رصد – نبض السودان

بعيون دامعة ونبرة حزينة سرد مأساته لصحيفة “اليوم التالي”

إنه الحكم الدولي “السابق”، وخبير التحکيم الدولی السوداني فيصل ميرغني أحمد حسين الشهير ب “فيصل سيحة”، الذي يعد من أفضل من حملوا صافرة التحكيم، قدمته كرة القدم كلاعب بنادي النيل العاصمي الذی حرس مرماه فی السبعينيات.

وقد لعب وواجه فطاحلة کرة القدم آنذاك من أمثال صديق منزول، وبرعی أحمد البشير، والمحينه وکذلك جکسا والدحيش وعلی جاجارين وماجد وبشار وبشری وهبة، وقد ساهم مع رفقائه من لاعبی النيل أمثال يوسف مرحوم والضرس ونجم الدين حسن فی فوز نادی النيل ببطولة دوری الخرطوم موسم 1963- 1964م.

وبعد اعتزاله في العام 1972م، اتجه إلى التحكيم، مواسم عديدة وهو يدير المباريات “بعد حصوله علی الشارة الدولية، وأمضی 14عاماً کحکم عامل باتحاد الخرطوم، وهو يدير المباريات حتى وصل رئاسة لجنة التحكيم المركزية بالاتحاد السوداني لكرة القدم، وبعد تقاعده عن ممارسة التحکيم عام 1995 واصل نشاطه کإداری بلجنتی التحکيم المحلي وکذلك باللجنة المرکزية بالاتحاد العام لکرة القدم.

يقول الرجل “الثمانيني” الذي بلغ من العمر عتيا: عند اندلاع القتال في الخرطوم في منتصف أبريل الماضي، كنت أسكن بشقتي الأرضية بحي بُري المحس العريق شرقي الخرطوم، بعد وفاة زوجتي اليونانية الجنسية حفيدة “كاترينا” رحمها الله، اشتدت وطأة المعارك بالحي ووجدت نفسي ذات صباح قد بقينا لوحدنا أنا وجار لي فقط بالحي، أصبح الطعام والشراب يقل عندي، حتى لم أجد ما أتناوله، ما اضطرني للخروج في رحلة صعبة محفوفة بالمخاطر ..

يواصل “سيحة” حديثه لــ“اليوم التالي” بعد أن أطلق زفرات من الألم والحزن من صدره، محاولاً أن يستجمع ذهنه.. قررت الخروج من بين نيران المدافع مضطراً بعد أن وجدت نفسي لوحدي وقد انقطع الزاد حتى خشيت أن لا أجد من يغمض عيناي للرحيل!

فكرت أن أستقل دراجتي البخارية “موتر فيسبا” التي كان في جوفها القليل من الوقود الذي بالكاد يسعفني إلى وجهتي..

في صباح باكر وفي الأسبوع الأول من شهر مايو 2023 توكلت على الله وامتطيت دراجتي وأنا أعبر طرق وشوارع موحشة ولكأني لأول مرة أسلكها من فرط الدمار والخراب ورائحة الموت التي تنتشر في كل ركن من أركان العاصمة التي عشنا فيها أجمل أيام حياتنا وأنا ابن سرحتها التي عرفتها وولدت في قلبها منذ أربعينيات القرن الماضي وترعرعت في كنفها وأحفظ جميع طرقها وشوارعها وحواريها ..

كنت أحدق فيها مودعاً لها في ظروف قاسية وغصة تخنق حلقي وأنا أستعيد في لمحة شريط من ذكرياتي، فقد ولدت بشارع السيد عبد الرحمن (السلطان سابقاً) فی 25 يوليو 1942، والحي الذی ولدت فيه يسمی الحي الشرقي في قلب الخرطوم، حيث مستشفی العيون وشارع المك نمر وترام الدوران الذی يأتي من أمام البنك التجاري السوداني سابقا ومباني البرلمان القديمة ويمر بمطعم الفوال ودکاکين السوق العربي أولاد کشه ومطعم بندی وعلي السيد وفرن سيحة ومنزل آل الشعار ومستشفی الراهبات وحوش البقر ومنزل آل السواحلي وغيره وغيره..

يقول “سيحة” كفكفت أدمعي وأنا أفيق من هذا الشرود على وقع قذائف ارتفع دويها بالقرب من طريقي وتصاعدت أعمدة الدخان التي اعتادت أن تلف سماء العاصمة المنكوبة..

يضيف: سلكت طريقاً طويلا وأنا أقصد مطار وادي سيدنا في أم درمان متعلقاً بأمل إجلاء بعد أن نفد كل ماعندي من أكل وشرب ومال ولم أعد أحمل غير قطع ملابس بسيطة ادخرتها كغيار..

