الفيلم السعودي “ناقة”.. حالة سينمائية متفردة
تاريخ النشر: 18th, December 2023 GMT
متابعة بتجـــرد: “ناقة”، فيلم سعودي مختلف، مثير للاختلاف، جريء، مثير للجدل، لكنه في نهاية المطاف عمل فني مبدع، وبديع، يحمل بصمة صاحبه الخاصة، التي لا تشبه غيره.
“ناقة” فيلم مشوق، يُجبر من يشاهده على البقاء في مقعده مترقباً، متوتراً، وسواء كان مستمتعاً أو ناقماً، سيواصل غير شاعر بمرور ما يقرب من ساعتين.
فيلم “ناقة” أيضاً صعب التلقي، لا يبوح بمكنونه بسهولة، يرتبط مضمونه بأسلوبه، ما يجعل تحويله إلى كلمات أو أفكار، أمر شبه مستحيل.
قصته بسيطة للغاية، لكن الطريقة التي تروى بها مركبة للغاية، يتحول فيه اليومي والعادي إلى حلم أو كابوس أحياناً، وصور تخطف البصر وتتسلل داخلك، مخلفة شعوراً بالقلق، بالانجذاب، النفور أحياناً.
ربما تحب حكايته وشخصياته، أو ربما تكرهها، لكن يصعب أن تنساها، وفي الحالتين سيترك مذاقاً حلواً ومراً في حلقك، يشبه الحلم المعلق لحظة الاستيقاظ، فهل هو فيلم سيريالي، كما وصفه البعض؟
سيريالية صحراوية!
إنه يحمل من السيريالية الكثير: بناء الحلم، وغرابة الأحداث والمواقف وطريقة تصويرها، وتركيزه على خلق حالة غامضة، عوضاً عن رواية حدوتة تقليدية، لكنها سيريالية سعودية، إذا جاز التعبير.
ربما يكون مخرج ومؤلف الفيلم، الشاب الموهوب مشعل الجاسر، متأثراً بأعمال مخرجين، مثل ديفيد لينش أو جوليرمو ديل تورو، لكنه متشرب أكثر بالثقافة المحلية، بالمكان، والبيئة، والخيال الصحراوي الخليجي، الذي يختلف عن خيال الصحراء الأميركية أو المكسيكية.
والسيريالية وصف لا مدح ولا ذم، كما يحلو للبعض أن يطلقها مرحباً أو رافضاً، معناها ببساطة التعبير عما يتركه الواقع على الوعي الباطن، على المشاعر والمزاج والتكوين النفسي، وليس ما يتركه على العقل الواعي أو سطح العين.
والواقع أحياناً، ما يكون من العبثية واللا منطق، ما يتجاوز عبثية ولا منطق الأحلام، ساعتها يكون البناء السيريالي (الحلمي) أفضل ما يعبر عن هذا الواقع.
افتتاحية محيرة
يبدأ الفيلم بـ”فلاش باك” عام 1975، يقوم فيه رجل شرقي نمطي باقتحام مشفى وارتكاب مذبحة، لأن زوجته ولدت طفلته على يد طبيب رجل!.
ننتقل بعدها إلى الزمن الحاضر لنتابع قصة لا علاقة لها بالمشهد الافتتاحي، ما يثير سؤالاً يظل قابعاً في الخلفية للنهاية: ما العلاقة؟!.
والعلاقة لا ترتبط بالأحداث والشخصيات على نحو مباشر، لكنها ترتبط بالحالة والمزاج والتكوين النفسي للثقافة، لمجتمع عانى كثيراً من الفهم الخاطئ والمتطرف للدين، ما أنتج أجيالاً تعيش في “أعراف” limbo ما بين الحاضر والماضي، الحلم والكابوس، شبيه بتلك الرحلة التي تقطعها بطلة الفيلم قبل أن تخرج من هذه “الأعراف” إلى الحاضر.
أين الطريق؟
يعتمد “ناقة” بناء فيلم الطريق، وهو نوع رائج أيضاً بين شباب صُنّاع الأفلام السعوديين، من أحدث الأمثلة على ذلك “آخر زيارة” للمخرج عبد المحسن الضبعان، و”مدينة الملاهي” إخراج وائل أبو منصور.
