طوفان الأقصى وتحول المعادلات الاستراتيجية والفكرية والسياسية والقيمية للأمة
تاريخ النشر: 13th, November 2023 GMT
مسار أكثر من سبعة عقود من مقاومة الاحتلال الصهيوني، أفرز تبلور نظريات عدة يتعلق بعضها بطبيعة المقاومة الفلسطينية في ظل تغير المعادلة العربية، ويتعلق بعضها بحدود الرهان على العالم العربي، أو على دول الطوق، وهل هي دول حاضنة للمقاومة، أم مساندة لها، أم متواطئة ضدها تريد التخلص من وجع رأسها، أم تفكر في تأمين حدودها على حساب القضية الفلسطينية وثوابتها، كما تحركت في الآونة الأخيرة نقاشات حول محاور المقاومة ودولها، وطبيعة علاقتهم بالقضية الفلسطينية، وهل هي علاقة دعم وإسناد؟ ام دول تربطها بالمقاومة علاقة توظيف واستعمال لخدمة مصالح إقليمية؟
في الجانب الآخر المتعلق بالسياسة الدولية اتجاه القضية الفلسطينية، وبالتحديد الشرعية الدولية، فقد تحركت نقاشات مطردة ابتدأت من نقد الدول الغربية، التي تبنت سياسة الكيل بمكيالين في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، وانتقلت إلى بيان تناقضات الممارسة الدولية، وبخاصة منها الأمريكية والأوروبية، لتنتهي في المحصلة إلى تعرية الوجه الحقيقي للمسؤولين الغربيين، الذين يوفرون الغطاء للاحتلال لضرب الأسس الحقوقية والإنسانية التي يقوم عليها القانون الدولي، سواء من خلال إضفاء مضمون وحشي على مفهوم "الدفاع عن النفس"، أو تعطيل فعالية المؤسسات الدولية في كبح جماح الاحتلال الذي يدوس كل المحرمات ويتعدى كل الخطوط الحمر (استهداف المدنيين، قتل الأطفال والنساء، استهداف دور المساجد والكنائس، تدمير المستشفيات على رؤوس المرضى، استهداف مؤسسات الأمم المتحدة ومدارسها).
هذه النقاشات جميعها، لا تمثل بالنسبة إلى تطور القضية الفلسطينية الجوهر الذي ينبغي على المفكرين التركيز عليه في هذه المرحلة، فهي على أهميتها، لا تمثل سوى امتدادا للأطاريح الفكرية التقليدية التي واكبت القضية الفلسطينية منذ أكثر من سبعة عقود.
الجوهري في هذه المرحلة، يطال أربعة مستويات أساسية، الأول استراتيجي، والثاني فكري، والثالث سياسي، والرابع قيمي أخلاقي.
في القضية الاستراتيجية.. الحسم في المعركة للديمغرافيا
مهما يكن التعقيد الذي يطال عملية فهم مقاصد السياسة الحربية الصهيونية، وكذا التخبط الذي تعانيه بسبب صلابة المقاومة الفلسطينية في غزة، فإن الثابت في التفكير الصهيوني، النظر إلى قطاع غزة على أساس أنه قنبلة ديمغرافية غير قابلة للتفكيك، وذلك لثلاث أسباب رئيسة:
أولها، أن المعادلة الثقافية والدينية في غزة تسير ضدا على المنطق المادي الذي يؤطر العقل الغربي عامة والعقل الصهيوني خاصة. فالمفروض، حسب المنطق المادي، أن التوالد في أي منطقة من مناطق العالم يخضع لمؤشرات الدخل وكلفة المعيشة، ومدى القدرة على تحملها، وأن المسار الحتمي الذي يطرد في كثير من الشعوب والتجارب، هو توجه الأسر للاكتفاء بطفلين على الأقصى للأسرة الواحدة، لكن المفارقة، أن غزة، التي تضطرب فيها كل المعايير والمؤشرات المادية، تعرف نسب توالد كبيرة مقارنة مع ما تعرفه نسب الخصوبة في الدولة العبرية، فحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد كان انخفاض الخصوبة بسبب من تأثير الظروف المعيشية محدودا، وذلك من 4.6 في 2003 إلى 4.1 في 2017 ليصل 3.8 خلال 2019 بواقع 3.8 مولود في الضفة الغربية، مقابل 3.9 مولود في قطاع غزة. وفي المقابل، رغم سياسات دعم الإنجاب في الدولة العبرية، لا تتجاوز نسب الخصوبة دائرة الإحصاء الإسرائيلية معدل 3.1 مولود.