عندما وصلت شاقاً طريقي الطويل إلى قبالة المستشفى الدولي المقابل لحي الشعبية بالخرطوم بحري، في طريقي لأعبر جسر شمبات إلى أم درمان، نادى عليّ جنود من الدعم السريع مدججين بالسلاح عند نقطة ارتكاز، ولضعف سمعي وأنا قد ناهزت ال(81) من عمري لم أرع لسمعهم، فلم أجد نفسي وإلا ملقى على الأسفلت من على ظهر دراجتي، بعد أن لكمني أحدهم بمؤخرة سلاحه، أصبت على إثرها إصابات متفرقة في جسدي وشج رأسي حتى غمرت الدماء وجهي وملابسي.. وتحطمت مقدمة دراجتي..

نجوت منهم بعدها بأعجوبة بعد أن عرفتهم بنفسي بمشقة، وصلت إلى مطار وادي سيدنا في حالة صعبة، ومددت جواز زوجتي اليونانية إلى سلطات طائرة بريطانية حربية هبطت لإجلاء أجانب، وكان أن تفهموا حالتي الإنسانية وضمد الصليب الأحمر جراحي، وأسعفوني بكرسي متحرك بعد أن عجزت ساقي من أن تحملني من فرط الإصابات..

هبطت بنا الطائرة في اليونان وأنا بالكاد استجمع قواي لأجد نفسي قد أسعفت إلى مستشفى مكثت فيها نحو يومين أجروا لي فيها عدة فحوصات ليقطعوا شكوكهم بعدم حدوث نزيف داخلي..

نقلت بعدها إلى مركز إيواء وأنا خالي الوفاض إلا من ملابسي التي على جسدي، لا أستطيع النوم حالياً حتى الصباح من الهم وأنا أفكر في كيفية توفير المطلوب مني من مال نحو “ألفي دولار” لتقنين وضعي باليونان ودفع رسوم الإقامة، قبل أن أنقل إلى مراكز المهاجرين غير الشرعيين، وأنا رجل مُسن لا أقوى على تلك الصعاب والازدحام.

خاصة وقد أغلق طريق العودة أمامي إلى الخرطوم في هذا الوضع غير الآمن بعد أن فقدت كل شيء فيها، وجاري يخبرني بأن شقتي قد أضحت “دلجة” نهبت من كل شيء، كما نهبت شقتي المفروشة المجاورة التي كنت أعتاش من دخلها خلال وجودي في الخرطوم.

ويختم الحكم الدولي “سيحة” حديثة لـ (اليوم التالي) بكلمات تفطر القلب يمزقها الحزن قائلاً: “أنا ابن هذا البلد البار “السودان” الذي كم أحببته وعشقت أرضه وأحببت حياته بأفراحها وأحزانها وأوجاعها وصعابها والعشم لاينقطع في أبنائه أصحاب الحارة، يكفكفوا دمعة المفجوع يحبو الدار يموتو عشان حقوق الجار يخوضو النار شان فد دمعة، وكيف الحالة لو شافوها سايلة دموع!.”

الحكم الدولي السابق/ فيصل سيحة               واتس اب 249129726322+

المصدر: نبض السودان

كلمات دلالية: القصف بالخرطوم تحت خرج من منزله

إقرأ أيضاً:

الأمة العربية.. مأساة وحدة ضائعة وكرامة مهدورة

 

 

د. سالم بن عبدالله العامري

في خضم التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها العالم، تتجلى مأساة الأمة العربية في صورتها الأكثر قتامة، حيث فقدت الأمة كثيرًا من مقومات وحدتها وقوتها، وتبعثرت كلمتها بين مصالح متضاربة وأجندات خارجية، وأصبح البعض يُولي اهتمامًا متزايدًا للعلاقات مع جهات غربية، رغم ما تكتنفه تلك العلاقة من اختلال في موازين الاحترام والمصالح، متجاهلين ما قد ينطوي عليه ذلك من مساس باستقلالية القرار ومكانة الأمة.

واليوم، تتجسد هذه التفرقة في مواقف الدول العربية المتباينة تجاه قضايا مصيرية، مثل القضية الفلسطينية، والأزمات في سوريا واليمن وليبيا، فضلًا عن التطبيع المُتسارع مع الاحتلال الإسرائيلي، الذي أصبح عند البعض حليفًا وشريكًا، رغم سجله الحافل بجرائم الحرب والاضطهاد. يُضاف إلى ذلك التبعية السياسية والاقتصادية للغرب، إذ باتت قرارات بعض العواصم العربية تُتخذ خارج حدودها، وتُنفذ على حساب مصالح شعوبها.

لقد آن للعربي أن يتأمل في مرآة تاريخه، لا ليبكي على الأطلال؛ بل ليقف على ما آل إليه حال أمته التي كانت يومًا منارة للعلم، وقلعة للمروءة، وراية للحق. أمة جمعها لسان واحد، وعقيدة واحدة، وتاريخ حافل بالمجد، تفرقت بها السبل حتى أصبحت كالغثاء، تتقاذفها رياح التبعية، وتنهشها مخالب الأعداء.

في مشهد اليوم، تبدو الأمة العربية كجسد بلا روح، فقد تمزقت أواصر الأخوة بين شعوبها، وغابت وحدة الصف والكلمة، وارتفع صوت العصبيات القُطرية والمذهبية على حساب الانتماء الأوسع، الذي كان، وما زال، يمثل صمام الأمان لهويتها ومكانتها. كيف لا؟ وقد استُبدلت البوصلة، وصار العدو صديقًا يُصافَح، والصديق المخلص يُشيطن ويُقصى، وكأن العقل قد نُزع من الرؤوس، والضمير غاب عن القلوب.

