة امتدت منذ الساعة العاشرة من صباح الثلاثاء 23 يوليو 2019، وحتى مسائه، في زيارة لمعظم مدن جنوب لبنان وقراه، بدءاً بصيدا، أكبر مدينة في الجنوب، ثم مدينة صور، ومنها إلى قرى جنوبية مهمة، كثيراً ما ترددت أسماؤها وأسماء أبنائها من المقاومة اللبنانية وشهدائها الذين أسهموا في دحر العدو الصهيوني من لبنان، والجنوب تحديداً منذ احتلاله له في عام 1982م، وحتى عام 2000م، ثم حرب 2006م.
متابعة المعركة مع الصهاينة
ويذكر الرئيس ناصر في حديثه متابعة المعركة مع الصهاينة في جنوب لبنان وقال :" وفيما كنّا نواصل الطريق من قرية إلى أخرى كانت في رأس قائمة قرى الجنوب الصامدة، مثل رميش، عيتا، دبل، حانين، تلة مسعود، مارون الراس، قلعة الشقيف، بوابة فاطمة، المطلة، القنطرة، الطيبة، بنت جبيل ووادي حجير... كنّا نتابع وصف بعض المعارك العسكرية أو المواجهات بين شباب المقاومة اللبنانية والجنود الصهاينة، ما اضطرّ القوات الصهيونية إلى بناء سور إسمنتي وأسلاك شائكة، وقد شاهدنا لأول مرة الحركة والحياة في جهة فلسطين المحتلة، وكان أحد المرافقين يسأل: هل هذه حدود إسرائيل التي تبعد أمتاراً عنا؟! فيردّ مرافقٌ آخر، غاضباً: لا، هذه الأراضي الفلسطينية المحتلة! وكان عليه أن يحترم رأي مرافقينا، ولم يكرر الحديث عن حدود إسرائيل، لأنهم مؤمنون بأنها أراضٍ فلسطينية ستتحرر من الاحتلال يوماً ما.
العمليات الفدائية الناجحة
ويوضح الرئيس ناصر في حديثه تفاصيل العمليات الفدائية في جنوب لبنان .. ويقول :" وتقدموا لنا بشرح مفصَّل عن كثير من العمليات الاستشهادية، وكيف كانت المقاومة تصطاد جنود العدو عبر وسائل متعددة غير تقليدية، كتلك التي تُتَّبَع عادةً في مواجهات الجيوش النظامية، حيث إنّ كثيراً من تلك العمليات الناجحة يقوم بها اثنان إلى ثلاثة مقاومين.
من أكثر العمليات الفدائية البطولية نجاحاً، وقد كسرت هيبة جيش العدو وضباطه وجنوده، إحراق دبابات ميركافا الإسرائيلية وتفحّم جثث الجنود داخلها، بعد أن كانت إسرائيل تسوّق هذه الدبابة كأقوى الدبابات في العالم، وفي ميدان المعركة.
قابلنا عدداً من المقاومين الذين كانوا يتحدثون بتواضع، لكن بثقة وعزيمة لم نرَ مثلها من قبل. وكما أخبرنا قائدهم، فقد استفادوا من خبرة ما كان يقوم به الفيتناميون خلال محاربتهم الوجود الأميركي في فيتنام الجنوبية، وتحديداً في حفر الخنادق وحرب العصابات.
مررنا بمعتقل الخيام الذي أنشأته إسرائيل، وفيه وصل عدد المعتقلين الكليّ إلى خمسة آلاف معتقل، ولكنه لصغره لم يضمّ أكثر من خمسمئة في فترة واحدة، وكانت سهى بشارة معتقلة فيه. وشاهدنا مقارّ التعذيب التي لم يُشهَد لها مثيل في التاريخ، كما حدثنا بذلك مسؤول المعتقل، أحمد الأمين، وهو من القرية نفسها.
كان سجّانوه من الجنود الصهاينة، وممّا يُسمّى جيش لبنان الجنوبي الحرّ بقيادة سعد حداد، ثم أنطوان لحد. ولأن الانتساب إلى الجيش كان بالتجنيد الإجباري، بقي عدد من اللبنانيين في جيش لبنان الجنوبي، وعملوا تحت إمرة القائدين العسكريين اللبنانيين. ولأنهم من قرى الجنوب، فقد هرب بعضهم، وبقي آخرون يتعاونون مع جيش الاحتلال. وهكذا، أصبحوا سجّانين وسجّانات للوطنيين اللبنانيين.
