غزة بين مشهد الفرجة العربي والنفاق الدولي
تاريخ النشر: 10th, October 2023 GMT
من راقب وشاهد واستمع لوقائع ما جرى ويجري في فلسطين، من غزة ومحيط غلافها إلى المستوطنات وصولاً للمدن الإسرائيلية في العمق المحتل عام 48، يُقر بحالة الذهول والصدمة والاندهاش الذي تركته حركة المقاومة الاسلامية "حماس" على المشهد الفلسطيني والعربي والدولي، من أخذ زمام المبادرة بالهجوم المباغت على المواقع الإسرائيلية في محيط غلاف غزة إلى الكثافة النارية بإطلاق الصواريخ والقدرة على أسر عدد كبير من جنود الاحتلال، وإيقاع خسائر صادمة ومؤلمة للمؤسستين الأمنية والعسكرية في إسرائيل، والتي أصبح الحديث فيها عن عملية "طوفان الأقصى" ومقارنتها بكل جولات الصراع العربي الإسرائيلي وحروبه الرسمية مع جيش الاحتلال، بأنها مغايرة وأحدثت فارقاً لا يمكن القفز عنه في النتائج والتبعات السياسية والنفسية والعسكرية، في المعركة التي تخوضها المقاومة مع الاحتلال.
الاعتراف بقدرة المقاومة وشجاعتها في الصحافة الإسرائيلية على إحداث الصدمة الأولى، سبقته بعض تحليلات عربية انضمت لركب الهجوم على المقاومة، وإدانتها رسمياً من بعض الأنظمة التي أعلنت انحيازها الكلي للكيان الصهيوني، لمحاولة فصل ما حدث ويحدث عن سياق القضية الفلسطينية بشكل عام، والتي يتم التعامل معها من النظام العربي كمسألة تخص العلاقة بين "الفلسطينيين وإسرائيل"، وما ينغص على هذه العلاقة وجود المقاومة واستمرارها في الشارع الفلسطيني، فكيف إذا انقلب كل ما يُخطَط له من تطبيع وقفز على الحقوق الفلسطينية، ومحاولات فصل القضية عن ارتباطها العربي قد فشلت بساعات قليلة بعد ما قدمته المقاومة في غزة ومحيطها؟
المقصود بالمقاومة حركة "حماس" التي أعيد تنشيط جرس شيطنتها على مستوى عالٍ من الولايات المتحدة مروراً بدول غربية ووصولاً لبعض عواصم عربية، والسرعة الأمريكية في شحذ الهمم وشد العصب الأمريكي والغربي لحماية إسرائيل، وإرسال حاملة الطائرات الأمريكية "فورد" للمنطقة وتقديم الدعم العسكري والمادي لحكومة بنيامين نتنياهو، وإرسال الذخائر والسلاح لمواصلة العدوان الإسرائيلي الذي لم يتوقف منذ إكمال احتلال بقية فلسطين عام 1967.
المقاومة قضية أساسية ككل القضايا السياسية الأخرى، لا يمكن عزلها في مجتمعٍ يخضع لاحتلال مباشر ولحصار مستمر، وعدوان يومي يُخلف جرائم حرب وضد الانسانية تُنقل على الهواء مباشرة ويراقبها العالم كله، كما في كل جولات العدوان والمذابح التي شُنت على غزة وتتكرر اليوم في مشهد جرائم إبادة لأحياء كاملة وتدمير الأبراج السكنية عقاباً لغزة
وترافق هذا مع كتابات وتحليلات هجومية مشوهة ومزورة في الساعات والأيام القليلة الماضية المترافقة مع حجم المذابح الهائلة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، لتتقاطع مع التزوير الأمريكي والصهيوني لمأساة الشعب الفلسطيني من الاحتلال ومشروعه الاستعماري، باتخاذ موقف ذاتي وعدائي من المقاومة ومعاداة العمل الشعبي المسلح بالتعبير عن التشاؤم منه.
