"لو ذاقَ أيوبُ بعضاً من مصائِبِنا.. لكان سُمِّيَ أيوب الفلسطيني"

إن ما يكتبه الشعراء الصورة التي يراهم بها الناس ويشكل هوياتهم وتعريفهم الذي اشتهروا به، مثل قصيدة "نشيد الصعاليك" للشاعر حيدر محمود، الذي طُرد من وظيفته العالية بسببها.

وبعض الأبيات تذهب مثلاً شهيراً، ويُعرف أصحابها بها.. مثل هذا البيت الذي افتتحت به المقال، الذي سبب لشاعرنا تسمية أيوب، بسببه.

.

ومنذ يومين قرأتُ قصيدة متينة عن القدس، بعنوان "الأنبياء جميعهم فيها"، تساءلتُ في نفسي لمن هذه القصيدة الجزِلة الألفاظ والمعاني، فلم يتأخر جواب الغوغل أنها لحيدر محمود.. ونظراً لجمال القصيدة، قررتُ أن أكتب عن هذا الشاعر وأن أختم المقال بها.

ترجمته

هو حيدر محمود حيدر المولود عام 1942 في بلدة طيرة حيفا في فلسطين. لجأ مع عائلته عام 1948 إلى مخيم الكرامة في الأردن حيث درَسَ المرحلة الابتدائية في مدرسة الكرامة، وهناك بدأ بنظم الشعر وهو صغير.. ثم انتقلت أسرته إلى عمّان عام 1955، وهناك أنهى الثانوية العامة في كلية الحسين عام 1959، وتوقف عن التعليم مؤقتاً ليعمل في أعمال يومية يستطيع الاستعانة بمردودها على العيش. لكنه لم يتوقف عن المطالعة الخارجية وشراء الكتب وتثقيف نفسه..

في هذه الأثناء عمل كسكرتير تحرير في جريدة الجهاد المقدسية، ثم عمل لدى إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية. وذلك في بداية ستينيات القرن المنصرم، ثم ما لبث وأن أصبح كبير المذيعين فيها، وهو في بداية منتصف العشرينات من عمره، وذلك نظراً لاجتهاده وصوته الرخيم.

أُعجب به رئيس الوزراء وصفي التلّ (الذي شغل سابقاً منصب رئيس الإذاعة والتلفزيون)، فأوفده إلى بريطانيا لدراسة الإعلام، وحصل على شهادة البكالوريوس في الإعلام من لندن عام 1963.

بعد عودته، عمل في التلفزيون الأردني مذيعاً للأخبار، ومُعِداً للبرامج. ثم مراقِباً عاماً للإذاعة لثلاث سنوات. ثم انتقل إلى تلفزيون دبي لمدة سنة واحدة، عاد بعده في عام 1980 إلى الأردن بأمر من الملك حسين ليشغل، منصب مدير عام دائرة الثقافة والفنون لمدة ثماني سنوات.

أكاديمياً، حصل في تلك الفترة، على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة كاليفورنيا عام 1979. ونال الدكتوراه الفخرية من الأكاديمية العالمية للآداب في الصين.

بقي في منصب مدير عام دائرة الثقافة والفنون ثماني سنوات من عام 1980 إلى 1988. ثم أصبح مستشار رئيس الوزراء عام 1989، حتى كتب قصيدته الشهيرة "نشيد الصعاليك"!

ألقى الشاعر هذه القصيدة في احتفال أقامته جامعة اليرموك في أرربعين رحيل شاعر الأردن «عرار» واسمه مصطفى التل في 3 نيسان (أبريل) 1989، قبل هَبَّة مَعَان الكبيرة في 15 نيسان (أبريل)، انتقد فيها الفساد والمحسوبيات في الدولة.. فعُزل على إثرها من منصبه، واعتقلته المخابرات وسُجن. لكن الملك حسين أمر بإطلاق سراحه الليلة نفسها. وأُبعد عن العمل السياسي الداخلي في المملكة. وعُيّن مستشاراً لقائد القوات المسلحة لسنة واحدة، ثم سفيراً للأردن في تونس لمدة تسع سنوات (1991 ـ 2000).