ويتابع الرئيس علي ناصر محمد حديثه قائلا:" وخلال زيارتنا لاحظنا - مقارنةً بما بعد عام 2000 - كثرةَ العمران والتشجير المكثَّف في الجبال والطرقات، ثم الطرق المرصوفة حديثاً، وكثرة المنتجعات والمتنزهات.
وقد علمنا من مرافقينا بأنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية أسهمت في معظم هذه الإنشاءات. وكان من نتيجة ذلك، عودة أعداد كبيرة من سكان الجنوب إلى قراهم، وبالتالي ازدادت المدارس، وكذلك فروع بعض الجامعات اللبنانية الخاصة، سواء في صيدا أو صور.
عمّان والتلال السبع
وحول علاقة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مع المملكة الاردنية الهاشمية يقول الرئيس علي ناصر مستدركا:" عَمّان، عاصمة الأردن في العصور الغابرة وفي أيامنا الحاضرة. إنها ربة عمون التي شيدها العمونيون القدماء عاصمة لهم. وهي فيلادلفيا (مدينة الحب الأخوي) التي ازدهرت في أيام اليونان والرومان، في ما مضى كانت أبنية المدينة تغطي سبع تلال، مثلها مثل مدينة روما، أما الآن فإن أبنيتها تنتشر على تسع عشرة تلة. تُعَدّ عَمّان مدينة المفارقات، يلتقي فيها القديم والحديث، ومن أشهر معالم مدينة عَمّان جبل القلعة حيث توجد دار الإمارة والمدرج الروماني في أسفل جبل الجوفة وكهف أهل الكهف في قرية الرجيب.،
في الثاني من آذار/مارس عام 1924 وصل إلى عمّان الأمير عبد الله بن الحسين واختارها عاصمة لإمارة شرقيّ الأردن بعد انهيار الدولة العثمانية والحرب العالمية الأولى. شهدت عَمّان في ظلّ حكم الهاشميين ازدهاراً اقتصادياً، وخصوصاً في عهد ملكها الحسين بن طلال الذي حكم الأردن أكثر من ستة وأربعين عاماً، وشهدت فترة حكمه العديد من الأحداث والصراعات والحروب والمؤامرات والمؤتمرات. ودائماً تعيش الأردن قدرها وسط الاضطرابات والصراعات الإقليمية الحادة، وتحاول دائماً أن تستفيد من تلك الصراعات دون أن تزجّ بنفسها فيها. وهكذا استفادت من الحرب الإيرانية العراقية ومن حرب الخليج الثانية، حيث انتقل بعض رجال المال والأعمال إلى الأردن لاستثمار أموالهم، مستفيدين من التسهيلات والبحث عن الأمان, واستفادت أيضاً من الصراع في سورية وليبيا واليمن من الأموال التي استُثمرت فيها، ومن شراء العقار والإيجار وازدهار السياحة.
(للحديث بقية)
المصدر: عدن الغد
كلمات دلالية: الرئیس علی ناصر الرئیس ناصر جنوب لبنان یاسر عرفات الأمیر فهد قیادة فتح حزب الله التی کان عبد الله فی حدیثه فی بیروت لأول مرة سواء فی أکثر من فی عدن بعد أن التی ت ما کان عدد من فی هذا
إقرأ أيضاً:
الحرب التي أجهزت على السلام كله
لا بد أن يكون أحدكم قد جاوز الأربعين كثيرًا لتكون لديه ذكرى مباشرة لما جرى في تسعينيات القرن الماضي إذ ظن الفلسطينيون والإسرائيليون أنهم توصلوا إلى طريقة ينهون بها قرن الصراع فيما بينهم، كان طائف الأمل الذي طاف بهم عابرا، وأبعد ما يكون عن العمومية، لكنه كان حقيقيًا. لقد طواه النسيان الآن، وبات أقرب إلى أن يعد خدعة، ووهمًا مخاتلًا. والآن، وقد مر أكثر من عام ونصف العام على الحرب الأكثر دموية فيما يزيد على قرن من الصراع بين العرب واليهود، يصعب أكثر من ذي قبل أن نشاهد الصور المريعة الواردة من غزة، ويصعب ذلك حتى على من يكسبون لقمة عيشهم من هذا، ومن يؤثرون لو كانوا حاضرين شخصيًا لولا أن إسرائيل أغلقت المنطقة وحظرت دخول الصحفيين الأجانب ضمن كثيرين حظرت دخولهم.
