بقلم: نزار بولحية
فيما لا تزال الرباط تنظر بقلق عميق، كما جاء في بيان خارجيتها في السابع من أكتوبر، إلى العدوان الذي تشنه تل أبيب منذ ذلك التاريخ على غزة، يراقب الإسرائيليون بدورهم عن كثب، تفاعل البلد المغاربي الوحيد الذي يقيمون معه علاقات دبلوماسية مع ما يجري في المنطقة. إنهم يلاحظون جيدا، ومن دون شك، كيف أنه كلما طال أمد الحرب، ابتعد المغاربة عنهم واقتربوا أكثر فأكثر من الفلسطينيين، وهذا وحده قد يمثل لهم مصدر توجس وانزعاج.
إن أكثر من نقطة استفهام أثارتها الخريطة التي ظهرت على أحد جدران المكتب الذي استقبل فيه نتنياهو في مقر وزارة الحرب رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا مليوني، وبانت فيها الصحراء مفصولة عن الأراضي المغربية، وحتى إن قيل لاحقا إن تلك الخريطة قديمة، وإنه لم يكن القصد من إبرازها هو إظهار أن الإسرائيليين قد تراجعوا عن اعترافهم بمغربية الصحراء، فإن كل تلك الحجج تبدو واهية وغير مقنعة.. فلم يكن نتنياهو حتى وهو في غمرة انشغاله بالحرب غير مدرك لما يمكن أن تعنيه مثل تلك الإشارات في مثل هذا الظرف بالذات. والثابت اليوم أنه وعلى فرض أن يتمكن من الحفاظ على منصبه بعد انتهاء حربه على غزة، وهذا ما لا يبدو بعد في حكم المؤكد، فإنه لن يكون بوسعه أن يزور العاصمة المغربية في غضون الأسابيع، وربما حتى الشهور القليلة المقبلة، كما كان مفترضا من قبل. لقد قال له العاهل المغربي في الرسالة التي بعثها له الصيف الماضي ليشكره على اعترافه بمغربية الصحراء ويدعوه إلى زيارة المغرب: «كما سبق وأكدت لكم خلال محادثتنا الهاتفية بتاريخ 25 ديسمبر 2020 فإني أرحب بكم للقيام بزيارة إلى المغرب في موعد يحدد عبر القنوات الدبلوماسية بما يناسبنا معا».
ومن الواضح الآن أن التجاوزات والفظاعات التي تمعن تل أبيب في ارتكابها في غزة، تقف حاجزا منيعا أمام التوصل إلى تحديد مثل ذلك الموعد المناسب للطرفين. لقد عصفت الأحداث التي تتالت منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى» وما تلاها من تشديد للحصار على القطاع وارتكاب الإسرائيليين لمجازر مريعة بحق سكانه المدنيين، بكل التوقعات التي ظهرت في وقت من الأوقات وأشارت إلى قرب حدوث تلك الزيارة. وانتقل الحديث من ترقب قدوم هذا المسؤول الإسرائيلي أو ذاك، إلى تتالي التوصيات للإسرائيليين بعدم زيارة المغرب، وآخرها ما صدر السبت الماضي عن جهاز الأمن القومي للإسرائيليين من تحذير لهم من زيارة المغرب ودول عربية وإسلامية أخرى «خشية أن يصبحوا أهدافا للغاضبين من الحرب المستمرة على قطاع غزة»، لكن ما الذي حصل بالضبط؟ وهل خاب أمل الإسرائيليين بالمغاربة، وكان سقف انتظاراتهم منهم في أعقاب الهزة السياسية والعسكرية التي ضربتهم في السابع من أكتوبر أعلى من اللازم؟ ثم ما الذي انتظروه منهم بالضبط؟ الأرجح أن ينأوا بأنفسهم وأن يحاولوا الوقوف على مسافة واحدة من المعتدي والمعتدى عليه قد يقول البعض، غير أن السؤال هنا هو هل كان من السهل على الرباط أن تفعل ذلك وملكها هو رئيس لجنة القدس؟ وهل كان ممكنا لها أيضا أن تغمض أعينها وتتجاهل معاناة الفلسطينيين وآلامهم وتمضي بعيدا لتصطف مع الدول الغربية، التي أبدت تعاطفها وتضامنها مع المعتدين؟