قد يبدو الحديث عن المعركة الديمغرافية أمرا غير ذي بال، بحكم الفارق الضئيل في نسبة الخصوبة بين الفلسطينيين (حوالي4 مولود)، وبين الاحتلال الصهيوني (3.1 مولود)، لكن الأمر لا يتوقف عند حدود الخصوبة، وإنما يدخل عنصر آخر، له تأثير مفصلي على المعادلة الديمغرافية، ويتعلق بالهجرة، والتي تحيد خصوبة المهاجرات، وتجعله يصب في غير الصالح الإسرائيلي.
كانت الوضعية العربية قبل طوفان الأقصى، تسير في اتجاه متسارع نحو التطبيع، مع شعور الأردن بسيناريو الاستهداف يقترب منه، ومحاولة للتحرك السريع على الواجهة العربية لمنع هذا الاستهداف أو تعطيله أو إبطائه.يتعلق الأمر باتجاهين في الهجرة، الأول، هو تراجع كبير لأعداد المهاجرين لإسرائيل، بعد أن كان الاعتقاد سائدا لدى دائرة الإحصاء الإسرائيلية أن أعداد الهجرة المكثفة إلى إسرائيل، ستسمح بتزايد ديمغرافي إسرائيلي قد يصل إلى 11 مليون مع حلول سنة 2030. والثاني، هو هجرة اليهود من إسرائيل إلى دول أخرى خاصة أوروبا (تزايد طلب الجنسيات المزدوجة لدى الإسرائيليين)، فحسب المصدر ذاته، فقد سجلت الحرب على قطاع غزة سنة 2014، هجرة حوالي 17 ألف يهودي إسرائيلي، لتستمر الهجرة مع صعود اليمين المتطرف إلى الحكم، لتصل ذروتها مع اندلاع الاحتجاجات على خلفية تبني حكومة نتنياهو تعديلات على التنظيم القضائي (حوالي 28 في المائة من الإسرائيليين حسب استطلاع أجرته القناة 13 الإسرائيلية).
وإذا كانت هذه الإحصاءات تخص حرب غزة سنة 2014، وتداعيات التعديلات على التنظيم القضائي، فإن الهجرة التي سجلت بعد عملية طوفان الأقصى بلغت مستوى قياسيا، وأجهزت على أهداف سياسات إسرائيل لإحداث انتعاشة ديمغرافية حاسمة لاسيما في غلاف غزة، فحسب تقرير لصحيفة "ماركر" مستفاد من إحصاءات المعابر والمطارات الإسرائيلية، فقد غادر الدولة العبرية أكثر من 230 ألف إسرائيلي في اتجاه أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، وأن هذه الظاهرة ستتوسع أكثر مع اشتداد التوتر واندلاع حرب إقليمية.
في المقابل، فإن تدخل المحددات الدينية والثقافية في غزة، وفي كامل فلسطين، فضلا عن الوعي بالسوابق التاريخية في سياسة التهجير، جعلت الرهان على التوالد كسلاح في المعركة مع إسرائيل جزء من القناعات التي رسخت في بنية التفكير الفلسطينية رغم قساوة العيش وعدم تشجيع العوامل المادية، كما جعلت من التشبث بالأرض ومقاومة سياسية التهجير، قناعة دينية راسخة، لا سبيل إلى تغييرها، ولذلك، يعمل الكيان الصهيوني على جعل سياسته التدميرية أداة لفرض تغيير قسري لهذه القناعة تحت واقع الدم والنار.
ثانيهما، أن سياسة التهجير كبديل عن إيقاف مسلسل التوالد، باتت بدون أفق سياسي، وذلك لسببين اثنين، الأول، أن التهجير يتطلب بلدا مهجرا إليه، والثاني، أن التهجير يتوقف على حصول مصلحة راجحة تحفز البلد المرشح لاستقبال المهجرين لأن يكون جزءا من العملية.
التجارب السابقة، سواء في لبنان، أو الأردن أو سوريا، تثبت مخاطر أن تستدرج مصر والأردن لقبول هذا الخيار، وأن ذلك يمثل خطا أحمر يمس بجدار الأمن القومي، وأن الخطوة التالية، ستكون بكل تأكيد هي مصر أو الأردن، أو أي بلد حدودي قبل الانخراط في هذه اللعبة، وهذا ما يفسر بالتحديد الموقف القوي الذي عبرت من عمان والقاهرة.
