الخطر الأكبر على السودان!
تاريخ النشر: 24th, November 2023 GMT
الخطر الأكبر على السودان!
عثمان ميرغني
التاريخ القريب يعلمنا أن الدول التي انهارت جيوشها، أو فرطت فيها بحلها وتفكيكها، دفعت ثمناً باهظاً وعانت من انفراط عقد الأمن وعدم الاستقرار، ومن التقسيم والتشرذم، ما جعلها ساحة للصراعات والحروب الداخلية، والتدخلات الخارجية.
الصومال منذ انهيار الحكومة المركزية والدولة في عام 1991، لم يعرف طعم الاستقرار وأصبح نهباً للحروب الداخلية والتفكك والتدخلات الخارجية.
العراق منذ الغزو الأميركي وحلّ جيشه في عام 2003 دخل في مرحلة طويلة من الفوضى والعنف وعدم الاستقرار، لا يزال يعاني من آثارها ويدفع فاتورتها الباهظة.
ليبيا أيضاً لم تسلم ودخلت في دوامة العنف والتشرذم وعدم الاستقرار منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي وحل وتشتت الجيش. أما اليمن فهو حالة خاصة من الصراعات والنزاعات والحروب الأهلية والقبلية المتشعبة والممتدة منذ فترة طويلة، التي تواصلت مع تنحية الرئيس علي عبد الله صالح الذي شبّه حكم بلاده بالرقص على رؤوس الثعابين.
السودان ربما لم يصل إلى هذه المرحلة، لكنه ليس محصناً منها إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، وطال أمد الحرب التي تزداد تعقيداتها ومعاناتها ومخاطرها يوماً بعد يوم، بعدما بلغت نقطة «الشر المطلق» على حد الوصف الذي استخدمته الأمم المتحدة في حديثها عن العنف الذي استشرى ووصل إلى مرحلة الإبادة على أساس عرقي وقبلي في دارفور. وفي ظل هذه الظروف المعقدة يتعرض الجيش السوداني إلى هجمة غير مسبوقة، في ظل التجاذبات والصراعات السياسية التي عصفت بالبلد ودفعت به إلى أتون هذه الحرب، وفي ظل سير المعارك الجارية وسيل التحليلات الذي لا ينقطع في وسائل التواصل الاجتماعي. فمع كل انسحاب للجيش من موقع، تضج المواقع المختلفة بالتحليلات والتأويلات والتجاذبات بين المشككين الذين يتحينون الفرص للضرب في الجيش، وبين المدافعين عنه بوصفه المؤسسة التي تحمي الوطن في وجه هجمة تهدد وحدته وتماسكه.
لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي نقمة أحياناً بسبب مشكلة النقل الأعمى والكسول بلا تمحيص أو تفكير. ففي ظل غياب الإعلام الرسمي وتفوق قوات الدعم السريع بشكل كبير على الجيش في معركة الإعلام منذ بداية الحرب وحتى اللحظة، أصبح المواطن نهباً للشائعات، وفي حيرة من أمره إزاء الأخبار والتقارير المتضاربة، والتحليلات والاجتهادات التي تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يعرف في بعض الأحيان مصدرها في ساحة مكشوفة توجد فيها أجهزة وأدوات أطراف خارجية.
أخطر ما في هذه المعركة هو تكرار الشعارات التي تدمغ الجيش بأنه «جيش الكيزان» أو «جيش الفلول» والتي انتقلت من بعض النخب السياسية والمدنية لتصبح لافتة ثابتة تستخدمها قوات الدعم السريع في الحرب ضد الجيش. فعلى الرغم من أنه ليس هناك من ينكر أن الإسلاميين تغلغلوا في الجيش، فإنه ليس صحيحاً أن الجيش كله أو حتى غالبيته من «الكيزان»، واستخدام هذه الشعارات بهذه الكيفية والكثافة بات ورقة لا ترمي لإضعاف الجيش في المعركة الراهنة وحسب، بل قد يستخدمها البعض حجة لتفكيكه لاحقاً. وقد كان لافتاً أن أحد الوجوه القيادية في قوات الدعم السريع تحدث علناً وفي مقطع فيديو يتباهى فيه بـ«الانتصارات» الأخيرة، عن أنه بعد الآن لا يكون الحديث عن دمج «قوات الدعم» في الجيش، بل دمج الجيش في قوات الدعم.