هذه الرحلة عبر الطريق تحقق غالباً هدفين: استخدام الصحراء والطرق السريعة الممتدة، كمكان جمالي ممتلئ بالتعبير عن الهوية، والثاني: التعبير عن فكرة الطريق الذي يقع بين زمنين أو ثقافتين، يقف الإنسان أو يتحرك حائراً بينهما، وفوق ذلك بالطبع التعبير عن حالة الرحلة الدرامية نفسها، والتحول الذي تمر به الشخصيات.
تتجسد هذه الأفكار في “ناقة”، من خلال الرحلة التي تقطعها البطلة الشابة سارة (أضواء بدر) خلال يوم واحد، حيث تمر بتجربة خطيرة تكاد تفقد فيها حياتها فعلياً أو معنوياً، إذ تقبل دعوة حبيبها سعد (يزيد المجيول)، للذهاب إلى حفل بمخيم في قلب الصحراء، فيما يفترض أبوها أنها تتسوق، ويُحدد لها موعداً محدداً ليمر عليها مصطحباً إياها إلى البيت.
ولكن الرحلة إلى المخيم والعودة تصبح بمثابة زيارة لقلب الظلام أو للجحيم، إذ تواجه خلالها كل أشباحها، من الخوف من الذكور إلى الخوف من الأنوثة ذاتها، تكتشف سارة خلال هذه الرحلة زيف حبيبها وزيف رجال آخرين، كما تعيد اكتشاف الأب الطيب، وقبل ذلك وبعده تواجه انتقام الأم المكلومة، متجسدة في ناقة يقتل سعد طفلتها بالخطأ، ما يحيلنا إلى مشهد البداية، وصورة الأم الذبيحة.. الأم التي تعرضت للقمع والقهر التي تصب غضبها على الابنة (سارة) بدلاً من أن تصبه على قاتل ابنتها الحقيقي (سعد).
جرأة متعددة
الفيلم الذي أنتجته منصة “نتفلكس” من خلال شراكتها مع شركة “تلفاز 11″، بالتعاون مع شركتي “مناسب” و”موفيتاز” جرئ في كل عناصره، رغم أن البعض قد لا يرى من الجرأة سوى أن البطلة تدخن، وأن لها حبيباً، وأن هناك بعض الجمل التي يرددها الناس كل يوم لكنهم يخجلون حين يسمعونها في فيلم أو مسلسل.
الفيلم جرئ في فكرته الفنية والشخصية القوية التي بنيت عليها الأحداث، والتي تؤديها أضواء بدر ببراعة مدهشة، إذ تحمل ملامح وجهها المعاني كلها، دون أن تتكلم، وحين تتكلم تنفجر هذه المعاني.
والفيلم جرئ في لغته السينمائية، بداية بتصوير مشهد البداية الذي تنقلب فيه الكاميرا رأساً على عقب، وحتى مشاهد عدو البطلة في شوارع الرياض وسط الحشود في نهاية الفيلم، مروراً ببعض اللوحات الفنية للطبيعة أو للتكوينات البشرية وسط الديكور، أو لوجه سارة تحديداً في حالاتها المختلفة، أو لانعكاسات الضوء على سطح المشروب داخل كوب.
يمزج الفيلم بين الإثارة (حد الرعب أحياناً) والكوميديا الخفيفة، ومن العناصر المميزة فيه الموسيقى التصويرية التي استطاعت أن تمزج بين الرعب والكوميديا في جمل موسيقية واحدة.
من مزايا الفيلم أيضاً، كسره للتتابع الزمني الذي ينبني عليه السيناريو، فبعد نصف ساعة تقريباً يفاجئنا بقفزة زمنية إلى الأمام، قبل أن يعود مجدداً للتتابع التقليدي، وهي حيلة رفعت حالة التشويق، إذ أضافت لسؤال “ما الذي سيحدث؟” سؤال آخر هو “كيف حدث ذلك؟”.
ربما فقط كان يمكن اختصار بعض المشاهد التي طالت أكثر مما ينبغي أحياناً، مثل مشهد مطاردة الشرطة لسيارة البطلين، ومشهد مطاردة الناقة لسارة، وبعض اللقطات في قليل من المشاهد الأخرى.