أما الثالث، فيتعلق، بمحدودية الرهان على سياسة التقتيل في التأثير على البنية الديمغرافية الفلسطينية، فثمة رهان لدى المكونات المتطرفة في حكومة نتنياهو على آلة الحرب، واستهدافها للمدنيين، وبشكل خاص النساء والأطفال، لإبطال مفعول القنبلة الديمغرافية الفلسطينية، لكن، هذا الخيار الأهوج، هو محدود من حيث السقف الزمني، فالدول التي تقدم الإسناد للاحتلال الصهيوني، وتقبل هذا المعامل الوحشي، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، تشترط له سقفا زمينا سريعا، حتى لا يبعثر كل الأوراق، ويخلق حالة عداء عالمي ضد الولايات المتحدة الأمريكية وحالة عزل كلي للكيان الصهيوني، ويدفع إلى اندلاع حرب إقليمية مفتوحة على كل الجبهات لا يتحملها أمريكا ولا الكيان الصهيوني.
الفاعلية الإنسانية بدل الفاعلية التكنولوجية
قدمت العديد من الثورات دروسا مهمة في هزم أطروحة التفوق التكنولوجي الغربي، فهزيمة الولايات المتحدة الأمريكية على يد الفيتنام (هوشي منه)، وأفغانستان، طرحت معادلة فاعلية الإنسان في مقابل التفوق الصناعي والتكنولوجي، وجاء "طوفان الأقصى" ليعيد تأكيد هذه المعادلة، لاسيما وأن الأمر يتعلق بأقوى جيش من ناحية التزود بالتكنولوجية الحديثة، وبأكبر جهاز استخبارات في العالم (الموساد).
طوفان الأقصى فجر العديد من الأسئلة التفصيلية بشأن قدرة فصيل من فصائل المقاومة، وليس دولة ولا جيشا، على التلاعب بأنظمة معلوماتية دقيقة، وتجنب الوقوع ضحية المراقبة بالرادارات والكاميرات، كما أثارت الحرب البرية أسئلة أخرى أكثر إحراجا بخصوص القدرات التي يتم بها تدمير أذكى وأفضل الآليات العسكرية عالميا بأدوات بسيطة، وكيف يتم استهداف الجنود والضباط من النخبة في الجيش العسكري، وتسجل أرقام قتلى وجرحى قياسية بالنظر إلى الأدوات البسيطة المعتمدة (160 آلية عسكرية حسب أرقام حماس، وحوالي 43 قتيلا من الجنود والضباط الإسرائيليين حسب الاعتراف الإسرائيلي).
الأسلوب الذي تبنته حماس في الحرب، من خلال اعتماد الأنفاق، والمواجهة من نقطة الصفر، والالتفاف على الآليات العسكرية من الخلف، يرشحه أكثر من خبير عسكري ليدرس في الكليات العسكرية، كنموذج جديد لحرب العصابات أو حرب المدن، لكنه في الواقع، يطرح سؤال الفاعلية الإنسانية في مقابل الفاعلية التكنولوجية.
لقد أيقنت حماس، من خلال اعتبارها من حروب الجيوش العربية، درجة التفوق التكنولوجي للجيش الإسرائيلي، والدعم الأمريكي الذي يمد هذا الجيش بأحدث الأسلحة المجهزة وبأحدث التقنيات الحديثة، وأدركت أن واقع الحصار يحول دون أن تحصل على الحد الأدنى من الأسلحة للمقاومة، واتضح لها في الخلاصة، أن الرهان على التكافؤ التكنولوجي غير ممكن، لا عربيا ولا إسلاميا، فضلا عن أن يكون فلسطينيا، وأن الرهان ينبغي أن يتوجه إلى فاعلية الإنسان، وتحريك قدرته الإبداعية للتسلل من ثغرات التكنولوجيا وأنظمة السلامة والحماية، والامتناع عن استعمال كل التكنولوجيات الذكية الخاضعة للرقابة الأمريكية والصهيونية.