وليس ممكناً هنا مناقشة كل المواقف والأحكام الجائرة والعشوائية بحق المقاومة الفلسطينية، وإعادة التذكير بقائمة الشيطنة الطويلة لحركة حماس وربطها بـ"أجندة إيرانية" ونزع وطنيتها ونفي ارتباطها بقضية شعبها وببعدها العربي والإسلامي، هو تذكير أولاً بالأجندة والأهداف الصهيونية على جبهة النظام الرسمي العربي الذي ينظر بقلق وخطر من المقاومة؛ لما تمثله من إظهار كم العجز والانحطاط والخزي في صورتها لدى الشارع العربي الذي عبّر عن فرح غامر برؤية المقاومة بإمكانيات متواضعة تحقق نجاحات تناقض كلياً بنية أنظمة العسكر العربي المنشغل ببناء الاستبداد والتواصل والتطبيع مع الاحتلال الذي يشكل لب المشكلة، والجوهر فيها مقاومة هذا الاحتلال ومشروعه وسياساته الاستعمارية التي كفلتها كل القوانين والشرائع الدولية.
والمقاومة قضية أساسية ككل القضايا السياسية الأخرى، لا يمكن عزلها في مجتمعٍ يخضع لاحتلال مباشر ولحصار مستمر، وعدوان يومي يُخلف جرائم حرب وضد الانسانية تُنقل على الهواء مباشرة ويراقبها العالم كله، كما في كل جولات العدوان والمذابح التي شُنت على غزة وتتكرر اليوم في مشهد جرائم إبادة لأحياء كاملة وتدمير الأبراج السكنية عقاباً لغزة ولمقاومتها التي استطاعت كسر هيبة وغطرسة الاحتلال.
وهنا أيضاً تتكشف أبعاد بعض المواقف العربية التي لطالما وجدت في الغطرسة والعنجهية الصهيونية ملاذاً لعجزها ومدخلاً للتخاذل والاستسلام، وتكريسا لهزيمة لم ولن يذعن لها الشعب الفلسطيني منذ قرنٍ وإلى ساعتنا هذه. وما يخيف في هذا الواقع ليس مشهد الفرجة العربي والدولي على جرائم الإبادة بحق الشعب الفلسطيني فقط، بل في مشهد السحق والإبادة الجماعية وسط صمت دولي وعربي وبضوء أخضر أمريكي لفاشية صهيونية.
هناك اعتراف رسمي أمريكي بدعم الإرهاب الصهيوني، وفي نفس الوقت هناك دعوة وضغوط أمريكية على بعض النظام العربي ليمارس ضغطا على المقاومة، وهناك مواقف عربية تشارك في نصب شراك التضليل الصهيوني والأمريكي بإعلاء صوت الخنوع
أخيراً، هناك اعتراف رسمي أمريكي بدعم الإرهاب الصهيوني، وفي نفس الوقت هناك دعوة وضغوط أمريكية على بعض النظام العربي ليمارس ضغطا على المقاومة، وهناك مواقف عربية تشارك في نصب شراك التضليل الصهيوني والأمريكي بإعلاء صوت الخنوع. وغزة والمقاومة لا تملك إلا أن تقول أن قتالها اليوم وغداً لا بد منه إذا أردنا التحرر من الاحتلال واسترجاع الأرض وتحرير الأسرى والحفاظ على هوية الأرض والمقدسات.
يتم كل ذلك بإعادة البعد العربي للقضية الفلسطينية، وهو ما تم في وجدان الشارع العربي المعبر عن تعاطفه ومساندته لمقاومة مصممة على المسيرة بكل إيمان وإدبار؛ لتبقى فلسطين قضية حرية وعدالة إنسانية، والمقاومة فيها فلسطينية يقتضي الدفاع عنها وعن مكتسبات لازمة في تحقيق أهداف بعيدة عن مشهد الفرجة العربي الرسمي المنضم لحملة تزوير وتصهين وحصة من ردح النفاق الدولي حول إرهاب الدولة والاحتلال والقلق على السلام.