يقول في قصيدته "نشيد الصعاليك":

عفا الصّفا، وانتفى، يا مصطفى            ..               وعلتْ ظهورَ خير المطايا شرُّ فرسانِ
فلا تَلُمْ شعبك المقهورَ، إنْ وقعتْ           ..               عيناكَ فيه، على مليون سكرانِ!
قد حَكّموا فيه أَفّاقينَ، ما وقفوا              ..                يوماً بإربدَ أو طافوا بشيحانِ
ولا بوادي الشّتا ناموا ولا شربوا           ..                من ماءِ راحوبَ، أو هاموا بحسبان!
فأمعنوا فيه تشليحاً وبهدلةً                   ..               ولم يقلْ أَحدٌ كاني ولا ماني!
ومن يقولُ؟ وكلُّ الناطقين مَضَوْا          ..                 ولم يَعُدْ في بلادي غيرُ خُرسانِ!
ومَنْ نُعاتبُ؟ والسكيّنُ مِنْ دَمِنا             ..                 ومن نحاسِبُ؟ والقاضي هو الجاني!
يا شاعرَ الشَّعبِ، صارَ الشّعبُ مزرعةً      ..                  لحفنةٍ من عكاريتٍ وزُعرانِ!
لا يخجلونَ، وقد باعوا شواربَنا               ..                  من أن يبيعوا اللحى، في أيّ دكّانِ!!
فليس يردعُهُمْ شيءٌ، وليس لهمْ         ..                  هَمُّ سوى جمعِ أموالٍ، وأعوانِ!
ولا أزيدُ. فإنّ الحالَ مائلةٌ                         ..                  وعارياتٌ من الأوراقِ، أَغصاني!
وإنّني، ثَمَّ، لا ظهرٌ، فيغضبَ لي               ..                    وإنّني، ثَمَّ، لا صدرٌ فيلقاني!
ولا ملايين عندي كي تُخلّصني              ..                    من العقابِ، ولم أُدعَمْ بنسوان!
وسوف يا مصطفى أمضي لآخرتي      ..                    كما أتَيْتُ: غريبَ الدّارِ، وحداني!

عودته

بعد عودته من تونس عام 2000، أصبح عضواً في مجلس الأعيان السادس والعشرين والسابع والعشرون.

ثم وزيراً للثقافة في (2002 ـ 2003) ومرة ثانية في حكومة 2003.

‏كتب الشعر الوطني في فلسطين والأردن، يعترض عليه البعض أن أردنيّته غلبت فلسطينيته، غير أن ذلك لم يكن مقياساً تنافسياً، وأن المغالبة غير موجودة بين الجنسيتين.. لذلك كثيراً ما يُعرّف عنه بالشاعر الأردني، فهو يُعتبر من أبرز الشعراء الأردنيين حيث كانت له إسهامات كبيرة في إثراء الحركة الثقافية الأردنية، وقد تُرجمت بعض أعماله الشعرية إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.

كان ينشر قصائده ضمن "رابطة الوعي الإسلامي"، وهي أول رابطة للشعراء من ذوي التوجه الإسلامي، وكان مقر الرابطة في سوريا. وهو يقترب من الصوفية من دون أن ينخرط فيها، يعجبه ابن عربي وكتابه "الفتوحات المكية" الذي يقول بأنه قرأه أكثر من عشرين مرة.

مؤلفاته

ـ يمرَ هذا الليل 1969
ـ اعتذار عن خلل فني طارئ 1979
ـ شجر الدفلى على النهر يغني 1981
ـ لائيات الحطب 1985
ـ من أقوال الشاهد الأخير 1986
ـ الأعمال الكاملة "الطبعة الأولى" 1990
ـ النار التي لا تشبه النار 1999
ـ الجبل 1999
ـ الأعمال الكاملة "الطبعة الثانية" 2001
ـ في البدء كان النهر 2007
ـ عباءات الفرح الأخضر 2008
ـ أراجيل وسيوف (مسرحية) 1969
ـ برجاس (مسرحية) 1977