الحقيقة أن خطاب دمغ الجيش بأنه «جيش الكيزان والفلول» تبنته قوى منخرطة في تحالف قوى الحرية والتغيير وخارجه في إطار المعركة السياسية التي كانت دائرة إبان الفترة الانتقالية، وضمن الكلام الذي استندت إليه الدعوات لإصلاحه، وهي دعوات يشتط فيها البعض أحياناً بالحديث المبطن عن تفكيكه وإعادة بنائه. ليس هناك من يعترض على أن الجيش في حاجة إلى عملية إصلاح، فحتى العسكريون يقرون بذلك. هذا الإصلاح تستدعيه عوامل كثيرة منها ما كشفت عنه هذه الحرب من بعض أوجه القصور مثل النقص في قوات المشاة، وفي بعض أوجه التسلح والتدريب لمواجهة مختلف الظروف بما فيها حرب المدن. ومنها مسائل أكثر تعقيداً مثل كيفية إبعاده عن السياسة التي أضرت به وبمهنيته، بل وأضعفته، وفتحت أبوابه أمام تغلغل قوى سياسية تريد اتخاذه مطرقة لتحقيق طموحاتها في الوصول إلى السلطة عبر طريق الانقلابات لا عبر صندوق الانتخابات.
قضية إصلاح الجيش تتداخل وتتشابك معها أيضاً معضلة قوات الدعم السريع ومستقبلها بعد كل هذا الذي جرى. فإذا كانت قضية دمجها في القوات المسلحة صعبة وشائكة قبل الحرب، بل كانت ضمن العوامل التي أسهمت في إشعالها، فإنها أصبحت الآن أكثر تعقيداً، لا سيما في ظل التجاوزات والانتهاكات الخطيرة التي ارتكبتها، وأكسبتها عداء وكره قطاعات كبيرة من المواطنين الذين باتوا يرفضون تماماً فكرة الدمج أو أن يكون لهذه القوات أي دور أو وجود في الساحة. وما يزيد الأمر خطورة هو التجاذب الحاصل بين القوى السياسية المتصارعة، وتحديداً بين الإسلاميين الذين يرون فرصة لإقصاء هذه القوات وحلفائها من المشهد، وبين قوى الحرية والتغيير التي تتمسك بعملية الدمج وترى دوراً لـ«الدعم السريع» في تحقيق مقاصدها لتحجيم تغلغل الإسلاميين في القوات المسلحة، بل ولإقصائهم عن الساحة تماماً.
السودان يمر بمرحلة بالغة الخطورة في ظل هذه الحرب المستعرة التي لا أحد يستطيع الجزم بمآلاتها، وآخر ما يحتاجه الآن هو إضعاف جيشه أو انهياره بأي شكل وتحت أي ظرف. فنحن نرى اليوم بعض الحركات المسلحة تتنمر وتهدد لأنها ترى الدولة تضعف، والجيش مشغول بحربه ضد «الدعم السريع». حتى الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو التي راهن عليها البعض لدعم التحول الديمقراطي، خيبت الآمال عندما استغلت ظروف الحرب الراهنة وانشغال الجيش لتحاول قضم المزيد من الأراضي وتوسيع رقعة سيطرتها. كذلك رأت أطراف في حكومة جنوب السودان فرصة في هذه الحرب لكي تدفع بقواتها إلى منطقة أبيي المتنازع عليها، في مؤشر على أن هناك أطرافاً عدة داخلية وخارجية تتربص وتتحين الفرصة للنهش في جسد السودان الذي يبدو اليوم في أضعف حالاته.
مطالب الإصلاح مطلوبة، وكذلك دعوات ابتعاد الجيش عن السياسة، لكنها لا ينبغي أن تصبح ورقة تؤدي، بشكل أو آخر، إلى انهياره الآن أو تفكيكه في وقت لاحق، لأن ذلك سيكون أكبر خطر على البلد، والدروس كثيرة وماثلة حولنا.