القضية الفكرية الجديرة بالتأمل في هذه القضية، أن جزء من أطاريح النخب العربية بضرورة توطين التكنولوجيا لتحقيق التقدم، تحتاج إلى المراجعة، فالتكنولوجيا ليست فقط أداة للتقدم، ولكنها أيضا -وبحكم طبيعتها- أداة للذليلة والتبعية، ما لم يتم إعمال الفاعلية الإنسانية لتحويرها أو تعديل اتجاهها، أو تحريرها من البنية الرقابية الغربية الثاوية فيها، فالدرس الذي تقدمه الحرب على غزة، أن التقدم لا يرتبط بالرهان على التكنولوجيا الغربية، وإنما يرتبط بفاعلية الإنسان العربي الإسلامي في فهم بنية التكنولوجيا، وقواعد اشتغالها، والثغرات التي تخترق أنظمتها، حتى يتسنى لهذا العقل أن يحكم التعامل معها وألا يجعل مخرجاتها تصب في مصلحة صانعيها.
سؤال الأمن العربي من جديد؟
من تداعيات طوفان الأقصى والحرب الصهيونية على غزة، أنها أنتجت معادلة سياسية جديدة، أنتجت تحديات جديدة على العالم العربي.
فقد كانت الوضعية العربية قبل طوفان الأقصى، تسير في اتجاه متسارع نحو التطبيع، مع شعور الأردن بسيناريو الاستهداف يقترب منه، ومحاولة للتحرك السريع على الواجهة العربية لمنع هذا الاستهداف أو تعطيله أو إبطائه.
أما سوريا ولبنان، الدولتان، اللتان تنتميان إلى محور المقاومة، فقد الجأتهما الظروف ليعيش كل واحد منهما أوضاعا خاصة، فسوريا، بحكم الصراعات الدولية والإقليمية التي تخترق أراضيها أضحت عاجزة تماما عن لعب دور ما في اتجاه تعزيز جبهة الممانعة، إلا أن تتحرك القوى التي تدور في فلك إيران لخدمة أجندتها الإقليمية في المنطقة، في حين لا تزال لبنان على إيقاع أزمتها السياسية، لم تستطع إلى اليوم أن تفك خيوطها.
لقد تتبع العالم نماذج من رعاية حماس للأسرى، وتقديم الطعام لهم، وتأمينهم من الخوف، وتقديم الرعاية الطبية لهم، وحرصها على حياتهم، وقدم الأسرى تصريحات بذلك، أحدثت زلزالا عنيفا في الداخل الإسرائيلي وأحرجت الساسة وقيادات الحرب، وأزعجت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، حتى بدا الحديث إسرائيليا وأمريكا عن شرعية تمرير هذه الرسائل التي لا تخدم الحرب على حماسحصيلة الوضع العربي بكل حالاته كانت خادمة للمصلحة الإسرائيلية، بل تسير في اتجاه توصيف قيادات المقاومة على أساس أنها فصائل "مزايدة ومغامرة تجر المنطقة إلى ما لا يحمد عقباه".
لقاء القمة العربية الإسلامية الأخير المنعقد الرياض، والنقاشات القوية التي دارت فيه، أبانت عن تحول كبير في الرؤية السياسية والأمنية العربية، على الأقل بالنسبة إلى مصر والأردن، فبعد أن ظهرت أجزاء مهمة من الأجندة الصهيونية والأمريكية في المنطقة، لاسيما قضية التهجير إلى سيناء وإلى الأردن، تغير العقل السياسي العربي بشكل كامل، وتغيرت العقيدة الأمنية العربية برمتها، وتغيرت معها الرؤية إلى حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية.
فمصر التي كانت تعتقد أن اتفاقية السلام مع إسرائيل تؤمنها وتجعلها في منأى عن الاشتباك مع إسرائيل، أضحت هي المستهدف الأول، بنقل غزة بكل مشكلاتها وفصائلها المسلحة إلى أرض سيناء، بما يعني تحويل مصر إلى جبهة صراع داخلي وخارجي، والأردن التي تفطنت إلى رهانات صفقة القرن مبكرا، أضحت مجبرة على إقناع العالم العربي بمحاربة مخططات التهجير، باعتبار ذلك مدخلا إلى استهداف الدول العربية الأخرى، ومن ثمة ترسخ الاعتقاد بأن إسرائيل لا تريد فقط تصدير أزمة فلسطين إلى الأردن ومصر، بل تريد أن تحتل كل أرض فلسطين، وتجهز على مسار التسوية برمته وتنهي مخرجاته الحالية، وتجهز أيضا على السلام مع كل من مصر والأردن، وتخلق في المحصلة المبرر لكي تقوم بالخطوة القادمة، أي استهداف مصر والأردن، بحجة وجود مقاومة فلسطينية تصدر من أراضي البلدين اتجاه إسرائيل.