التكريم والجوائز

ـ جائزة ابن خفاجة الأندلسي الإسبانية 1986 عن ديوان لائيات الحطب.
ـ جائزة الدولة التقديرية في الأردن عام 1990
ـ جائزة الشعر في جوائز الملك عبد الله الثاني للإبداع.
ـ وسام الاستقلال من الدرجة الثالثة سنة 1970
ـ وسام الكوكب الأردني من الدرجة الثانية سنة 1980
ـ وسام الاستقلال من الدرجة الأولى سنة 1991
ـ وسام الاستحقاق الثقافي من تونس سنة 1999
ـ وسام مئوية الدولة، من الملك في احتفال عيد الاستقلال بتاريخ 25 مايو 2021

صدر عن مؤسسة عبد الحميد شومان، كتاب جديد بعنوان "حيدر محمود.. شاعراً وإنساناً". ويتضمن الكتاب الذي يقع في 272 صفحة، يضم وقائع الندوة التي نظمتها المؤسسة تكريماً للشاعر باعتباره "ضيف العام" في 2016، وشارك فيها أكاديميون وكتاب ومثقفون أردنيون وعرب.

من أشعاره

قَدَرٌ أنْ تَسيلَ منكِ الدماءُ

قَدَرٌ أنْ تَسيلَ منكِ الدماءُ             ..               يا عَروساً خُطَّابُها الشًهداءُ
لستِ أرْضاً، كسائرِ الأرض         ِ..                لكنّكِ في أعينِ السًماءِ سَماءُ
من هنا تَبْدأ الطًريقُ إلى اللهِ          ..                وقد مَرّ مِن هنا الأنبياءُ
ويمُرّون من هنا كلما هَبَّ            ..                 نسيمٌ أو لاحَ منها سناءُ
ليقولوا للقادمين إلى الجَنّة            ..                 منها، بكم يطيبُ اللقاءُ
يا سخاءَ الشًتاءِ، في غَيْمِها           ..                  الرًاعِفِ هذا هو السّخاءُ السّخاءُ
كُلًما سالَ، قالت الأرضُ: زيدي      ..                  مَطَراً فالعُروقُ فيَّ ظِماءُ
مِنْ زمانٍ لم يَحْملِ الغَيْمُ غيثاً         ..                  من زمانٍ ما بلَّ ثَغريَ ماءُ
من زمانٍ لم يُطْلعِ الرَملُ ورداً           ..                 مِنْ زمانٍ لم تُمرعِ الصَحراءُ
من زمانٍ لم تصْهلِ الخيلُ                ..                 والنخلُ عقيمٌ.. والشَعرُ والشعراءُ
لَكِ يا قُدْسُ ما يليقُ بعيْنَيْك             ِ..                من الكُحْلِ، والدَمُ الحِنَاءُ
عَيْبُنا أنَنا عَجِزْنا عن الموتِ                    ..                 ولكنْ لم يَعْجَزِ الأبناءُ
فَلَقد أقبلوا، كأنَ صلاح الدين           ..                 فيهم، وفي يديْهِ اللواءُ
أيُها الطًيٍبونَ، لن تستجيب                ..               الأرض لكنْ سَتَسْجيبُ السَماءُ

نشيد إلى غزة

لك المجدُ يا أرضَ الشهادةِ
وانفضي غبارَ الأسى
 عن هذه الأَنْفُسِ التَّعْبى
 وَمُدّي إليها ريحَك الصَّرْصَرَ التي
 ستُخِرجُ منها الزَّيفَ، والخوفَ، والرٌّعبا
 فهذا أوانُ الحَسْمِ:  نُوشِكُ أنْ نرى
 ولو مرّةً نَصْراً يُعلّي لنا الكَعْبا!
 فأكبادُهم ليست أَعَزَّ من التي
 تُقَطِعُها سكّينُ أحقادِهِمْ إرْبا
 ولا دَمُهُمْ أغلى
 من الأحمر الذي يسيلُ غَزيراً
 وَهْوَ لم يقترفْ ذَنْبا!
 ويا رَمْلَنا المقَهورَ ثُرْ في شعابِنا
 وأَعْلِنْ على «كُلّ الصَهّاينةِ» الحَرْبا
 فلا كانت الصَّحراءُ صحراءَ عِزّنا
 إذا لم تَكُبَّ الطامعين بِها كَبّا
 ويا بحرُ أغْرِقْهُمْ بموجِكَ
 وابتلعْ أساطيلَهُمْ
 واشربْ بوارِجَهُمْ نَخْبا
 ليعرفَ «صُهيونٌ» ويعرفَ «رَبْعُهُ»
 بأنّ لهذا البحرِ من أهْلِهِ سُحْبا
وما شَهِدَ الغازونَ. مِنْ مُرّ طعنِهِمْ أَمَرَّ،
 ولا ذاقوا كضربِهِمو ضَرْبا!
 ويا "غَزّةَ الأحرارِ"،
 فَجْرُكِ قادِمٌ قَرِيباً
فإنّ اللهَ خَصَّكِ بالعُقْبى!!