وفي الطريق طوفان أعتى من الرعب، إذ تستعد إسرائيل الآن لهجمة يتعهد رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بأن تكون «دخولا كثيفا إلى غزة». ونعلم نحن العاملين في مهنة الأخبار أن عالمنا المضطرب يمدنا بكثير من الأحداث الأليمة فلا يبقى لبعضنا من سبيل إلى التكيف معها إلا بالإمساك عن النظر.في بعض الأحيان يتراءى لي بصيص ذكرى مهتزة لزمن رأينا فيه شيئا من الأمل، يثيره اسم أو وجه على طريق في غزة ينتهي بحواجز خرسانية ونقاط تفتيش أغلقتها إسرائيل خلال الشهرين الماضيين في وجه شتى أشكال الإغاثة.
قال توم فليشر - وهو الدبلوماسي البريطاني السابق وكبير مسؤولي الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة: إن الإسرائيليين «صادقون صدقا مثيرا» إذ يقولون إن الغاية من تجديدهم الحصار هو الضغط على حماس، ولا بد كما أكد فليتشر من إطلاق سراح بقية الرهائن، ولكن «محاصرة الإغاثة قتل» وانتهاك من إسرائيل للقانون الدولي تنزل به «عقابا جماعيا وقاسيا».
يستحيل في ظل ما أصبحت عليه الأمور أن نرى سبيلا يسوق به الفلسطينيون والإسرائيليون أنفسهم، أو يساقون من خلاله، إلى حيث يمكن أن يحاولوا الوصول إلى السلام من جديد. وها هو جيل آخر تسحقه الحرب. في عام 1993، حين كان لدينا أمل، تحققت لحظة الذروة في بداية العملية، لأن النهاية كانت فشلا ودما مراقا، إذ استحال الصيف خريفا في واشنطن، وتصافح الأعداء القدامى في وضح النهار داخل حديقة البيت الأبيض. وتيسر ذلك إثر مفاوضات سرية بدأت عند انصرام ذلك العام في أوسلو، فجرت في أول الأمر بين أبي علاء من منظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا لرئيسها ياسر عرفات، وأستاذين جامعيين إسرائيليين كانا يرفعان تقاريرهما إلى يوسي بيلين نائب وزير الخارجية في بلدهما.
كان لزامًا أن تكون لقاءات أوسلو سرية، إذ أراد كلا الطرفين اجتناب المخاطرة السياسية إلى أن يتحقق ما يستحق الإعلان. كان البرلمان الإسرائيلي قد أزال للتو قانونا يحظر على المواطنين الاتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية، لكن الحكومة كانت لا تزال على المستوى الرسمي تعارض أي مفاوضات مباشرة مع منظمة يقودها عرفات الذي كانت تعده إسرائيل إرهابيًا لا أمل في إصلاحه. وقد شهد النرويجيون الذين جمعوا بين مفاوضي أوسلو في منزل ريفي منعزل بمدى صعوبة الوصول بهم إلى اتفاق.
إذ قالت الدبلوماسية النرويجية مونا جول: إن «عملهم معًا على مدار الساعة كان مشحونا بالعواطف للغاية، فقد تسمع في جنح الليل صيحة قائل -لا أمل. لا يمكنني البقاء هنا بعد الآن-». ولو أن الأمر بلغ ذلك القدر من المشقة على أولئك الملتزمين بالتفاوض لإنتاج اتفاقية محدودة -هي محض إطار لمزيد من المحادثات التي قد تفضي إلى اتفاقية سلام- فتخيلوا أي مدى يبلغه ارتفاع الجبل الآن.
لذلك كان لافتًا للغاية، ومباغتًا للغاية، أن نرى في الثالث عشر من سبتمبر سنة 1993 وجه الرئيس الأمريكي الطازج بيل كلينتون إذ يفتح ذراعيه وكأنه ابن أخ طيب بينما يصافح ياسر عرفات رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين. كانت عيوب الاتفاقية بادية للعيان منذ البداية. فقد كان الإسرائيليون -المؤمنون بأن الأراضي المحتلة منحة من الرب لليهود- يعارضون مفهوم مبادلة الأرض في مقابل السلام.