وتبعا لهذه التحولات، تغيرت العقيدة الأمنية العربية، وصارت غزة جزءا من منظومة الأمن الإقليمي لمصر، وصارت الضفة الغربية جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي، بل صارت مقاومة حماس والفصائل الفلسطينية للعدو الصهيوني في غزة والضفة ضرورة حيوية أمنية لكل من مصر والأردن، بل وللعالم العربي برمته.
هذا التحول، سيدفع من دون شك عدد من الدول العربية إلى إبطاء الخطو نحو التطبيع، وسيدفع الدول التي طبعت إلى مراجعة هذا المسار بالكامل، بل سيدفع الدول العربية إلى تغيير نظرتها إلى فلسطين بشكل كامل، فبدلا من الحاجة إلى إسكات المقاومة حتى ينتهي وجع الرأس، سيكون ضروريا في المدى المتوسط والطويل دعم هذه المقاومة، حتى يتم تأمين الحدود العربية، وتوسيع جدار منظومة الأمن المصري والأردني واللبناني وكذلك السوري.
السؤال القيمي
ما من شك أن منحى الإفلاس القيمي لدى الغرب تم تسجيله في أكثر من محطة، لكن الحرب على غزة اليوم، وضعت الإسفين الأخير على واقع الوحشية والعنصرية الأمريكية الصهيونية، فالصد عن نداءات الأمم المتحدة، والمؤسسات الدولية المختلفة، والإعراض عن النداءات الدولية بوقف آلة الحرب، وعدم الاكتراث بصوت المنظمات الحقوقية الدولية، واستنكارها الشديد لاستهداف الاحتلال الصهيوني كل المؤسسات والهيئات والفئات الهشة المحرم الاقتراب منها بمقتضى القانون الدولي، كل ذلك أنهى الرواية الغربية المستندة إلى القيم، وفرض في المقابل، واقع أن الحاكمية والقول الحاسم لموازين القوى، وأن القيم هي مجرد ورقة تستعملها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الداعمة للعدو الصهيوني من أجل الضغط على الدول الممانعة أو المصرة على الاحتفاظ بهامش من سيادتها.
وكما أكد منطق تطور المشروع الغربي أن إسرائيل هو الإفراز الطبيعي له والنتيجة الحتمية لمآله، فقد أثبتت حرب غزة أن هذا المُفْرَز هو التعبير الأخير عن إفلاس القيم، وأنه يمثل بالعلن والوضوح الكافي حقيقة الإفلاس القيمي، بل حقيقة النفاق القيمي الغربي.
لقد كشفت التصريحات الإسرائيلية المعلنة الوجه الحقيقي لأمريكا وأوربا، وفضحت نواياهم ورهاناتهم، وأظهرت أن الغرب ليس مؤتمنا على رسالة القيم، وأنه لم يعد مخولا بأي حال من الأحوال أن يلعب دور ممثل القيم وحارسها.
السؤال القيمي الذي طرحته الحرب على غزة، هو حاجة العالم إلى نموذج آخر، يكون أقدر على تمثل القيم وتمثيلها واحترامها، نموذج يرعى حرمة الأطفال والنساء والشيوخ، ويقدس الأدوار التي تقوم بها المؤسسات التعليمية والاستشفائية والخدمية، ويميز بين المسلحين والمدنيين، ويحيد المدنيين عن ساحة الصراع، ويوفر لهم الهدوء في مساكنهم، ولا يستعمل الغذاء والماء والكهرباء ومواد العيش الأساسية أسلحة في المعارك، ولا يحول الحرب إلى عقاب جماعي للشعب، أو إبادة لمكوناته.
العالم يحتاج لنموذج متفوق أخلاقيا وقيميا، يجلب إليه الشعوب الأخرى المتشوفة لقيم العدل والكرامة والرحمة والإنسانية. وهي بدون شك ستكون المعركة القادمة التي ينبغي أن يتم الإعداد لها، فالتزاحم على استعمال منطق القوة، لن يقدم إلا نماذج وحشية تقترب قليلا أو كثيرا من النموذج الأمريكي الصهيوني. وفي المقابل، فإن التركيز في مؤسسات التنشئة التربوية على منظومة القيم، وترسيخها في الناشئة، وتحويلها إلى رؤية مؤطرة للمشروع المجتمعي العربي، من شأنه أن يخدم هدف بناء نموذج قيمي ملهم للعالم، قادر على حشد أوسع التأييد من مختلف الشعوب والدول.