الأنبياء جميعهم فيها
إنْ لم تُطارِدْهُمْ حجارةُ دُورِها
فَلَسَوْفَ يَخْنُقُهُمْ تُرابُ قُبورِها
شُهداؤها الأحياءُ حٌرّاسٌ على
أحيائها الشُّهَداءِ فَوْقَ صُخورِها
سَيُعاوِدونَ بِناءَ ما هَدَمَ العدا
وَسَيُخْرِجونَ "جِدارَهُمْ" مِنْ "سورِها"
الأنبياءُ جميعُهُم فيها، ومِنْ
أنفاسِهِمْ سَيفوحُ نَهْرُ عَبيرِهـا
قَسَماً بِهـا، وَهْيَ التي منها إلى
رَبِّ السّماءِ، يَمُرُّ دَرْبُ نَذِيرِهـا
لن يَسْلَمَ الغازي منَ الغَضَبِ الذي
يَمْتَدُّ بين شَهيقِها وَزَفيرِهـا
وَسَيَنْتَهي الليلُ الطويلُ، كما انتهت
كُلُّ الليالي، باكْتِمالِ بُدورِهـا
مَنْذورَةٌ عَيْني لِيَوْمِ لِقائِها
وهي الوَفِيَّةُ دائِماً لِنُذورِها
عَيْني على مِحْرابِها.. عَيْني على
أبوابِها، وعيونِها، وثُغورِها
عَيْني على زَيْتونِها يبكي على
"زَيْتونها" فَتَفيضُ أدْمُعُ "طورِها"
وأُسائِلُ الطّورَ العظيمَ: إلى متى
سَتَطولُ غيْبةُ نارِها عن نورِها؟
فَيُجيبُني: "والتّينِ والزّيتونِ" سوفَ
تَرَوْنَ.. حينَ ترَوْنَ "جَمْرَ" طُيورِهـا

*كاتب وشاعر فلسطيني

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير الفلسطيني الشاعر فلسطين مسيرة شاعر هوية سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الذی ی ـ وسام

إقرأ أيضاً:

الإسلاميون وفنّ الخضوع الممكن.. في نقد السياسة بلا فرق

السؤال الأكثر إلحاحا على الإسلاميين دائما، وبلا توقف، هو "ما العمل؟!".. ثمّة معان إيجابية في هذا السؤال، أو تبدو كذلك، باعتبار "نحن قوم عمليون" كما قال الشيخ حسن البنا، أو باعتبار أنّنا متعبَّدون بالعمل، وقد يشير السؤال إلى حالة الاستغلاق التي تواجهها الحركة الإسلامية منذ تأسيسها إلى اليوم، ولكن، وللمفارقة، يقصد السؤال، في بعض أوجهه، أنه لا عمل، ليس من جهة أنّ الحركة الإسلامية لا تعمل، أو لا تريد أن تعمل، ولكن من جهة أنّه ليس في الإمكان أحسن مما هو كائن، أي كلّ ما هو كائن صحيح وصائب، طالما أنّه خيارنا!

يحيل هذا المنطق إلى المعنى من وجود الحركة الإسلامية سياسيّا، أي ماذا تريد؟! وما هي رؤيتها؟! طالما أنّها مستعدة أن تسوّغ لنفسها، في لحظات معينة، كلّ ما تأخذه على غيرها، يتضح ذلك من موقف ظاهر لأوساط إسلامية واسعة من سياسات وخيارات العهد الجديد للحكم في سوريا، والذي وإن كان سليل حركة جهادية، وناجما عن ثورة، فإنّه يختار الانخراط بعمق في النظام الإقليمي وأبعاده الدولية، ولا يرى خيارا أفضل للاستمرار، أو بحسب بعض المفاهيم الإسلامية الأثيرة لـ"التمكين"، وللتمكن من النهوض بالعبء السوري الهائل استقرارا وإعادة إعمار وبثّ حياة.