“ناقة” فيلم غير تقليدي، يمكن أن يصدم بعض الذين يألفون ويحبون السينما السائدة، المصنوعة وفقاً لنماذج شعبية جاهزة، ولكن من يعطي للفيلم بعض اهتمامه، فربما يكافأ بتجربة فنية ممتعة وفارقة.
main 2023-12-18 Bitajarodالمصدر: بتجرد
إقرأ أيضاً:
هند رجب.. من صوت طفلة إلى رسالة سينمائية في مهرجان كرامة
عمّان – لم يكن افتتاح الدورة السادسة عشرة من مهرجان "كرامة سينما الإنسان" في العاصمة الأردنية عمّان حدثا سينمائيا عابرا، ولا مجرد احتفاء جديد بحقوق الإنسان عبر الفن، بل لحظة تُستعاد فيها جراح لم تهدأ، ليعود إلى الواجهة صوت الطفلة الفلسطينية الشهيدة هند رجب التي لم يمهلها الرصاص لتكبر.
فمع انطلاق فعاليات المهرجان، تحوّل فيلم الافتتاح إلى مساحة يستعيد من خلالها الحضور صدى الطفلة هند رجب، الذي اخترق حصار الحرب ووصل إلى العالم بوصفه شهادة لا يمكن محوها.
هند رجب، التي تحولت مكالمتها الأخيرة مع طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني إلى واحدة من أكثر الشهادات الإنسانية قسوة في زمن الحرب على قطاع غزة، تظهر من جديد في عمّان عبر شاشة واسعة تلتقط قصة قصيرة في عمرها، كبيرة في أثرها، لتعيد طرح الأسئلة التي حاول العالم تفاديها، وتقدم واقعا لا يحتمل الصمت أو التأجيل.
بحضور جماهيري لافت، وفي مشهد يحتفي بالوعي ومسؤولية الفن، في مواجهة القضايا الإنسانية والحقوقية الكبرى، انطلقت في المركز الثقافي الملكي فعاليات الدورة الجديدة لمهرجان كرامة الذي يحمل هذا العام عنوان "بنك الحقوق"، وهو عنوان يوحي بأن الحقوق ليست مجرد شعارات، بل هي رصيد فعلي يجدر استعادته ومساءلة العالم عنه.
ليأتي حفل الافتتاح متوجا بعرض الفيلم الأردني القصير "هند تحت الحصار" للمخرج ناجي سلامة، وهو العمل الذي خص به مسرح المهرجان الرئيسي ليكون فاتحة لأيام سينمائية مكثفة تمتد حتى منتصف الشهر الجاري.
يحمل فيلم "هند تحت الحصار" مادة إنسانية متفجرة، مستندا إلى التسجيل الحقيقي لمكالمة أجرتها الطفلة هند رجب ذات الستة أعوام مع طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني، طالبة النجدة بعدما وجدت نفسها عالقة داخل سيارة عائلتها التي تعرضت لإطلاق نار أثناء اختبائهم في حي تل الهوا بغزة.
إعلانوبين ارتجاف صوت الطفلة ومحاولات مسعفة الهلال الأحمر رنا الفقيه طمأنتها، تتسع مساحة الحكاية لتكشف ملامح الرعب الذي عاشته الطفلة هند وحيدة في لحظات فاقت قدرة البشر على الاحتمال.
رعب طفلةيذهب المخرج ناجي سلامة عبر بناء بصري مكثف إلى إعادة الاعتبار لهذه اللحظة الإنسانية الجارحة، مستعينا بشهادات مسعفين وشهود عيان لإظهار حجم التهديد الذي واجهه كل من حاول الوصول إلى الطفلة.
أما مدير الإنتاج غسان سلامة، فأوضح أن الفيلم هو "محاولة سينمائية لفضح الفرقة العسكرية الإسرائيلية الخاصة التي قتلت الطفلة هند"، مضيفا في حديثه للجزيرة نت أن العمل يختصر قصة موجعة لإيصالها للعالم كله، في مواجهة رواية القتلة الذين وصفوا أنفسهم بـ"إمبراطورية مصاصي الدماء".