twitter.com/nizar_sahli
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه فلسطين المقاومة الاحتلال الاستبداد فلسطين الاحتلال المقاومة الاستبداد طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
غزة.. وجهٌ آخر للنصر
منذ اندلاع «طوفان الأقصى»، والعالم يشهد أعظم اختبارات المعنى والصبر في غزة، تلك البقعة الصغيرة التي فرضت على الاحتلال تحديات لم يعرفها من قبل. في محرقة لا مثيل لها، انهارت الجدران، لكن الإنسان لم ينكسر. سقط الجسد، لكن الروح ظلّت تقاتل. والآن، وفي لحظة فارقة، يُطرح السؤال الجوهري: من ينتصر حقًا؟ ومن ينهزم فعلاً؟ تشير التقديرات إلى أن محرقة غزة تقترب من نهايتها بصفقة تبادل أسرى وهدنة طويلة، تمهيدًا لتحولات سياسية إقليمية، أبرزها تفكك حكومة نتنياهو وإنضاج «طبخة أمريكية» تعيد تموضع الاحتلال. لكن الحقيقة الأعمق تكمن في أن وقف الحرب لا يعني نهاية المعركة، وأن النصر لا يُقاس بإحصاءات القتلى أو تغيّر الخرائط.
في حروب التحرر- كما يوضح كل من كلاوزفيتز وغرامشي وماو تسي تونغ- لا يُقاس النصر بامتلاك الأرض، بل بامتلاك الوعي. الهزيمة في نظرهم ليست خسارة عسكرية، بل انكسار في الإرادة، بينما النصر يتجلى في بقاء الشعلة مشتعلة، في استمرار المقاومة رغم الفقد. هذا ما فشلت فيه عصابات الاحتلال رغم الإبادة والدمار. من الزاوية القرآنية، نستحضر صلح الحديبية، الذي رآه الصحابة «دنية»، لكن الله وصفه بأنه «فتحٌ مبين»، فالنصر ليس دومًا في الظاهر، بل في تمهيد الطريق، وفي صبر يقود إلى التمكين.
وغزة، بما قدّمت، لا تمهد لوقف إطلاق النار فقط، بل لفتح جديد في وعي الأمة وسرديتها. الاحتلال لم يُسقط غزة، لم يُنه المقاومة، ولم يستعد توازن الردع. بالمقابل، فإن المجتمع الصهيوني يتفكك؛ الثقة بالجيش والقيادة تتآكل، والانقسامات السياسية والأخلاقية تتعمق. الجنرال يتسحاق بريك اعترف بأن حرب غزة كشفت انهيار الجيش البري، وفضحت نخبة «القرود الثلاثة» التي لا ترى ولا تسمع ولا تقول الحقيقة، محذرًا من أن تكرار أخطاء الماضي يُنذر بسقوط داخلي يتجاوز كل حسابات الحرب. ورغم المجازر، فإن المقاومة تواصل عملياتها النوعية، وفي الأسبوع الأخير فقط، سقط أكثر من عشرين جنديًا من عصابات الإبادة. إنها رسالة حية: «حجارة داوود» لم تتوقف، والميدان لا يزال يحكم. أما الشعب، فقد تجاوز حدود الاحتمال البشري، ليصنع من الرماد بارودًا، ومن الجراح شعلة لا تنطفئ. الصمود هنا ليس رواية عاطفية، بل معجزة متكررة. والأهم، أن الالتفاف الشعبي حول رجال المقاومة لم يتزحزح؛ أهل الشهداء، العشائر، العائلات، وقفوا سدًا منيعًا ضد الخيانة، ولفظوا المتعاونين. لم تتشقق الجبهة الداخلية رغم الجوع والدمار. بل رسّخت غزة مبدأ: لا حياد في زمن الوضوح الأخلاقي. غزة اليوم تُعيد تعريف النصر: ليس من ينتصر عسكريًا، بل من يبقى واقفًا على الحق، مرفوع الرأس، ملتفًا حول مشروعه، متمسكًا بكرامته. الانتصار هنا في سقوط رواية الاحتلال، في انكشاف زيف دعايته، في تحوّل غزة إلى ضمير عالمي، وفي ولادة وعي مقاوم يصعب كسره. فمن ينتصر في غزة؟ من لا يُهزم، حتى وهو تحت الركام. من لا يبدّل، حتى وهو جائع. من لا ينهزم، حتى وهو يدفن أطفاله بيديه.. «وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» [الحج: 40].
* رئيس مركز غزة للدراسات والاستراتيجيات