كما استقال الشاعر الفلسطيني محمود درويش من منظمة التحرير الفلسطينية احتجاجًا وكتب قصيدة وصف فيها مراسم البيت الأبيض بـ«الشريط السينمائي الملوَّن». وانتهى إلى أن المقاومة لا بد أن تستمر. ولكن العالم شهد أعداء أشد لددا يحاولون كسر لعنة صراع دام لأجيال. فكان الوقع تاريخيا عند مشاهدة ياسر عرفات واقفا بجانب رابين ووزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز، وهم ثلاثة رجال طالما بقوا في قلب الصراع لأمد بعيد.
كان رابين -رئيس الوزراء الصلب عام 1993- هو القائد العام في نصر حرب الأيام الستة في يونيو 1967 على مصر والأردن وسوريا. إذ استولت إسرائيل على الضفة الغربية، ومنها القدس الشرقية، وغزة ومرتفعات الجولان، محيلة الصراع إلى ما هو عليه الآن. في عام 1948، قاد رابين -وهو في العشرينيات من عمره- وحدة نخبوية في حرب استقلال إسرائيل ورأى فيه الإسرائيليون بطلًا. ويتذكر الفلسطينيون دور رابين في الترحيل القسري لأكثر من خمسين ألف مدني عربي من بلدتي الرملة واللد. ويطلق الفلسطينيون على الأحداث السابقة على إعلان إسرائيل الاستقلال والتالية لها اسم «النكبة».
إذ فرَّ أكثر من سبعمائة ألف فلسطيني من الزحف الإسرائيلي أو تعرضوا للطرد بالقوة ولم يتمكنوا، كلهم تقريبا، من العودة.وبالنسبة للفلسطينيين كان ياسر عرفات تجسيدًا لنضالهم، فهو الرجل الذي بلغ به الحرص على مقاتلة إسرائيل حد أن أطلق عليه رفاقه الأكثر تحليا بالحذر لقب «المجنون» حينما بدأ الهجمات على الحدود مع لبنان في أوائل ستينيات القرن العشرين، متجاهلًا العقبات التي بدت كأداء.
وكانت لحظته قد حانت إثر إصابة الزعماء العرب بالذهول والانبطاح والمذلة بعد انتصار إسرائيل في عام 1967. في ظل الهزيمة، نهض عرفات للقتال، فكان يتنقل متنكرًا لجمع السلاح من ميادين المعارك وينظم مئات الهجمات. ولما ردت إسرائيل في عام 1968 بهجمة كبيرة على مخيم الكرامة في الأردن، وهو معقل عرفات وفصيل فتح التابع له، كان الفلسطينيون في الانتظار. فلقي ما لا يقل عن ثمانية وعشرين إسرائيليا، وستين أردنيا، ومائة فلسطيني، مصرعهم في يوم واحد.
وأعلن عرفات النصر وتأسست أسطورته. وإذا بزعيم منظمة التحرير الفلسطينية، بنظارته الشمسية، ولحيته النابتة، وكوفيته ذات اللونين الأسود والأبيض، يتصدر غلاف مجلة تايم.اكتمل الثلاثي ببيريز وزير خارجية إسرائيل. وكان -شأن رابين- في قلب أحداث بلده منذ العشرينيات. في عام 1948، كان بيريز الشاب هو الذراع الأيمن لرئيس وزراء إسرائيل اليميني الأول ديفيد بن جوريون. لم يلتحق قط بالجيش ولم يحظَ من الإسرائيليين بمثل الثقة التي حظي بها رابين، منافسه السياسي العتيد، ولكن صفقات الأسلحة التي أبرمها أسهمت كثيرا في تحويل إسرائيل إلى قوة عسكرية كبيرة في المنطقة قاد هو سعيها السري الناجح إلى امتلاك أسلحة نووية.
كان أولئك الرجال الثلاثة، لأسباب مختلفة، مستعدين للتفكير في إنهاء الصراع الذي شكّل حياتهم وهيّمن عليها. في عام 1993 كان لا بد من جهد وشجاعة لاعتناق التفكير الجديد اللازم لمحاولة إنهاء حرب لم يكن أي من الجانبين بقادر على الانتصار فيها. وآنذاك والآن، كان ولا يزال التشبث بطقوس الكراهية والموت المألوفة هو الأمر الأيسر، حتى وقد غرق الصراع في أعماق جديدة من اليأس بعد أن هاجمت حماس إسرائيل في السابع من أكتوبر سنة 2023. في غزة، يقتطع الفلسطينيون في بعض الأحيان أوقاتا من نضالهم اليومي من أجل البقاء لكي يتظاهروا ضد حماس.