ومن بين الأصوات التي يعيد الفيلم إحياءها صوت عمر علقم من طواقم الهلال الأحمر، والذي كان على اتصال مباشر مع الطفلة حتى اللحظة الأخيرة، ويروي علقم في حديثه للجزيرة نت أن الشهيدين يوسف وأحمد -المسعفيْن اللذين أُرسلا لإنقاذها- "وصلا إليها بالفعل، لكن جنود الاحتلال باغتوهما وقتلوهما تماما كما قتلوا هند بدم بارد".
كما حضرت العرض لينا حماد، وهي طالبة جامعية قالت إن حضورها ليس بدافع الفضول السينمائي، بل لأنها أرادت أن ترى كيف يمكن لصوت طفلة واجهت الموت أن يتحول إلى عمل فني يلامس ضمير العالم بأسره.
لتضيف حماد في حديثها للجزيرة نت أن "إنتاج الفيلم ليس مجرد قرار فني، بل هو موقف أخلاقي وفكري، يعيد طرح سؤال العدالة في وجه العالم، فبعد نحو عام على رحيل الطفلة، يأتي الفيلم ليقول إن الحكاية لم تُقفل، وإن السينما لا تُعيد الحياة إلى أصحابها لكنها تُعيد الذاكرة إلى مكانها الصحيح".
وعلى مدى أيام المهرجان، يعرض أكثر من 70 فيلما روائيا وتسجيليا وتحريكيا، بمدد طويلة ومتوسطة وقصيرة، قادمة من بلدان تمتد من فلسطين وسوريا والعراق وتونس ومصر ولبنان والسودان، إلى الهند وتركيا وأوروبا والأميركتين.
وتتوزع هذه الأعمال على قضايا إنسانية واسعة، لكنها تلتقي جميعا تحت مظلة واحدة عنوانها "حماية الإنسان وكرامته".
وتتنافس أفلام عربية وأجنبية في مسابقات المهرجان، إلى جانب عروض خارج المنافسة، وتشمل جوائز هذا العام:
أفضل فيلم وثائقي طويل. أفضل فيلم حقوقي (التي تمنحها "أنهار/ الشبكة العربية لأفلام حقوق الإنسان"). جائزة خاصة للأفلام الأردنية القصيرة.كما تُعقد على هامش المهرجان مجموعة من الندوات، من أبرزها ندوة "ديمقراطية الصورة" ضمن الطاولة المستديرة "لازمنا اجتماع"، لمناقشة دور الصورة في تشكيل الوعي الجمعي في زمن الصراعات المتسارعة.
ومنذ تأسيسه عام 2010، شكل مهرجان "كرامة" أول منصة سينمائية دولية لحقوق الإنسان في الأردن، واستمر في شق طريقه باعتباره فضاء حرا للنقاش والحوار، متشابكا مع أكثر اللحظات الفكرية والأخلاقية حساسية في المنطقة والعالم.
إعلانومن خلال السينما والندوات والمنتديات والمعارض، رسخ المهرجان دوره كجسر للحوار الديمقراطي، وفضاء لتعزيز التفكير النقدي والمشاركة المدنية، مستقطبا جمهورا واسعا من الشباب والنساء والناشطين، إضافة إلى عشرات المخرجين والفنانين من الأردن والعالم.
طواقم الدفاع المدني في #غزة تعثر على جثامين متحللة للشهيدة الطفلة هند رجب و5 من عائلتها إلى جانب مسعفي الهلال الأحمر الفلسطيني الذين توجهوا لإغاثتها قبل 12 يومًا في حي تل الهوا جنوب غربي مدينة غزة #حرب_غزة #فيديو pic.twitter.com/cbbaz9w3Ji
— الجزيرة فلسطين (@AJA_Palestine) February 10, 2024
ومع نهاية عرض "هند تحت الحصار"، لم يكن الفيلم مجرد استعادة لقصة طفلة رحلت، بل بدا أشبه بمحاولة لإبقاء ذاكرتها حيّة، ولتذكير الجمهور بأن الحكاية لم تُغلق بعد، فهند رجب -رغم الغياب- لا تزال شاهدة على زمن تتقاطع فيه الأسئلة الكبرى مع صدى صوت طفلة تبحث عمن ينتشلها من تحت الحصار أو من قبضة الموت.