الجزيرة:
2025-05-14@21:39:40 GMT

الحكَّاء (47) | البحث عن المعنى

تاريخ النشر: 29th, June 2023 GMT

الحكَّاء (47) | البحث عن المعنى

(1)

إلى أي درجة يمكننا تحمُّل الألم؟ ماذا إذا وصل إلى ذروته، إلى تلك الدرجة التي لا نطيقها بحال من الأحوال، وعندها تنهار دفاعاتنا بالكلية؟

ماذا إذا قدَّم لنا معالج نفسي الحل؟ وبدلًا من أن يجربه علينا، تشاء الأقدار أن يكون هو -رغمًا عنه- محل التجربة.

يتزوج فيكتور في عام 1942 لكن بعد 9 أشهر من زواجه تلقي القوات النازية القبض عليه، وترسله إلى معسكر أوشفيتز النازي الشهير، لتبدأ رحلته الأقسى والنقطة الفارقة في حياته

(2)

فيكتور فرانكل هو الابن الأوسط لعائلة نمساوية تدين باليهودية، يعتني منذ بدايات حياته بأمور علم النفس، ويولي دراستها وفهمها أهمية كبرى إلى الحد الذي ما إن ينهي يومه الدراسي في مدرسته الثانوية حتى يندسَّ في فصول علم النفس التطبيقي الليلية.

يكبر الفتى ويكبر هيامه بعلم النفس، فيقصد محاضرات سيغموند فرويد الذي كان أهم رواد التحليل النفسي في ذلك العصر وأكثرهم شهرة.

في عام 1923، بعد نهاية الدراسة الثانوية، يبدأ الفتى دراسة الطب بجامعة فيينا، وفي العام التالي ينشر أول ورقة بحثية له في دورية علمية، ليصبح -فيما بعد- من أشهر معارضي مدرسة سيغموند فرويد التي تحصر المشاعر والأفكار العاطفية في قالب محدَّد، ويكون من أبرز روَّاد المدرسة المنتقدة له.

تشهد سنواته التالية في الجامعة توسعًا في دراسة علم النفس، لكنه يظل متمركزًا حول فكرة واحدة بعينها يراها بعين الأهمية، وهي "المعنى في حياة الإنسان"، وكيف يمكن أن يشكِّل وصول الإنسان إلى معنى ذي قيمة في حياته سببًا للتعافي والنجاة والبقاء في أصعب الظروف.

لم يكتف فيكتور بالاحتفاظ بفكرته حبرًا على ورق، وإنما سعى لتحويلها إلى شيء ذي قيمة بالفعل؛ فدرس مع بعض زملائه بدءًا من عام 1928 سبب التزايد الواضح في انتحار الشباب في فيينا، وخاصة من فئة الطلاب، وقرروا إنشاء مركز لدراسة تلك الحالة مقدِّمًا خدماته بالمجان للشباب والطلاب، وتمركزت برامج الدعم فيه على مساعدة الشباب على الوصول إلى معنى حقيقي وذي قيمة في حياتهم، وكانت المفاجأة هي أن العام الذي يليه لم تسجل الوثائق الرسمية أي حالة انتحار بين صفوف الشباب.

يقضي الرجل سنواته التالية في تخصص مواجهة الانتحار، والعمل على إيجاد حلول نفسية حقيقية توقف تفشي هذه الظاهرة، حتى يحلّ عام 1938 وتدخل القوات النازية إلى فيينا فتتوقف أنشطته بسبب يهوديته.

(3)

يتزوج فيكتور في عام 1942 لكن بعد 9 أشهر من زواجه تلقي القوات النازية القبض عليه، وترسله إلى معسكر أوشفيتز النازي الشهير، لتبدأ رحلته الأقسى والنقطة الفارقة في حياته.

يبدي فيكتور اهتمامًا بمتابعة حالة المساجين من حوله، واستخراج أمور ذات معنى منها، فيتكشف له أن المساجين القادرين على البقاء والاستمرار ليسوا بالضرورة الأصحّاء أو الأقوى جسديًّا، وإنما مَن كانوا يحملون في عقولهم أملًا نحو المستقبل، وحلمًا بالخروج من ذلك المكان، فكانت قدرتهم على الوصول إلى معنى الحرية وإمكانية تحققها في يوم ما هو ما يبقيهم على قيد الحياة.