وفي إسرائيل يدين بعض منتقدي نتنياهو -الذي تجاوز في سنة 2019 بن جوريون بوصفه أطول رؤساء وزراء إسرائيل في الخدمة- ويرونه نذير حرب دائمة، وبأنه يحارب لا لأجل إنقاذ بقية الرهائن أو لأجل أمن شعبه وإنما من أجل نجاته هو وتقوية سلطته الشخصية، وتأخير محاسبته على دوره في الإخفاقات الأمنية التي أتاحت لحماس الهجوم بذلك الأثر المميت في السابع من أكتوبر سنة 2023.
جاءت الوثيقة الموقعة في واشنطن في ذلك اليوم من عام 1993 من رابين ومفاوض منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس -وهو الرئيس الفلسطيني الآن- حاملة عنوانا سقيما هو «إعلان مبادئ ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت»، وإن اشتهر ذلك الحشو اللفظي الدبلوماسي باسم أفضل هو اتفاقيات أوسلو. وكان العالم قد شهد تغيرًا إضافيًا، إذ حضر وزير الخارجية الروسي أندرو كوزيريف بصفة شاهد.
ظن ملايين الإسرائيليين والفلسطينيين -وليس جميعهم على أي حال- عندما رأوا ما يجري أن كل شيء يتغير. وفي عام 1933 كانت الغالبية في كلا الجانبين مهيأة لأن تمنح المفاوضات فرصة، وتنحي الشك وفقدان الثقة جانبا. وكان السبب الأكبر للتفاؤل هو أن طرفي الحديث اعترفا بوجود أحدهما الآخر وبأن لكل منهما حقوقًا وطنية. فسلّم الفلسطينيون بأن تحصل إسرائيل على 78% من الأرض القائمة في ما بين النهر والبحر، أي المنطقة التي كانوا يسيطرون عليها عشية حرب 1967. وسلّمت إسرائيل بمبدأ الحكم الذاتي الفلسطيني على 22% مما يتبقى. وقد كتب آفي شلايم - مؤرخ الصراع الرائد في جامعة أكسفورد، وأحد أشد منتقدي نتنياهو وحكومته الآن، وأحدث كتبه يحمل عنوان «إبادة جماعية في غزة» - في مطلع عام 1994 أنها «كانت من أشد لحظات تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين احتداما.
ففي خطوة واحدة مذهلة، أعاد الزعيمان رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة برمتها».
أتيح لعرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية الرجوع إلى أجزاء من المناطق الفلسطينية المحتلة، فاقتصر ذلك في أول الأمر على غزة وأريحا، أي الواحة العتيقة المغبرة في وادي الأردن. وكانت الخطة تتمثل في البدء بإبرام اتفاقيات على قضايا حساسة صغيرة، على أمل أن يتم بطريقة ما تكوين الزخم اللازم لحل القضايا الكبيرة. إذ عمد الجميع إلى تأجيل تلك القضايا في أوسلو لأن أيا منها كان كفيلا بإفساد الصفقة، وكانت له القدرة على وأد عملية السلام في مهدها.
وكان ملف قضايا «الوضع النهائي» المؤجل ذا إشعاع سياسي، إذ احتوى مسألة تقسيم القدس بهدف إنشاء عاصمة بطريقة ما لكلا الشعبين، ومستقبل المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، وتحدِّي ترسيم حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية، ومسألة ما إذا كان سيتسنى للاجئي حربي 1948 و1967 الفلسطينيين الرجوع يومًا إلى الوطن.
بعد قرابة ثمانية عشر شهرا من المراسم في حديقة البيت الأبيض، انتقلت إلى القدس لأصبح مراسلًا لهيئة الإذاعة البريطانية في الشرق الأوسط. كنت قد قضيت أغلب السنوات الأربع السابقة أعمل في تغطية الحروب الناجمة عن سقوط يوغسلافيا. وأصيبت صديقة لي من سراييفو -وكانت صحفية نجمة تعمل للتليفزيون الإسباني- بالذهول حينما أخبرتها أنني ذاهب إلى القدس. وقالت إن الحكاية هناك قد انتهت، وأنهم يقيمون السلام.