الوسومالخطر السودان العنف عثمان ميرغنيالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الخطر السودان العنف عثمان ميرغني
إقرأ أيضاً:
هل قتلت قوات الدعم السريع الصحفي السوداني معمر إبراهيم؟
انتشرت أخبار مكثفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تفيد بوفاة الصحفي السوداني المعتقل لدى قوات الدعم السريع معمر إبراهيم، داخل مكان احتجازه في نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور.
وفي إفادة للجزيرة نت، أكد محمد إبراهيم، الشقيق الأكبر للصحفي المعتقل منذ أكتوبر/تشرين الأول أن مصدر الإشاعة التي نفى صحتها ما زال مجهولا، وأن معمر بخير ولم يتعرض لأي أذى، مشيرا إلى أنه استطاع الاطمئنان عليه عقب ورود إشاعة وفاته مساء أمس الأربعاء.
وأضاف شقيق الصحفي الذي عمل مراسلا لدى قناة الجزيرة مباشر أن آخر تواصل مباشر معه كان عقب ظهوره إلى جانب المتحدث باسم الدعم السريع الفاتح قرشي مطلع الشهر الماضي، غير أن ثمة تواصلا غير مباشر يسعون عبره إلى الاطمئنان على معمر وتأمين احتياجاته.
وأكد المتحدث باسم تحالف السودان التأسيسي -الذي يقوده الدعم السريع- علاء الدين نقد في تصريح للجزيرة مباشر أن الصحفي معمر بـ"أمن وأمان"، وفق تعبيره.
ما مصير الصحفي معمر إبراهيم؟
الناطق باسم تحالف السودان التأسيسي يجيب #الجزيرة_مباشر #السودان #الفاشر pic.twitter.com/JpygwAP36v
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) November 16, 2025
مطالبات بظهور الصحفيوتعليقا على تصريح نقد، دعا الصحفي السوداني مزمل أبو القاسم إلى السماح لزميله معمر بالظهور على شاشة قناة الجزيرة مباشر للتأكد من سلامته، وكتب عبر حسابه على فيسبوك بأن معمر تعرض لإخفاء قسري واحتجاز غير مشروع وإهانة وضرب وتعذيب ظهرت بجلاء في مقاطع فيديو عقب سقوط مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور.
لكنّ الإشاعة حفّزت حالة القلق على سلامة معمر وعدد غير معلوم من الصحفيين المعتقلين والمختفين قسريا في السودان، ورغم نفي الأمر، يبدي نقيب الصحفيين السودانيين عبد المنعم أبو إدريس قلقه بشأن سلامة الصحفي معمر، مطالبا بإطلاق سراحه على الفور.
إعلانويقول أبو إدريس للجزيرة نت "معمر كان يؤدي مهنته كصحفي وهي ليست جريمة حتى يُحتجز بسببها، وما يمرّ به يُعد خرقا للقوانين الدولية والإنسانية"، مناشدا المنظمات المهتمة بحرية الصحافة للتضامن مع معمر وسائر الصحفيين السودانيين في ما يقاسونه من تحديات وتهديدات جراء الحرب.
سي بي جيه: صحة معمر متدهورة ونريد دليلا على حياتهوفي تصريح لها مساء الأربعاء، أعربت لجنة حماية الصحفيين "سي بي جيه" (CPJ) عن قلقها إزاء تقارير تفيد بأن الحالة الصحية للصحفي معمر قد تدهورت بشكل خطير أثناء احتجازه، داعية إلى الإفراج الفوري عنه لتمكينه من تلقي الرعاية اللازمة.
#السودان: "نشعر بقلق بالغ إزاء التقارير التي تفيد بأن الحالة الصحية للصحفي السوداني معمر إبراهيم، المحتجز لدى قوات الدعم السريع، قد تدهورت بشكل خطير أثناء احتجازه. إذ أصبح طريح الفراش ويعاني من آلام شديدة، في وقت ترفض فيه قوات الدعم السريع نقله إلى المستشفى أو الإفراج عنه. وتدعو… pic.twitter.com/Sx0zRTfVMq
— CPJ MENA (@CPJMENA) December 10, 2025
وقالت المديرة الإقليمية للّجنة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا سارة القضاة إن معمر أصبح طريح الفراش ويعاني من آلام شديدة، في وقت ترفض فيه قوات الدعم السريع نقله إلى المستشفى أو الإفراج عنه.