لقد أشار كثيرون ومن دون شك إلى العلاقات التي تجمع الطرفين، ولعل هناك من استعاد بوجه خاص ذلك الاتفاق الموقع بينهما قبل نحو عامين، والذي وصف في ذلك الحين بالتاريخي وغير المسبوق، واعتبره الجانب الإسرائيلي شاملا لأكثر من مجال من مجالات التعاون الأمني «بمختلف أشكاله» في «مواجهة التهديدات والتحديات التي تعرفها المنطقة»، وفقا لما جاء في بعض التصريحات. لكن حتى إن حصل المغرب نسبيا على ما كان يريده من وراء العلاقات، فهل كان بوسعه أن يدعم العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني؟ قطعا لا، وحتى إن اعتبر البيان الذي أصدرته الخارجية المغربية في السابع من أكتوبر الجاري وأعربت فيه عن «قلقها العميق جراء تدهور الأوضاع واندلاع الأعمال العسكرية في قطاع غزة»، وأدانت استهداف المدنيين من أي جهة كانت، قبل أن تدعو إلى «الوقف الفوري لجميع أعمال العنف والعودة إلى التهدئة وتفادي كل أشكال التصعيد التي من شأنها تقويض فرص السلام في المنطقة»، ضعيفا وفضفاضا ولم يتضمن ما يكفي من عبارات الإدانة القوية والصريحة للعدوان الإسرائيلي الغاشم على الشعب الفلسطيني، فإن المواقف والبيانات التي تلته والتي صدرت سواء عن الخارجية في أعقاب قصف مستشفى المعمداني، أو من مجلس النواب المغربي كانت تشير وبوضوح أكبر إلى أي جانب يقف المغرب في حرب الإبادة التي تستهدف قطاع غزة. وبغض النظر عن البيانات فإن واحدا من المطالب التي رفعها المتظاهرون في المسيرة الضخمة، التي شهدتها الرباط للتضامن مع غزة، قد تحقق الان ولو بشكل غير مباشر، فلم يعد مكتب الاتصال الإسرائيلي في العاصمة المغربية مفتوحا. وهذا وحده ليس بالقليل. أما هل أغلقه الإسرائيليون من تلقاء أنفسهم ومن جانب واحد تحسبا لأن يطاله غضب الشارع المغربي؟ أم أن سلطات البلد المضيف هي التي أشارت عليهم أو طالبتهم بذلك؟ فهذا ما يمتنع الطرفان عن التصريح به. غير أن أغرب ما حصل في خضم ذلك هو أنه وفي الوقت الذي بات فيه معلوما للجميع، وكما أكده أكثر من مصدر إعلامي أن مدير المكتب وجميع العاملين فيه قد غادروا الأربعاء الماضي الرباط، فإن الإسرائيليين بدوا مصممين على نفي الخبر وإنكاره. إذ لم يتورعوا الخميس الماضي عن القول، وعلى لسان المتحدث باسم خارجيتهم في حديث صحافي إلى صحيفة: «إن تل أبيب لم تقم بإغلاق» المكتب وإنما قامت بما وصفها بـ»إجراءات متعلقة بظروف معينة»، قبل أن يضيف أن «إسرائيل تؤكد لجميع المغاربة أن العلاقات بين تل أبيب والرباط مبنية على أسس قوية ومتينة، وأنها لن تسمح لأي طرف كان بأن يمس بها». والسؤال الذي قد يطرحه ذلك هو هل يمثل انسحابها الدبلوماسي من المغرب بداية انتكاسة لمشروعها في الشمال الافريقي؟ ربما سيكون من المبكر الجزم بذلك أو توقع نهاية «التطبيع» الرسمي بين الرباط وتل أبيب بقرار أحادي الجانب. لكن سيكون من الصعب أيضا وبعد العدوان على غزة أن تحافظ العلاقة بين الطرفين على زخمها. وبالنسبة للمغاربة فإنهم يحاولون الموازنة بين ما يقتضيه التزاماتهم تجاه القضية الفلسطينية، وما يفرضه عليهم بحثهم عن حسم نزاع الصحراء.