وبالطبع جانبها الصواب، شأن جميع من تزايدت آمالهم لوهلة. فالسلام بات سرابا. ولعله لم يكن ممكنا قط. أدان مثقفون فلسطينيون كبار عرفات لبيعه الشعب بالاتفاق على صفقة سمحت لإسرائيل بتوسيع المستوطنات لليهود على الأراضي المحتلة التي أرادوها لإقامة الدولة. فوصف إدوار سعيد -أستاذ العلوم السياسية والكاتب الفلسطيني الأمريكي- ذلك بالاستسلام. وفي مجلة «لندن رفيو أوف بوكس» اشتد في نقده لـ«عرض الأزياء المبتذل الذي أقيم في مراسم البيت الأبيض، ومهانة ياسر عرفات إذ يوجه الشكر للجميع على تأجيل أغلب حقوق الشعب، ووقار أداء بيل كلينتون السخيف، وكأنه إمبراطور روماني في القرن العشرين يقود ملكين تابعين لسلطانه في مراسم تصالح وإذعان. وفي نهاية المطاف طغت على بلاغة سعيد العظيمة جماعتان مسلحتان فلسطينيتان تأسستا في ثمانينيات القرن العشرين، هما جماعتا حماس والجهاد الإسلامي اللتان ذكَّرتا الإسرائيليين بألا يؤمنوا بالسلام إذ أرسلتا التفجيريين الانتحاريين لقتل مدنيين إسرائيليين في المقاهي والحافلات.أراد المتشددون في كلا الجانبين تحطيم عملية أوسلو. ففي فبراير 1994 استعمل باروخ جولدشتاين المتطرف اليهودي أمريكي المولد بندقية هجومية لقتل تسعة وعشرين فلسطينيا كانوا يصلون في الحرم الإبراهيمي بالخليل، وهو موقع يقدسه الإسرائيليون أيضًا ويسمونه «كهف البطاركة»، فهو مكان يؤمن اليهود والمسلمون والمسيحيون أن فيه قبر النبي إبراهيم وابنيه إسحاق ويعقوب وزوجاتهم سارة ورفقة وليا. ظل جولدشتاين يطلق الرصاص إلى أن تغلب عليه بعض الناجين وظلوا يضربونه حتى الموت. وقد حذر اليمين الإسرائيلي، ونجمه الصاعد بنيامين نتنياهو، من أن التنازل عن الأراضي يعرض حياة كل إسرائيلي للخطر. ساعد نتنياهو في إثارة حشود غاضبة من القوميين اليهود الذين لعنوا رابين ووصفوه بالخائن والقاتل. وفي مظاهرة بميدان صهيون في القدس في الخامس من أكتوبر سنة 1995 كان من ضمن اللافتات لافتة ساخرة من رابين ترسمه في زي قوات الأمن النازية [SS]. وبعد شهر من ذلك، مات رابين برصاص متطرف يهودي في تل أبيب. وخلال أول التحقيقات معه في اغتيال رابين، طلب القاتل شرابًا ليشرب نخب إنقاذه إسرائيل من خائن تنكر لترتيبات الرب للشعب اليهودي.عند مقتل رابين كانت المفاوضات بالفعل متأخرة كثيرة عن جدولها. لكن عرفات ورابين، العدوين اللدودين، كانا قد توصلا إلى احترام جاء على غير توقع، وعلى مضض. وجهت ليا، أرملة رابين، الدعوة إلى عرفات لزيارة منزل عائلة رابين في تل أبيب لتقديم واجب العزاء. ورفضت مقابلة نتنياهو. وبعد ستة أشهر، فاز نتنياهو على شيمون بيريز بأغلبية ضئيلة وأصبح رئيسًا للوزراء للمرة الأولى.
وأرد تمامًا أن تكون محاولة صنع السلام منذورة بالفشل، بوجود رابين أو غيابه، وهو الزعيم الإسرائيلي القادر أكثر من غيره على طمأنة مواطني شعبه. فقد حدث قبيل اغتياله أن أعلن حيدر عبد الشافي -وهو طبيب يحظى باحترام كبير في غزة ومؤسس لمنظمة التحرير الفلسطينية استاء من التنازلات والفساد المحيطين بعرفات- أن أوسلو فشلت، وكتب أنه «من الواضح الآن أن إسرائيل عازمة على المحافظة على وجودها، وسيطرتها على الأراضي، والمستوطنات. وفي واقع الأمر، أن ما لم ينتبه إليه أحد هو أن إسرائيل لم تتخلَ قط عن حقها في الأراضي المحتلة كاملة، بما يتناغم مع البرنامج الصهيوني».