يتضح ذلك من موقف ظاهر لأوساط إسلامية واسعة من سياسات وخيارات العهد الجديد للحكم في سوريا، والذي وإن كان سليل حركة جهادية، وناجما عن ثورة، فإنّه يختار الانخراط بعمق في النظام الإقليمي وأبعاده الدولية، ولا يرى خيارا أفضل للاستمرار، أو بحسب بعض المفاهيم الإسلامية الأثيرة لـ"التمكين"
تنبغي الإشارة، والحالة هذه، حتى لا يلتبس الأمر، إلى أنّ الكلام متجه إلى موقف الإسلاميين من خيارات بعضهم في الحكم، وليس إلى السوريين من حيث آمالهم وتطلعاتهم في حياة يلتقطون فيها أنفاسهم بعد حرب مدمرة طالت 14 عاما. تتحدث تلك الأوساط من الإسلاميين، عن السياسة بوصفها "فنّ الممكن"، فهي بهذا الاعتبار منفتحة على كلّ الخيارات، وقابلة لكل الاحتمالات، ومجرّدة من كلّ الضوابط، وطالما كانت السياسة كذلك، فإنّ السؤال الذي ينبغي أن يطرحه الإسلاميون على أنفسهم، هو الفارق الذي يمكنهم أن يصنعوه بممارستهم السياسية، أو بكلمة أخرى، طالما أنّ السياسة لا محددات أخلاقية لها، فما معنى ممارسة السياسة باسم الإسلام؟!

عارض الإسلاميون حكومات وأنظمة، وقاتلوا بعضها إن كانوا جهاديين، وانحازوا في أحوال إلى ثورات شعبية عليها، بيد أن تلك الحكومات والأنظمة كانت تدعي أعذارا تفسّر بها عجزها عن إنجاز ما طالب به الإسلاميون، أو تبيح بها بعض خياراتها التي رفضها الإسلاميون، كاختلال موازين القوى، وحدّة التعقيد في التدافع السياسي والاقتصادي والاجتماعي من أدنى مستوياته إلى أوسعها كونية، ومن شأن تلك الحكومات والأنظمة أن تشجب "العنتريات"، وتدين "التهور"، وتعلي من شأن العقلانية، وأن تعيد التأكيد على كون السياسة هي "فن الممكن"، فحينما يكرّر الإسلاميون، اعتذارا منهم لأنفسهم ولمن يحبون، الأعذار نفسها، فأيّ إضافة يقدّمونها حينئذ بممارسة السياسة باسم الإسلام؟!

هل ثمّة إضافة في اتخاذ الإسلاميين خيارات هاجموها من قبل لما اتخذتها حكومات قبلهم؟! هل تختلف طبيعة الخيارات المرفوضة حينما تختارها أيد متوضئة ولحى طويلة؟! ليس النقاش هنا إن كان من حقّ الإسلامي أن يأخذ الفرصة ليحكم أم لا، ومن ثمّ فليس الأمر مقارنة بينه وبين غيره ممن عارضهم أو قاتلهم من حيث الفرصة، وقد أخذوا عقودا متصلة من الزمن فرصتهم، ولكنّ النقاش في استعادة السياسات القديمة نفسها بوجوه جديدة، سياسات كانت من أسباب المعارضة أو القتال أو الرفض. وبالرغم من ذلك، فحتى المطالبة بالفرصة والانتظار، تستدعي وضوح الرؤية والوعد بحيث يعلم الناس كيف سيوسّع هذا الإسلامي فرصه وإمكاناته في الحكم، وما هي المشاكل التي سيحلّها بنحو عجز عنه سابقون، وهذا لا يجاب عليه فقط بالقول "السياسة فن الممكن".