أما فيكتور نفسه فقد عمد لإنقاذ نفسه إلى تخيل حوارات كاملة مع زوجته والتحدث إليها وسماع ردودها كأنها حاضرة معه تؤنسه وتشدّ من أزره، قبل أن يعرف لاحقًا أنها ماتت داخل معسكر اعتقال آخر.

كذلك كان يتخيل نفسه يلقي محاضرات أمام حشود كبيرة من الطلاب والمهتمين وهو يحدثهم عن تجربة نجاته من ذلك المعتقل، إلى أن تختمر في عقله فكرة الكتاب الذي أراد أن يوثِّق من خلاله تلك التجربة، وهو كتاب "الإنسان يبحث عن المعنى".

يتذكَّر فيكتور -حينما منحوا راحة لبضع ساعات له ولزملائه- ذلك الشاب المتمسك بالأمل الذي قفز من بينهم فجأة على الرغم من شدة تعبه؛ ليخبرهم أن هناك فرصة ليتحركوا خلسة نحو حديقة خلفية يمكن أن يروا وهم داخلها الخضرة على الأرض وغروب الشمس وهي تسير نحو الأفق.

يحكي فيكتور أنهم في تلك اللحظة كانوا قادرين على الشعور بمعنى متميز وجميل للحياة؛ فرؤية الجمال الطبيعي واستشعار وجوده والتصديق بالعودة إليه منح كثيرين منهم أملًا كبيرًا في النجاة والعودة في يوم ما، وعدم الخضوع لشعور الضعف والألم الذي يمكنه بكل بساطة أن يقضي على حياة الكثير منهم.

يشاهد الرجل بعينيه رجالًا كثيرين ضخام الجثة وأقوياء البنية ضربتهم حالة اليأس بعدما كانوا يؤملون أنفسهم بالهرب من ذلك الجحيم، ثم فقدوا الأمل تمامًا، فكانت النتيجة أن قوتهم الكبيرة انهارت أمام اليأس، فانتحر منهم مَن انتحر، ومنهم مَن مات كمدًا بعدما أيقن في نفسه أنه لا سبيل للنجاة.

وصلت قدرة فيكتور على التحمُّل دون طعام إلى درجة وصل معها إلى التأقلم على ذلك بصورة مؤلمة، كاد أن يشعر فيها بدنوّ الموت منه بسبب ضعف جسده، لكنه كان عادة ما يشعر بالعودة عند تناول اللقمة التالية، تلك التي ادّخرها وأرغم نفسه على عدم الاقتراب منها إلا حينما يبلغ الجوع ذروته.

(4)

توصَّل مع الوقت إلى أشكال جديدة من الأفكار فيما يخص المعنى في حياة الإنسان؛ فذلك الرجل الذي كان يساعده أحيانًا بالقيام بمهمته بدلًا منه خلف عيون الحراس، كان يفعل ذلك ليشعر بأنه موجود على قيد الحياة يفعل ما هو ذا قيمة وما يمنحه معنى لبقائه حيًّا، حتى هو عندما كان يمنح شخصًا ما على وشك الموت قطعة من رغيفه ليقيم أَوده كان يشعر في داخله بأنه كان سببًا في إنقاذ حياة إنسان آخر ولو بلُقيمة من رغيفه الضئيل.

كانت الأفكار والتحليلات تعصف برأس الرجل من كثرة الظواهر المحيطة به، فمَن حوله ليسوا مجرد طلاب أصابهم اليأس بسبب عدم الحصول على وظيفة، وإنما بشر محرومون من الحياة بأبسط عواملها، وتنتهي حياة كثير منهم بالانتحار.

ولأن الكتابة هي الحل فقد لجأ إلى بعض المهربين ليمنحوه بضع أوراق قليلة وقلمًا مقابل نصف رغيف من طعامه، هذا الرغيف الذي يحصل عليه مرة كل أسبوع، حتى يستطيع كتابة ما وصل إليه وما فكَّر فيه، وبعد مدة طويلة من الكتابة والتدوين استطاع تهريب المخطوطة النهائية لكتابه إلى خارج المعسكر، ذاك الكتاب الذي سماه "البحث عن المعنى".