قبل عام من الاغتيال، حصل عرفات وبيريز ورابين مشتركين على جائزة نوبل للسلام. وبعد الاغتيال كثّفت حماس حملة تفجيراتها الانتحارية. وفي غضون أيام في فبراير 1996 هوجمت الحافلة رقم 18 مرتين في القدس على مقربة من مكتب هيئة الإذاعة البريطانية في طريق يافا مما أسفر عن مصرع خمسة وأربعين شخصا. وكان العقل المدبر هو محمد ضيف من جماعة حماس الذي ظل عدوًا مميتًا لإسرائيل حتى مصرعه في غارة جوية على غزة في الصيف الماضي.
بعد هجمتي الحافلة سنة 1996، بعث عرفات -بضغط من بيل كلينتون- رجاله لتعقب حماس والجهاد الإسلامي. وفي موقع مقابر الكومنولث البريطانية الوادعة في غزة أجريت حوارا مع رجل خلت أطراف أصابعه من الأظافر بعد أن انتزعها رجال عرفات إثر اعتقاله للاشتباه بانتمائه لحماس. وبعد ثلاثين عاما، غزة الآن أطلال وأكثر من خمسين ألف فلسطيني لقوا مصرعهم. ويقول نتنياهو إنه وحده القادر على تأمين الإسرائيليين، ولذلك فإنه لن يسمح أبدًا للفلسطينيين بإقامة دولة يمكن أن يستعملوها قاعدة للهجوم على اليهود.
لا وجود في جميع أجيال الصراع بين اليهود والعرب ما يقترب من هول السابع من أكتوبر والشهور التسعة عشر التالية له. وهذه المستويات الجديدة من عمق التجرد من الإنسانية، لدى كلا الجانبين، تلقى بظل داكن على المستقبل. لقد كان عدد كاف من الفلسطينيين في تسعينيات القرن الماضي مهيئين للثقة في عرفات وعدد كاف من الإسرائيليين يثقون في رابين، فكان ذلك كافيًا لفرجة تسمح بموعد قد يفلح فيه السلام، إن توفر الحظ وتوفر لدى الجانبين تصميم أكبر على التخلي عن أعز الأحلام والمعتقدات. وها هي الفدوة وقد انسدت وباتت الآن دفينة أعماق الماضي.
أما الذي لا يزال حيًا وخطيرًا فهو الوهم بأن النصر الكامل ممكن لأي طرف. فلا بد أنه كان ماثلا، في السابع من أكتوبر، في أذهان الرجال الذين انطلقوا من غزة وقتلوا قرابة ألف ومائتي شخص أغلبهم مدنيون وأسروا مائتين ووحدا وخمسين. ووهم النصر قوي بالمثل في يمين إسرائيل القومي المتطرف الذي يديم زعماؤه بقاء نتنياهو في السلطة. ويؤجج دونالد ترامب أحلامه بخرافته الخطيرة حول تحويل غزة إلى دبي البحر المتوسط المملوكة لأمريكا والخالية من الفلسطينيين.
مات الأمل قبل أمد بعيد من السابع من أكتوبر سنة 2023. وفي السنين المفضية إلى ذلك اليوم، شأن كثر ممن شاهدوا الصراع عن كثب، كنت أشعر بانفجار عنف قادم في الأفق. لكنني تصورت أن تحدث في القدس أو الضفة الغربية، لا في غزة. بل إنني تساءلت في بعض الأحيان لو أن صدمة دم يراق هي التي سترغم الجانبين على العثور على طريق رجعة إلى التفاوض. فلما وقعت الواقعة، أحال القتل الانقسام إلى هوة ما لها قرار. وها هي الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين على أرض ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط تمضي إلى قرنها الثاني.
جيريمي بوين محرر الشؤون الدولية في هيئة الإذاعة البريطانية، ومؤلف كتاب «صناعة الشرق الأوسط: تاريخ شخصي».
عن ذي نيوستيتسمان