لقد تتبع العالم نماذج من رعاية حماس للأسرى، وتقديم الطعام لهم، وتأمينهم من الخوف، وتقديم الرعاية الطبية لهم، وحرصها على حياتهم، وقدم الأسرى تصريحات بذلك، أحدثت زلزالا عنيفا في الداخل الإسرائيلي وأحرجت الساسة وقيادات الحرب، وأزعجت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، حتى بدا الحديث إسرائيليا وأمريكا عن شرعية تمرير هذه الرسائل التي لا تخدم الحرب على حماس في القنوات الإعلامية الإسرائيلية، وبدأ التخطيط لفرض رقابة صارمة على القنوات، وتمرير خطاب إعلامي واحد يدعم الرواية الصهيونية، مما دفع أزيد من 700 صحفي غربي إلى إصدار بيان يستنكر ما تنشره المحطات التلفزيونية الأمريكية والغربية من معطيات كاذبة عن حقيقة ما يجري في غزة.
هذا الحدث وتداعياته، يبين الأثر الكبير الذي يحدثه النموذج القيمي المتفوق، وحجم الاستقطاب الذي يخلقه، ودرجة الخطورة التي يمثلها على صناع القرار السياسي الأمريكي والأوربي.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الاحتلال الفلسطينية الحربية غزة تداعيات احتلال فلسطين غزة حرب تداعيات أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة الأمریکیة القضیة الفلسطینیة طوفان الأقصى مصر والأردن فی المقابل الرهان على الحرب على فی اتجاه على غزة أکثر من فی غزة فی هذه
إقرأ أيضاً:
لماذا غابت الفيديوهات التي توثق ما يجري في الأقصى؟
مع دخول المسجد الأقصى المبارك في موسم الاقتحامات الأطول والأعتى خلال العام، والذي بدأ برأس السنة العبرية، مرورا بيوم الغفران وانتهاء بالموسم الأخطر، وهو عيد العُرش (المظال)، كان لا بد من بسط قضية التغطية الإعلامية لما يجري في المسجد على طاولة البحث والدراسة.
فالمتابع لأحوال المسجد الأقصى لا يخفى عليه التراجع الشديد مؤخرا لعدد الصور والفيديوهات التي توثق الاقتحامات، وما يقوم به أفراد جماعات المعبد المتطرفة داخل المسجد يوميا.
حتى وصل الأمر إلى أن جميع الصور والفيديوهات التي وثقت اقتحامات رأس السنة العبرية في 23 من سبتمبر/أيلول الماضي واقتحامات يوم الغفران مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحالي، كانت من خارج المسجد، بل من خارج البلدة القديمة كلها.
وكان عدد لا بأس به من الصور التي بثتها صفحات إخبارية ووسائل إعلام عربية لتغطية الحدث قد التقطت من فوق جبل الزيتون الذي يبعد مسافة حوالي 500 متر هوائي عن أسوار المسجد الأقصى الشرقية.
وهذه الزاوية بدورها لا تغطي إلا مساحة صغيرة من المسجد الأقصى أمام الجامع القبلي، ولا يمكن منها مراقبة ما كان يجري خلال تجمع المستوطنين في المنطقة الشرقية للمسجد، أو خلال أدائهم طقوسهم الدينية في الجهة الشمالية أو الغربية من المسجد الأقصى.
أما الصور والفيديوهات التي أظهرت أفعال هذه الجماعات فكان مصدرها للأسف هو صفحات هذه الجماعات نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بعد نشرها صورا وفيديوهات تبين ما فعله أفرادها في المسجد من باب التفاخر بإنجازاتها خلال الاقتحامات.
ولعل أحد أهم النماذج التي بينت خطورة ما يجري هو مسألة نفخ بوق رأس السنة العبري داخل المسجد، حيث غاب هذا الحدث عن التغطيات بشكل كامل، حتى ادعت جماعة "بيدينو" المتطرفة أن المستوطنين نفخوا البوق داخل المسجد خمس مرات في ذلك اليوم، بينما أظهرت شهادات المقدسيين الذين تمكنوا من الوصول إلى الأقصى في تلك الفترة سماعَ صوت البوق مرة أو مرتين خلال اليوم دون تصوير.
إعلانولم يكن بالإمكان تأكيد ذلك أو نفيه، إلى أن نشرت نفس الجماعة المتطرفة فيديو لأحد المستوطنين ينفخ البوق داخل المسجد قبل أن يتم إخراجه من المسجد على يد شرطة الاحتلال.