(5)

ليس أكثر إثارة من أن تضع نظرية ما في علم النفس، ثم تشاء الأقدار أن تكون أنت محل التجربة؛ فقد كان دخوله إلى ذلك المعسكر بمنزلة اختبار حقيقي لتلك النظريات التي نادى بها على مرّ سنوات، عبر الخروج بمعنى من الألم والمعاناة، فما الذي يجبر المرء على البقاء حيًّا وعدم الانتحار في تلك الظروف؟

كانت الأيام تمر على فيكتور ورفاقه داخل المعتقل من دون أن يشعروا بمرورها أو حسابها، حتى مرت 3 سنوات على وجوده داخل المعسكر إلى أن سقطت النازية في 1945، وخرج من المعسكر مدهوشًا أنه استطاع القدرة على البقاء كل هذه المدة في تلك الظروف دون أن يستسلم للشعور بالموت والانهيار، رغم أن كل ما حوله كان يؤهّله لذلك.

(6)

تعرَّض كتاب فيكتور للانتقاد من البعض؛ بوصفه يلوم الضحية ولا يلوم الجاني، ويطلب من الضحية أن ينجو بنفسه ويتحمَّل وحسب، بينما استمرت مدرسته في النمو والازدهار، فعاد الرجل إلى نشاطه؛ طبيبًا ومحاضرًا للطلاب، وصارت رحلته الأقسى والأصعب من العلامات البارزة في قدرة الإنسان على استخلاص المعنى من قلب المحن القاسية والنجاة بها.

 

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

الذكاء الاصطناعي.. للعقل وللدَّجل أيضاً

ليس هناك مجالٌ لا يتنازع داخله الضّدان، ومثلما الأذكياء في الخير والأمانة والتَّقدم، يقابلهم أذكياء في الدَّجل والكذب والتَّأخر، وهنا أقصد المجال الفكريّ، ففي لحظة يُقدم «الاصطناعيّ» بحثاً، في أيّ مجال ترغبُ، إن أردت الفيزياء فعنده ما ليس عند إسحاق نيوتن (ت 1727)، وإنْ طلبت البيان فعنده ما ليس لدى الجاحظ (ت 255 هج)، وإن طلبت علوم الرّجال والسِّير، فيُقدم لك ما تجهد به لأيام وشهور بثوانٍ. لهذا نجد التّثاقف يتزايد، فالكلّ يتحدث، فإن سُئلت، كطبيب أو مؤرخ، عن دواء أو واقعة، تجد الذي سألك يوزع عيناه بينك وبين آيفونه، وما يقرأه فيه هو المصدقُ، مع أنه جمعه مِن علوم النّاس، لكنَّ هيبة الجهاز، وعجائبيته الباهرة، تغري بالتّصديق، وكأن العلم الذي فيه ليس بشريّاً.

نادراً ما يوجد باحث، أو كاتب اليوم، لم يستفد مِن محركات البحث، بصورة أو أخرى، فبواسطتها تؤخذ المعلومة مِن أمهات العلوم كافة بلمح بصر، أو لمح برق، إنَّها سرعة الضّوء، وما عليك إلا تحديد المعلومة، ثم تدقيق النتيجة بطريقتك، وهذا يحتاج إلى عِلمٍ وتخصص وثقافة، وإلا المحرك لا يهديك إلى شيء موثوق. كانت سرعة لمح البصر، أو لمع البرق، مِن أحلام الأولين، تأتي قصص عديدة فيها وصل فلان بلمح بصر، تشبيهات لواقع متخيل سيأتي وقد أتى، نعيشه الآن، كالشَّعاع الذي تخيله المتكلمون، وهو اليوم يماثل الأشعة فوق البنفسجية.