لقد باتت بعض الأنظمة تلهث وراء رضا الغاصب، وتفتخر بالتحالف مع من تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء من أبناء الأمة، في فلسطين والعراق وسوريا وغيرها. يُستقبل المحتل بالبساط الأحمر، بينما يُعتقل المناضل، ويُشيطن الحُر، ويُلاحق صوت الحق إن نطق. أما الغرب، الذي لا يزال ينظر إلينا بعين الاستعلاء، فهو المستفيد الأول من هذا الانقسام، يبيع لنا الأمن والشرعية، مقابل إذلال وخضوع، ويزرع الفتن ليحصد الهيمنة. وإن أشدّ ما يثير الحزن، أن هذا التنازل لم يكن ثمرة هزيمة عسكرية فحسب؛ بل كان نتاج هزيمة فكرية ونفسية، أفقدت الأمة ثقتها بذاتها، وحوّلت بعض الأنظمة إلى وكلاء، والشعوب إلى متفرجين، يتجرعون الذل على الشاشات، ويصرخون في صمت.

اللافت في هذا المشهد، أن الغالبية من الشعوب العربية لا تزال تحتفظ بوعيها الجمعي، وترفض الذل والهوان، وتطمح إلى وحدة حقيقية تضمن الكرامة والعدالة والسيادة. لكن هذا الوعي يصطدم بواقع تحكمه أنظمة لا تمثل الإرادة الشعبية؛ بل تسعى للحفاظ على سلطتها حتى وإن كان الثمن هو الخضوع والتبعية. لقد تجاوز المشهد حدود السياسة إلى خلل في البنية النفسية والحضارية، جعلت من الذل خيارًا، ومن الانكسار سياسة.

ومع ذلك، فإن الأمة لم تمت، وإن بدا عليها الوجع. فما زال في كل مدينة قلب ينبض، وفي كل قرية روح تقاوم، وفي كل جيل بصيص وعي يتخلق. الحجارة في القدس، والدم في غزة، والهتاف في شوارع العواصم، كلها تقول: إن الشعوب لم توقّع بعد على وثيقة الهزيمة، وإن للكرامة مكانًا في قلوب الأحرار. فوعي الشعوب العربية، وإن أُريد له أن يُدفن تحت ركام الدعاية والتضليل، لا يزال حيًا، يبحث عن لحظة انبعاث، وعن قيادة صادقة تُعيد ترتيب البيت العربي على أسس العدل والكرامة والسيادة.

إن المخرج من هذا الوضع المأساوي لا يكون إلا بعودة الوعي القومي والديني الحقيقي، وتوحيد الصفوف حول الثوابت التي لا خلاف عليها، والتحرر من كل أشكال الارتباط بالقوى التي تعمل على تقويض إرادة الأمة وسلب قرارها، وتجديد المشروع الحضاري العربي الذي ينطلق من إرادة الشعوب لا من مصالح النخب أو توجيهات الخارج؛ فالأمة التي أنجبت عمرًا والمعتصم وصلاح الدين، قادرة على أن تنهض من كبوتها، متى ما عادت إلى ذاتها، وطرحت عن كاهلها أثقال التبعية والتشرذم. ومتى ما اجتمعت الكلمة، وتآلفت القلوب، فإن الفجر لا بد أن يبزغ، مهما طال ليل الشتات.

في النهاية، يبقى الأمل معقودًا على الأجيال الجديدة، التي وإن عاشت في زمن الانقسام، إلا أنها تملك أدوات التغيير والمعرفة، وقادرة على قلب الموازين متى ما اجتمعت على هدف واحد: كرامة الأمة ووحدتها.

 

مقالات مشابهة

  • عن زلزال اليونان.. هذا ما كشفه خبير جيولوجي لبناني
  • جدّي ما بيعرف الدولار وأنا ما بعرف الليرة.. العملة التي قسّمت العائلة
  • المرأة تُسيطر على لجان تحكيم الدورة 25 من مهرجان روتردام للفيلم العربي
  • مصرع سوداني سقط من الدور الرابع بأحد عقارات الشروق
  • المرأة تُسيطر علي لجان تحكيم الدورة 25 من مهرجان روتردام للفيلم العربي
  • أصوات من غزة.. مأساة النزوح المتكرر وصعوبة التنقل
  • 55 ألف سوداني يدخلون تشاد جراء تصاعد العنف شمال دارفور
  • بعد البيان الثلاثي.. خبير قانوني: خطوة نحو كسر الصمت الدولي على جرائم إسرائيل في غزة
  • عاجل | مصدر حكومي سوداني للجزيرة: مسيرة للدعم السريع تقصف كلية التربية بجامعة الخرطوم جنوبي أم درمان
  • الأمة العربية.. مأساة وحدة ضائعة وكرامة مهدورة