كاتب وصحافي من تونس
المصدر: أخبارنا
كلمات دلالية: تل أبیب
إقرأ أيضاً:
NYT: كيف كشفت أزمة الأسير ألكسندر عن شرخ في علاقات واشنطن وتل أبيب؟
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، مقالا، للمحللة المختصة بالشؤون الإسرائيلية لدى مجموعة الأزمات الدولية، ميراف زونسزين، قالت فيه: "عندما أُطلق سراح عيدان ألكسندر، وهو جندي إسرائيلي يحمل الجنسية الأمريكية والإسرائيلية، من حماس، بدت الصور التي رافقت إطلاق سراحه وكأنها عملية أمريكية وقعت بالصدفة في إسرائيل".
وأوضحت زونسزين، في المقال الذي ترجمته "عربي21" أنّ: "المفاوض الأمريكي بشأن الأسرى، آدم بوهلر، الذي أجرى محادثات مباشرة مع حماس في أذار/ مارس، هو من رافق والدة ألكسندر في الرحلة من منزلها في أمريكا إلى إسرائيل، وكان المبعوث الأمريكي، ستيف ويتكوف، هو من سلّمها هاتفا للتحدث مع ابنها لحظة إطلاق سراحه".
وتابع المقال: "سلّطت عناوين الأخبار، الضوء، على مكالمة الرئيس ترامب الهاتفية مع ألكسندر. كانت الرسالة واضحة: ترامب، وليس رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، هو من أخرج الجندي الإسرائيلي من غزة".
وأضاف: "هذه ليست إدارة ترامب التي كان نتنياهو ينتظرها بفارغ الصبر. ففي كل قضية استراتيجية وجيوسياسية مهمة تقريبا تهم إسرائيل (من السعي إلى اتفاق نووي جديد مع إيران إلى وقف إطلاق النار مع الحوثيين، ومن احتضان النظام السوري الجديد إلى التفاوض مباشرة مع حماس بشأن إطلاق سراح الأسرى)، لا يتجاوز ترامب إسرائيل فحسب، بل يتحرك في اتجاه مختلف تماما عما كان سيختاره نتنياهو".
"لقد همشت الإدارة الأمريكية إسرائيل مرارا وتكرارا. وبذلك، تمكن ترامب وفريقه من فضح سياسة التدمير الإسرائيلية وإخفاقات زعيم إسرائيل، الذي كان نجاحه الوحيد هو البقاء في السلطة، عبر مواصلة الحرب المستمرة" استرسل المقال نفسه الذي ترجمته "عربي21".
وأبرز: "هذا لا يعني أن هناك أزمة مفتوحة بين ترامب ونتنياهو، أو أنّ إسرائيل فقدت الولايات المتحدة كأقوى حليف لها أو حتى أن ترامب سيجبر إسرائيل على وقف الحرب في غزة. في الواقع، في غزة، تركت الولايات المتحدة ائتلاف نتنياهو وشأنه في الغالب".
ومضى بالقول: "عندما جلس نتنياهو مع ترامب في المكتب البيضاوي في شباط/ فبراير، بعد فرض وقف إطلاق النار في غزة، تلقى هو وائتلافه اليميني المتطرف هدية فكرة ترامب "ريفييرا غزة"، والتي منحت الشرعية لفكرة النزوح الجماعي للفلسطينيين من غزة. إذ قدمت إدارة ترامب منذ ذلك الحين المزيد من الدعم والأسلحة لإسرائيل، بما فيها القنابل التي يبلغ وزنها 2000 رطل والتي حظرها الرئيس جو بايدن، وقيل إنها طرحت فكرة نقل مليون فلسطيني إلى ليبيا".
وأردف: "لكن ترامب يتحدث عن "إنهاء هذه الحرب الوحشية للغاية"، بينما يعد نتنياهو الآن علنا، بالسيطرة على جميع أجزاء غزة، والنصر الكامل"، مشيرا إلى أنه: "منذ أن انتهكت إسرائيل وقف إطلاق النار في آذار/ مارس، قُتل أكثر من 3000 من سكان غزة، جلهم مدنيون. وأدت سياسة إسرائيل لتجويع مليوني نسمة من سكان غزة المتبقين، وهو ما أقر به ترامب عند مغادرته منطقة الخليج في 16 أيار/ مايو، رغم أنه لم يمنع حدوثه".
ووفقا للمقال فإنّ: "إسرائيل لا تزال بعيدة كل البعد عن تحقيق النصر. ففي 18 أيار/ مايو، وبعد أكثر من شهرين من تجميد جميع المساعدات إلى غزة، بزعم استفادة حماس منها، وافق نتنياهو على مضض على دخول مساعدات رمزية فورا بعد أن حذرت الولايات المتحدة والجيش الإسرائيلي من أن القطاع على شفا مجاعة شاملة".