غير أنَّ هذا التَّقدم الفائق، يُستخدم في الدَّجل أيضاً، أشخاص يدعون البحث، ومترجمون يدعون الترجمة، يستخدمون «الذَّكاء الاصطناعي» في تأليف الكتب وترجمتها، ويبدون متخصصين، لكنهم أتقنوا إدارة أدوات «الذَّكاء الاصطناعي»، فألفوا الكتب العِظام، وللأسف معارض الكتب ملأى بمؤلفاتهم، وهي ليست لهم، ولا للذكاء الاصطناعي، فالأخير يقوم بمهمة الإدارة والتنسيق، لِما رمي في أجواف أجهزته. إنّ الدَّجل في الكتابة ظاهرة قديمة، لكنها تعاظمت، مع ظهور «غوغل»، وبقية محركات البحث، بما يمكن تسميته بـ «نسخ ولصق»، ولأنَّ الدَّجالين احترفوا لصوصية الحروف، فهم يقومون بإعادة صياغة النُّصوص، كي لا تبدو مِن جهود غيرهم، مع التَّلاعب بالمصادر والحواشي، إذا اقتضى الأمر. هذا هو الدَّجل، الذي يمنحه الذَّكاء الاصطناعي، وليس لدي ما أستطيع التعبير به، عن الوقاية مِنه.

سيكون أمام المؤسسات الأكاديميَّة، ومراكز البحوث، مهمة صعبة، في التَّمييز بين ما ينتجه العقل، وما يستولي عليه الدَّجل، وإلا لا قيمة تبقى لهذه المراكز، ولم تبق حاجة لأهل الاختصاص، والخطورة الأكثر تكون في العلوم الإنسانية والآداب، فمجال اللصوصيّة فيها مفتوح، منذ القدم، ولكنه توسع، وسيتوسع، مع الذَّكاء الاصطناعي.لا أتردد في المشابهة بين العقل والدَّجل، مع الذكاء الاصطناعي، باكتشاف نوبل للديناميت، أفاد البشرية بأعز فائدة، لكنه صار أداة قتل رهيبة، فمنه تصنع المتفجرات القالعة للصخور، والمبيدة للحياة، في الوقت نفسه. إذا فتح مجال الذّكاء الاصطناعي، دون ضوابط صارمة، وأحسبها في مجال التأليف والكتابة، صعبة المنال، ستتحول الثّقافة إلى مستنقع مِن الدَّجل، فما وصله ول ديورانت (ت 1981)، في «قصة الحضارة» سيظهر مؤلفات لدجال، وأسفار غيره أيضاً، لأن الذَّكاء الاصطناعي يُقدمها له، فيطبخها مِن جديد. قد يلغي الذكاء الاصطناعي الاختصاص، فيظهر أصحاب السَّبع صنائع. يقول أبو عُبيْد القاسم بن سلام (ت 224 هج)، صاحب «الأموال»: «ما ناظرني رجلٌ قطٌ، وكان مُفَنِّناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجلٌ ذو فنٍّ واحد إلا غلبني في عِلمه ذلك» (ابن عبد البرِّ، بيان العلم وفضله).

قدمت منصات الذَّكاء الاصطناعي باحثين مزيفين، وخبراء دجالين في كلّ علم ينطون، يزايدون على ابن سلام في شرح كتابه «الأموال»، وبحضوره! قد يفيد ما قاله المفسر فخر الدِّين الرَّازي (ت 606 هج) شاهداً: «نهاية إقدام العقول عِقالُ/ وأقصى مدى العالمين ضلال» (ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان).

(الاتحاد الإماراتية)

مقالات مشابهة

  • افحيمة: الصراع القائم في طرابلس يهدد المسار السياسي ويعمّق الانقسام
  • الذكاء الاصطناعي.. للعقل وللدَّجل أيضاً
  • كاس تثبت إيقاف لاعبي الأوروجواي
  • «أهمية تعزيز القيم الإيجابية لبناء مجتمع متماسك» ندوة توعوية بإعلام السويس
  • دينا أبو الخير تحذر من ظلم النفس بالشرك بالله.. فيديو
  • باكستان ردا على ضرباتها للهند: دفاع عن النفس ومستمرون في المفاوضات
  • لطلاب الثانوية العامة.. خبير تربوي يقدم طريقة مذاكرة فعّالة
  • باو فيكتور يقرر الرحيل عن برشلونة نهاية الموسم الجاري
  • البحوث الإسلامية يشارك في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الأزهر وصناعة المصلحين
  • دراسة تحذر: انقطاع النفس أثناء النوم يصيبك بمشاكل خطيرة