لكنْ في اليوم التالي، الخميس، صدر تصريح آخر للّجنة الدولية، يفيد بأنها راسلت قوات الدعم السريع مطالِبة بتقديم أي دليل على أن الصحفي معمر إبراهيم على قيد الحياة، وذلك بعد ورود تقارير تفيد بأنه قُتل أثناء احتجازه، في حين لم تجزم اللجنة بنفي الأخبار المتداولة.
تؤكد لجنة حماية الصحفيين أنها راسلت قوات الدعم السريع مطالِبةً بتقديم أي دليل على أن الصحفي السوداني معمر إبراهيم على قيد الحياة، وذلك بعد ورود تقارير تفيد بأنه قُتل أثناء احتجازه لدى قوات الدعم حيث يقول زملاؤه إنها مزاعم غير مؤكدة حتى الآن." سارة القضاة. pic.twitter.com/HZujvEmIel
— CPJ MENA (@CPJMENA) December 11, 2025
وكانت شبكة الصحفيين السودانيين في الـ18 من الشهر الماضي أعربت عن قلقها البالغ على مصير الصحفي، عقب تصريحات لوزير الصحة في حكومة التأسيس علاء نقد خلال لقاء له عبر قناة الجزيرة، ذكر فيها جملة من التهم الموجهة للصحفي، وقال إنه كان سببا في تأجيج الحرب.
وقالت الشبكة في بيان آنذاك إن "سيل الاتهامات التي أطلقها نقد في حق معمر تجعلنا في قلق شديد من المصير الذي ينتظره".
الصحفي بوصفه مدني بموجب القانون الدولي الإنساني يجب حمايته من أطراف النزاع ويحظر احتجازه أو معاملته بقسوة أو الاعتداء عليه.
ندعو @ICRC للعمل على ضمان سلامة الزميل الصحفي معمر إبراهيم @MUAMMAR_SUD الذي ظهر محتجزا ويعامل بقسوة من قبل عناصر الدعم السريع وفقا للمقطع أدناه. pic.twitter.com/fw1WsD4j1S
— Mojahed Taha (@mojahedashw2k) October 26, 2025
وظهر معمر إبراهيم اليوم الثاني لسيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر 26 أكتوبر/تشرين الأول، في مقطع فيديو صُوّر ليلًا مع مجموعة من المسلحين، وقال فيه إنه حاول الخروج من المدينة، وقد قُبض عليه قبل أن يتمكن من ذلك.
إعلانوفي الرابع من شهر نوفمبر/تشرين الثاني، بثت قوات الدعم السريع مقطعا مصورا ظهر فيه إبراهيم إلى جانب الفاتح قرشي، الذي قال إن الصحفي يواجه تهمة الإساءة لقوات الدعم السريع بسبب استخدامه كلمتي "مليشيا وجنجويد" توصيفا للدعم السريع، معتبرا الوصفين إخلالا بالحيادية المطلوبة لدى الصحفيين.
وقبل نحو أسبوعين، اغتالت قوات الدعم السريع الصحفي تاج السر محمد سليمان، مدير مكتب وكالة السودان للأنباء (سونا) في منزله مع شقيقه بحي الدرجة في مدينة الفاشر.
وأشار وزير الإعلام السوداني خالد الإعيسر في بيان نعيه الصحفي سليمان، إلى أن قوات الدعم السريع اعتقلت عددا من الصحفيين السودانيين العاملين لدى وسائل إعلام مختلفة، ونقلتهم من الفاشر إلى مدينة نيالا في جنوب دارفور غربي السودان.
وناشد الإعيسر المنظمات الدولية المعنية بحماية الصحفيين الاضطلاع بدورها في متابعة الصحفيين المعتقلين والعمل على ضمان سلامتهم.
وغطى إبراهيم أخبار الحرب في دارفور على مدى العامين الماضيين، ويُعدّ من بين الصحفيين القلائل الذين بقوا لتوثيق التطورات في الفاشر رغم الغارات الجوية المستمرة وانقطاع الاتصالات والأزمة الإنسانية الحادة.