"الآن، أصدرت بريطانيا وفرنسا وكندا، بيانا، يهدّد باتخاذ إجراءات عقابية، بما في ذلك فرض عقوبات على إسرائيل، إذا لم توقف هجومها العسكري المتجدد وتسمح فورا بدخول المزيد من المساعدات" تابع المقال ذاته.
وأضاف: "نتنياهو يجد نفسه في مأزق متزايد. لم يعد بإمكانه إلقاء اللوم على إدارة بايدن لعرقلتها له في غزة كسبب لعجزه عن هزيمة حماس. كما لم يعد بإمكانه إلقاء اللوم على وزير دفاعه أو رئيس أركان جيشه أو من يقودون فريق التفاوض، أو حتى على أحد كبار قادة حماس، محمد السنوار، الذي أفادت التقارير أنّ: إسرائيل استهدفته في 13 أيار/ مايو".
وأورد بأنّ: "هناك أزمة بين جنود الاحتياط الذين يعانون من مزيج من التعب وانعدام الدافع لعملية لا يعتقدون أنها ستحقق أهدافها، ويتفاقم ذلك بسبب مطالبة شركاء الائتلاف المتشددون بقانون لإعفاء ناخبيهم من الخدمة العسكرية. غالبية الجمهور الإسرائيلي وكتلة من رؤساء المؤسسة الأمنية الإسرائيلية السابقين يفضلون صفقة أسرى لإنهاء الحرب. لقد لجأوا مباشرة للضغط على ترامب، على أمل أن يجبر نتنياهو على ذلك، كما فعل الرئيس لتأمين إطلاق سراح ألكسندر".
وأضاف: "يبدو أن البيت الأبيض قد رأى أخيرا نتنياهو على حقيقته: زعيم إسرائيلي ضعيف لا يملك ما يقدمه لترامب، الذي يبدو مهتما بالأعمال التجارية، وجائزة نوبل للسلام. أكثر من اهتمامه بمواصلة تمويل حرب لا نهاية لها".
وأكد: "هذا تحوّل كبير. فبعد فوز ترامب في الانتخابات، رأى نتنياهو حليفا يدخل البيت الأبيض. فهو، في نهاية المطاف، الرئيس نفسه الذي اعترف بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في ولايته الأولى. وهو الرئيس نفسه الذي حمى نتنياهو، منذ عودته إلى منصبه، من مذكرة اعتقاله الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بفرض عقوبات على المحكمة والإشراف على حملة لقمع حرية التعبير وتفكيك النشاط المؤيد للفلسطينيين في الولايات المتحدة".
"الآن، أصبح الرئيس هو من ترك نتنياهو يبدو أكثر عزلة وإذلالا وعجزا من أي وقت مضى" أبرز المقال ذاته، مردفا بأنّه: "قبل بضعة أشهر، بدت إسرائيل وكأنها تُحقق مكاسب تاريخية في صراعها المستمر منذ عقود على الهيمنة في الشرق الأوسط: سحقت حزب الله في لبنان، وتركت إيران عُرضة للخطر، وساهمت في سقوط نظام الأسد في سوريا".
واختتم المقال بالقول: "أما اليوم، أصبحت إسرائيل مجرد صدفة. لم يبقَ للبلاد سوى جيش ماهر في المراقبة والتدمير، وقائد أتقن فن البقاء السياسي من خلال سحق المعارضة والتلاعب بالروايات. تحالف نتنياهو، المؤلف من مستوطنين يمينيين متطرفين ويهود متشددين، متماسك لأنه لا يملك ملاذا آخر".
واستطرد: "لا يزال السؤال مطروحا حول ما إذا كان ترامب سيُجبر نتنياهو أخيرا على إنهاء الحرب على غزة، لكن قدرة إسرائيل على توجيه دفّة الحوار أو تشكيل ديناميكيات المنطقة قد تضاءلت بشكل كبير بسبب حملتها التي لا نهاية لها".
وأضاف: "ما يُسوّقه نتنياهو لم يعد له من يشتريه. يبدو في هذه الأيام محاصرا. السؤال هو كيف سيخرج من هذا المأزق هذه المرة وكم من الأرواح ستزهق بعد ذلك".