فيما يحتفي الحاخام المتطرف يهودا غليك عراب اقتحامات المسجد الأقصى المبارك بهذه العملية، ويسوقها كـ"انتصار رمزي" في معركة السيطرة الدينية على المكان.
خلال العام الأخير، شددت قوات الاحتلال قبضتها على المسجد الأقصى المبارك بشكل غير مسبوق، حيث وصل الأمر إلى تدخلها في كل صغيرة وكبيرة داخل المسجد، وحتى التدخل في عمل دائرة الأوقاف الإسلامية كمنع ذكر غزة في خطب الجمعة، أو حتى الإشارة إليها وإن من بعيد، تحت طائلة الإبعاد عن المسجد دون النظر إلى طبيعة شخصية الخطيب ومركزه الديني والاجتماعي والرسمي، كما فعلت مع الشيخ محمد سرندح خطيب المسجد الأقصى، والشيخ عكرمة صبري خطيب الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا، والشيخ محمد حسين مفتي القدس والديار الفلسطينية، وغيرهم.
وقد ترافق ذلك مع تضييق ممنهج على الصحفيين المقدسيين والمصورين الذين يشكلون عين الناس على ما يجري داخل المسجد، إذ أصبح كثير منهم عرضة للاستدعاء، أو الإبعاد، أو مصادرة الهواتف والكاميرات عند محاولتهم توثيق أي حدث، بل وبلغ الأمر بشرطة الاحتلال، تفتيش هواتف المصلين المسلمين أثناء وجودهم داخل المسجد الأقصى؛ للتأكد من أنهم لم يلتقطوا صورا أو فيديوهات للمستوطنين خلال الاقتحامات، الأمر الذي جعل من عملية نقل الصورة من داخل المسجد شبه مستحيلة في كثير من الأوقات.
وتشير شهادات عدد من الصحفيين والناشطين المحليين، إلى أن قوات الاحتلال لم تكتفِ بإغلاق الأبواب في وجوههم، بل قامت في أحيان كثيرة بإخراجهم من باحات المسجد قبل بدء الاقتحامات بدقائق، أو منعهم من دخول المسجد أصلا تحت ادعاءات مختلفة؛ ليبقى الميدان خاليا إلا من المستوطنين والشرطة.
وهذا الإخلاء المسبق للمكان من الإعلاميين والمرابطين يأتي ضمن خطة واضحة لتغييب الصورة الحقيقية لما يحدث، بحيث لا تصل الصورة إلا بعد انتهاء الحدث عبر الرواية الإسرائيلية الجاهزة التي تُقدَم بصفاقة على أنها "صلاة محدودة" أو "زيارة جماعية منظمة" لباحات عامة مفتوحة حسب التعريف الإسرائيلي للمسجد الأقصى.
ومع غياب العدسة الميدانية، تضعف قدرة الرأي العام العربي والإسلامي على متابعة ما يجري في المسجد، لتتحول القدس إلى مجرد عنوان عابر في نشرات الأخبار، بينما تتواصل في داخلها عمليات فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى بهدوء وصمت تام.
فالمشهد الذي كان قبل سنوات يملأ الشاشات بأصوات التكبير والاحتجاج، أصبح اليوم صامتا إلا من بيانات مقتضبة تصدر عن دائرة الأوقاف الإسلامية، أو وزارة الخارجية الأردنية، أو عن بعض المؤسسات المختصة والمهتمة.
إن ما يجري ليس مجرد صدفة ظرفية، بل هو نتاج سياسة طويلة المدى تهدف إلى سلخ المسجد الأقصى عن حضوره الإعلامي، وهو جزء من هندسة الوعي العام بإلغاء المسجد منه.
فالمعركة على المسجد ليست معركة حجارة ومبانٍ فقط، بل معركة رواية وصورة وذاكرة، إذ إن المشهد المرئي هو واحد من أبرز أدوات تحفيز الوعي القادرة على خلق التعاطف لدى الناس، ومن يمتلكُ القدرة على نقل الصورة، يملك القدرة على تشكيل الرواية، ومن يحتكرُ الرواية، يستطيع أن يبرر الفعل ويطمس الحقيقة.
إعلانولأن الاحتلال أدرك مبكرا أن صورة الجندي وهو يقتحم المسجد أو صورة المستوطن وهو يرفع علمه في باحات الأقصى كفيلة بإشعال غضب عالمي واسع، فقد قرر أن يمنع الكاميرات من الدخول، وأن يفتح المجال بالمقابل لعدسات إسرائيلية مختارة تلتقط المشهد بالطريقة التي يريدها هو، ثم تُوزع لاحقا في وسائل التواصل الاجتماعي لجماعات المعبد المتطرفة مصحوبة برؤيتها وتبريراتها للحدث.