لكن وبالتجاوز عن ذلك، كيف إذا كان هذا الممكن مرهونا بشروط الهيمنة الإقليمية والدولية؟ هل ستصير أسباب الرفض للحكومات والأنظمة أسبابا للتمكين للحكومات الإسلامية؟! هل سيكون مقبولا مثلا إدارة سجون لـ"C.I.A" في البلاد العربية؟! هل سيصير التطبيع ثمنا محتملا لأيّ غرض كان، كإنجاح التجربة؟! (ومفهوم النجاح شديد الالتباس فيما يكتبه ويقوله بعضهم)، هل ينبغي الدفاع عن الحكم الجديد في سوريا مثلا لو ثبت أنّ هذه الإدارة تعاونت في تسليم رفات الجندي "تسفيكا فلدمن" وأرشيف الجاسوس "إيلي كوهين"؟! (هذه التساؤلات لا تتهم الإدارة الجديدة بالتورط في ذلك، ولكنها تسائل ميلا غريزيّا عند بعض الإسلاميين إلى الإنكار إن مسّهم الاتهام مهما قويت القرائن، أو كان التساؤل وجيها أو مشروعا، ثم التسويغ تاليّا، باعتبار أنّ النوايا المضمرة تحتمل تنازلات مؤقتة إلى حين التمكين)!

هذا كلّه دون نقاش الجوهر السياسي، وهو إمكانية التحرر لاحقا من الشرط المفروض بعد قبوله والتزامه ابتداء في بنية سياسية شديدة الإحكام، ولم يعد فيها بالإمكان التأسيس لموقع سياسي في الإقليم والعالم فقط من خلال الدولة، بعد كلّ التحولات العميقة التي جرت على النظام العالمي، وخلقت شبكات بالغة التعقيد من المصالح، بحيث لا يمكن بالقبول بهيمنتها ابتداء؛ واختراق جدارها نحو فضاء مستقلّ أو أرحب. ولكن، ومرّة أخرى، وبالتجاوز عن ذلك، هل هذا ما كان يعد به الإسلاميون من ممارسة السياسة باسم الإسلام؟! أي انتهاج خيارات السابقين، ولكنّ معناها ومآلاها معهم سيكون مختلفا لأنّ الفاعل مختلف؟! هل كانت هذه الخيارات مرفوضة لذاتها أم كان الرفض لفاعلها؟! وهل كان رفض الفاعل السابق إلا لأنه التزم هذه الخيارات مختارا أو مكرها؟!

السياسة وبما هي إدراك لموازين القوى، لا تبدو موازين القوى فيها مُدركة بما هي موازين قوى لبعض هؤلاء الإسلاميين، الذين لديهم جنوح مفزع للدفاع عن خيارات جهات محددة
وعلى أية حال، فإنّ السياسة وبما هي إدراك لموازين القوى، لا تبدو موازين القوى فيها مُدركة بما هي موازين قوى لبعض هؤلاء الإسلاميين، الذين لديهم جنوح مفزع للدفاع عن خيارات جهات محددة، أردوغان مثلا أو الإدارة السورية الجديدة، وإدراكهم لموازين القوى لا يتجاوز محو حدود المناورة، بدعوى الاضطرار أو الاحتياج أو انعدام البديل، دون النظر إن كان هذا كافيا للوصول إلى شيء، فمجرد الخضوع لموازين القوى ليس شرطا موضوعيا لأيّ إنجاز، ومن ثمّ تجري إعادة توهّم لموازين القوى منفصلة عن الواقع تماما. فموازين القوى لا بدّ من مراعاتها، ولكن مراعاتها لا تعني بالضرورة الخضوع، بل هي قد تفيد بأنّ الخضوع لها غير مجد، وحتى لو كان هذا الخضوع مفيدا من حيثية ما، فاعتبار موازين القوى لا يكون من زاوية إحسان الظن بالفعل أو إساءة الظن به!

تتضح هذه الفكرة بالمثال، فقد بدأ إسلاميون، بعضهم من مصر، محاولة إعادة تقديم أوراقهم للإقليم، مستدلين بالتحول الذي حصل في سوريا، حينما قبلت دول الإقليم والعالم جهاديّا سابقا، فتوهموا أنّ الأمر مهارة في المناورة، وجدية في إثبات القدرة على التفاهم، وهذا هو الإسقاط الفادح لمعنى موازين القوى، فهل مصر كسوريا؟! وهل السياق الذي جاء فيه هذا الجهادي هو نفسه الذي صعد فيه الإخوان المسلمون إلى حكم مصر؟! وهل مشكلة الإسلاميين في العالم كله في التفاهم؟!

وقّع سعد الدين العثماني من موقعه رئيسا للحكومة المغربية اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، فلم يفد ذلك حزبه "العدالة والتنمية" إلا تقليص حضوره في الحالة السياسية المغربية، وانحازت "حمس" في الجزائر في العشرية السوداء للدولة، والتحالف مع الدولة صراحة وضمنا؛ كان خيار العديد من الحركات الإسلامية، التي لم تكفّر حاكما ولم تطلق رصاصة على غربيّ، ومع ذلك لم تستفد شيئا! وهذا علاوة على ما يمكن قوله بشأن الإخوان المسلمين في العراق ومشاركتهم في مجلس الحكم الانتقالي بعد غزو أمريكا للعراق، أو في أفغانستان إبان الغزو الأمريكي ومشاركتهم في تحالف الشمال.

النقاش هنا ليس في صواب ذلك كله من حيث نفس الأمر، ولا يقصد مطالبتهم بالعمل في هوامش غير متاحة، أو دعوتهم لبطولة مستحيلة، ولكن للقول إنّ المشكلة لم تكن أبدا في موضوع التفاهم هذا، وأنّ إحسان الظنّ من عدمه ليس أداة تحليل، وهذا التوضيح كذلك لا يتضمن تزكية لتلك المحاولات المشار إليها أعلاه، بل يتجاوز تقييمها إلى تفكيك منطقها المؤسس.

أخيرا هذه حماس، كانت أقلّ الاتهامات التي تنالها من الفصيل نفسه الذي انحدر منه أحمد الشرع، هي الميوعة العقدية والسياسية، إن لم يصعد الاتهام إلى تكفيرها، وهي -أي حماس- لم تُكفّر مسلما، ولم تقاتل أحدا رفع علما وطنيّا، علم فلسطين أو غيره، بدعوى أنه راية جاهلية عَمِية، بل هي ترفعه وتُضمِّنه شعارها، وأعلنت منذ تأسيسها أنّ جسورها ممدودة إلى أيّ أحد في العالم طالما أنّه قبل منها ذلك، ولم تطلق رصاصة واحدة على أحد خارج فلسطين، وبالرغم من ذلك، ظلّت القطيعة، أو العلاقة الخجولة، هي الغالب على صلات العرب بها، علاوة على العالم. وهذا يعني أنّ القضية ليست في مدى قدرتك على إثبات جديتك في التفاهم مع العالم، ولكن لهذا العالم أسبابه الكثيرة لرفضك!

x.com/sariorabi

مقالات مشابهة

  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة في تغريدة عبر X: تلقى الشعب السوري اليوم قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا، وإننا نثمن هذه الخطوة التي تعكس توجهاً إيجابياً يصب في مصلحة سوريا وشعبها، الذي يستحق السلام والازدهار، كما نتوجه بال
  • مالك حداد.. الشاعر والروائي الجزائري الذي عاش حالة اغتراب لغوي
  • الإسلاميون وفنّ الخضوع الممكن.. في نقد السياسة بلا فرق
  • في ذكرى رحيلها.. سناء يونس "زهرة الكوميديا الهادئة" التي أخفت زواجها من محمود المليجي حتى النهاية
  • تحيةً للشيخ المعمم الذي نعى الشاعر موفق محمد عبر المنبر الحسيني الشريف ..
  • محمود عباس في لبنان الأربعاء لتحديد أطر سحب السلاح الفلسطيني
  • غسان حسن محمد.. شاعر التهويدة التي لم تُنِم. والوليد الذي لم تمنحه الحياة فرصة البكاء
  • حريق يقتل 17 شخصا على الأقل في حيدر اباد بالهند
  • مصرع 17 شخصا بينهم أطفال في حريق مروع بمدينة حيدر أباد الهندية
  • حيدر: عندما تأتي الأموال نحن حاضرون