ما يزيد خطورة المشهد أن منصات التواصل الاجتماعي التي شكلت على الدوام أداة مهمة لنشر ما يجري في الأقصى، ومقاومة التعتيم الإسرائيلي، أصبحت هي الأخرى ساحة للرقابة الصامتة.
فبمجرد أن تنتشر مقاطع توثق أي اقتحامات، أو اعتداءات على المسجد الأقصى أو المصلين فيه، تُحجب أو تُخفض درجة ظهورها؛ بحجة "مخالفة معايير المجتمع"، وهو ما يجعل التعتيم اليوم أكثر إحكاما وتطورا، إذ لم يعد بحاجة إلى جنود يمنعون الكاميرات عند الأبواب بالضرورة، بل يكفي أن تعمل خوارزميات الشركات الكبرى لحجب الصورة في لحظة.
بالمقابل، فإن المرابطين والناشطين المقدسيين الذين يوثقون لحظات الاقتحام والاعتداء، ولو من بعيد وينشرونها بسرعة قبل أن يقبض عليهم الاحتلال، أصبحوا اليوم خط الدفاع الأول عن الذاكرة البصرية للمسجد، ولولاهم لانقطعت الصلة بين العالم وبين ما يجري فعلا في باحاته. لكن هذه الجهود الفردية، مهما بلغت شجاعتها، تفتقد اليوم إلى منظومة دعم إعلامي ومؤسسي تحميها للأسف.
إذن، فالتعتيم الإعلامي لم يعد مجرد عَرَض جانبي للصراع على المسجد الأقصى، بل أصبح أداة رئيسة في إدارة المشهد. فحين لا تُرى الانتهاكات، لا يُحاسَب أحد، وحين تغيب الصورة، يغيب معها الإحساس بخطورة ما يجري. ولهذا يبدو الاحتلال أكثر حرصا على إغلاق العدسات من حرصه على إغلاق الأبواب.
هذا يفتح الباب للسؤال عن كيفية التعامل مع ما يجري، وهنا لا بد من الإشارة مباشرة إلى الجهات الرسمية في المسجد الأقصى، وتحديدا دائرة الأوقاف الإسلامية التي تتبع وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الأردنية، التي بات الاحتلال يتعامل معها باعتبارها تدير الوجود الإسلامي داخل المسجد الأقصى فقط، ولا تدير المسجد نفسه، وهذا الأمر ينبغي عدم السكوت عنه وعدم التهاون معه.
إن المطلوب من الأردن الرسمي أن يمارس حقه القانوني والسياسي الكامل في إدارة شؤون المسجد الأقصى المبارك حتى لو أدى ذلك إلى تأزيم الموقف مع إسرائيل، فالتأزيم وإن كان يبدو سلبيا للوهلة الأولى إلا أن نتائجه على المستويين؛ المتوسط والبعيد إيجابية، فالاحتلال الذي يحاول أن يظهر اليوم قويا بإطلاق جنونه في غزة والضفة الغربية في الحقيقة لا يمكنه في هذا الوقت المغامرة بفتح جبهات أكثر من اللازم.
ومغامرة التصعيد والتأزيم مع بلد مثل الأردن، ستعمق الشرخ في المجتمع السياسي الإسرائيلي المنقسم على نفسه أصلا، خاصة بالنظر إلى أن الأردن يقع على أطول خط حدود برية مع إسرائيل.
ملف المسجد الأقصى بالنسبة للأردن يعتبر مسألة وجودية لا يمكن ولا يجوز التهاون فيها مهما كانت النتائج. ولذلك، فإن أقل ما يمكن للأردن أن يفعله هو ممارسة حقه المكفول بموجب القانون الدولي باعتباره يمثل السلطة الدينية صاحبة الحق الحصري في إدارة الأقصى وصيانته وإعماره بما في ذلك مراقبة كافة أرجاء المسجد الأقصى ونشر حراسه فيها لتوثيق ونشر ما يحدث فيه من عدوان لا يمكن السكوت عنه؛ وإلا فإن هذا التعتيم المقصود يمكن أن يكون مدخلا لطمس هوية الأقصى والتأسيس للمعبد معنويا وماديا تحت ستار الحصار والتعتيم، وعند ذلك لن ينفع الندم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline