ماذا لو كان دينيس غولدبيرغ بين الفلسطينيين اليوم؟
تاريخ النشر: 28th, December 2023 GMT
اشتُهرَ العديد من قصص النضال والكفاح ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وكان أشهرها عملية هروب ثلاثة سجناء سياسيين من سجن بريتوريا عام 1979، بمساعدة المناضل المخضرم دينيس غولدبيرغ؛ فقد استغرق التخطيط للهروب أشهرًا، وكانت كل دقيقة قد جُبلت بالبكاء والألم والأمل.
ومع أنّ لكل حالة احتلال ونضال خصوصيتَها، إلا أنّ هناك دروسًا مستفادة من عملية الهروب.
كتب أحد منفذي عملية الهروب – وهو "تيم جينكين"- قصة حول الحادثة بعنوان: "من الداخل إلى الخارج: الهروب من سجن بريتوريا المركزي"، وصدرت الطبعة الأولى عام 1987، ومن ثم تعددت الطبعات، وبالاعتماد على هذه الرواية أُنتِج فيلم باسم "الهروب من بريتوريا" عام 2020، نسبة إلى السجن ذي الإجراءات الأمنية المشددة، والواقع في مدينة بريتوريا، وتقع المدينة في الجزء الشمالي من مقاطعة غوتنغ في جنوب أفريقيا، وتعتبر من العواصم الثلاثة الرئيسة للدولة.
تبدأ القصة عام 1978، حيث ينخرط اثنان من البيض من جنوب أفريقيا بمناهضة نظام الفصل العنصري، وهما: "تيم جينكين" و"ستيفن لي"، على إثر ذلك قبض عليهما وحُكم على "جينكين" بالسجن لمدة اثني عشر عامًا، وحُكم على "لي" بثمانية أعوام، ووُضِعا في سجن "بريتوريا"، ودون أي تردد، وبعد أيام من سَجنهما، اتخذ السجينان قرارًا بالهروب، وبدأا بوضع خُطتهما لينضم لهما سجين ثالث، وهو الناشط المصري المولد، أليكس مومباريس.
في بداية الخُطة التقى السجناء الثلاثة بمناضلين قدامى، أشهرهم دينيس غولدبيرغ، وهو سجين سياسي حكم عليه أربعة أحكام بالسجن المؤبد؛ لعمله السابق ضد الفصل العنصري. وبلغة السجناء الفلسطينيين، كان هو ونيلسون مانديلا، ووالتر سيسولو "أبناء قضية واحدة".
اختلف غولدبيرغ مع السجناء الثلاثة في بداية الأمر، ونصحهم أن يقضوا مدة حبسهم بكرامة "كسجناء رأي"، وتجنب أية خطوات قد يؤدي فشلها للإضرار بالسجناء كافّة.
ولكن بعدما فشل غولدبيرغ في منعهم، ووصل لقناعة أن الشبان الثلاثة مصرون على خيارهم، تدخل بطريقة إيجابية نحو عقلنة الهروب، وتعامل معهم بحكمة. وذلك من خلال مجموعة من المحاور:
الأول: أنه منحهم بعضًا من تجاربه، فلم يحتكرها، وجنّدها لصالحهم، وأخبرهم عن العلاقات التي تحكم السجناء، وعن إدارة السجن، ومواطن قوتها وضعفها؛ بمعنى أنه لم يتركهم ليكونوا ضحية قلة الخبرة والتجرِبة بالبيئة الاعتقالية، ليوفر عليهم الزمن ويجنّبهم الفشل. مدركًا أن الثلاثة قد أصروا على قرارهم، فيجب أن تنجح تجربتهم.
الثاني: لم يستخف غولدبيرغ بالسجناء الثلاثة، فهو صاحب التاريخ النضالي العريق، ووَفق الوصف الفلسطيني، "صاحب الطلقة الأولى"، وهو رفيق "الزعيم" نيلسون مانديلا، وهو ابن تنظيم "أم الجماهير"، ولديه المناصرون الكُثر في داخل المعتقل وخارجه.
استقلالية المساريرى غولدبيرغ، أن كل الفرقاء تحت حكم إدارة نظام الفصل العنصري، الذي لا يفرق بين أبيض وملوّن، فكلاهما سيان بالنسبة له. وأن لا مكتسبات كبيرة دون الحرية سيخسرها الفرقاء في السجن إن أقبل أحدهم على خياره.
ورأى أنه بغض النظر عن نتيجة خطة الهروب، فلن يكون هناك فرق في ردة فعل إدارة السجن من حيث القمع سواء أفشلت الخطة بعد اكتشافها، أم اكتُشِفت بعد نجاحها. فالفرق بين السيناريوهَين، نجاح الخطة، وليس ردة فعل إدارة السجن.
الثالث: لم يقم "الحكيم" غولدبيرغ بإجراءات ينتصر من خلالها لرأيه، ولم يلجأ لسلطته في السجن بتحريض السجناء على الثلاثة، ولم يناجزهم في الشرعية والتمثيل، فالنضال والكفاح هما اللذان يمثلان المظلومين، ولم ينسج رأيًا عامًا ضدهم، ولم يستخدم سلطته المعنوية والمادية في قمعهم؛ بحجة الإضرار بالمصالح العليا.
فلا مصلحة عليا سوى الحرية، فهم من أجلها في السجن. وكلهم أمل بنيلها. ولم يفشل مخططهم، بل تبيّن من خلال الفيلم والقصة المكتوبة وروايات من عاصروا الحدث، حرص غولدبيرغ كأب على أبنائه، فقد خلق مسافة أمان بينه وبينهم. وعلى رغم خلافه معهم، فإنهم ظلوا مطمئنين له، ومن ناحية أخرى فقد حافظ هو أيضًا على استقلالية مساره. فغولدبيرغ صاحب رؤية، يسعى لتحقيقها دون الإضرار بمسارات الآخرين.
الرابع: أدرك غولدبيرغ أن الهروب سيكون له تكلفة على الحركة الأسيرة؛ لأنّه سيؤدي إلى حملة قمع شديدة من قبل إدارة السجن، ورغم ذلك، ساعد في تأمين بعض لوجستيات الهروب، وتواصل مع رفاقه في حزب المؤتمر الوطني؛ لترتيب سيارة الهروب وتفاصيل أخرى. وبينما كان الهاربون الثلاثة في طريقهم للخروج، عمل غولدبيرغ على تشتيت انتباه السجّانين، وبالذات مديرهم، ليتمكن الثلاثة في النهاية من الفرار إلى الدول المجاورة بنجاح.
مقاربة واتزانمما سبق نرى أنه وبرغم الخُطة المحكمة للهروب، والعمل الدؤوب للسجناء الثلاثة، والتحايل على الصعوبات الجمة، والأداء البطولي، إلا أن غولدبيرغ يعتبر البطل الرابع، فما كان للخطة أن تنجح لولا مقاربة غولدبيرغ واتزانه. فلو اختل هذا الاتزان لربما فشلت خطة الهروب المعقدة المعتمدة على الحيل التراكمية، التي لو فشلت إحدى حلقاتها لانهارت الخطة بمجملها.
وبعد إتمام كل حلقات الخطة، وإتمام الثلاثة صنع المفاتيح الخشبية التي تستطيع فتح أقفال أبواب السجن، وقبل تنفيذ خطة الهروب بلحظة، ذهب الثلاثة لغولدبيرغ ومجموعة من أتباعه، يعرضون عليهم الهرب معهم، فرفض؛ مستندًا إلى رؤيته في إدارة الصراع مع إدارة السجن، والتي تنسحب على إدارته للصراع مع نظام الفصل العنصري، وهي أنه يميل للتروّي، وأن النضال حتى ينجح ويحقق نتائج جوهرية، يحتاج لصبر واستيفاء الظروف المجتمعية والدولية الملائمة، وأن يتحقق للمجتمع جهوزية النضال من أجل التحرير، ضمن وقته الطبيعي.
في حين أن الثلاثة، يرون أنّ أيّ انتظار سيراكم المزيد من المعيقات والمعضلات الاجتماعية، وسيقوّي أكثر وأكثر نظام الفصل العنصري، وسيفوّت الفرص التاريخية التي يمكن أن تحقق خرقًا هامًا يمكن البناءُ عليه.
شعور بالنصروبعد الهروب ولحظة اكتشاف مدير السجانين لذلك، أصيب بصدمة شديدة ومفزعة. فقد جرى كل شيء على نقيض ما خلقه نظام السجن. فقد كان يتخيل أنه متفوق على السجناء بأدوات الحصار والاعتقال، وأنظمة المراقبة والتحكم. واعتقد أن نظامَ التأديب – سواء من خلال هندسة السجن أم من خلال الإجراءات- قد هزمَ وطوّعَ وعي السجناء، وخلقَ منهم شخوصًا رضيت بالعبودية. ولربما اعتبر مدير السجانين أيضًا أنهم قد زرعوا خلافًا بين السجناء سيُفشل أي محاولة هروب أو عصيان بمجرد أن يختلف فيها فريق مع الآخر.
واجه غولدبيرغ صدمة إدارة السجن بضحكة هستيرية عبّرت عن شعوره بالنصر، فنصرُ فريق اختلف معه اعتبره نصرًا له، وعبّرت أيضًا عن نجاح مقاربته، وعن هزيمة معنوية ومادية ألحقوها بإدارة السجن.
هرب السجناء الثلاثة، ونكّل العنصريون ببقية المعتقلين، إلا أنهم ظلّوا فخورين بحالة النصر التي حققها رفقاؤهم الثلاثة، ونالوا القيمة التي اختلفوا على الطريق للوصول إليها، وهي الحرية. ناضل الثلاثة من خارج السجن، وأفرج عن غولدبيرغ ونُفي إلى لندن عام 1985، أي بعد الهروب بستة أعوام، وهو الذي كان محكومًا مدى الحياة. واصل حملته ضد الفصل العنصري من لندن مع عائلته، حتى أُلغي نظام الفصل العنصري بالكامل في انتخابات عام 1994.
هذه كانت إحدى فصول الكفاح ضد نظام الفصل العنصري، وفي حالتنا الفلسطينية، فعلى الرغم من الملحمة البطولية التي يقدمها الشعب الفلسطيني، فإنه بحاجة لحكيم مثل دينيس غولدبيرغ، يؤمن بأن الفسيفساء الفلسطينية مصدر قوة للمجتمع الفلسطيني- وليست موطن ضعف- يجعل من الخلاف إضافة للحالة الوطنية وليس مصدرَ فرقة وانشقاق. يراكم على تجارب الآخرين، ولا يفشلها. يوفر حاضنة معنوية للحالات النضالية، ولا يتنكّر لها.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: نظام الفصل العنصری إدارة السجن من خلال
إقرأ أيضاً:
بروكسيل... عرض فيلم "الهروب 1944" تكريما للجنود المغاربة في الحرب العالمية الثانية
احتضنت القنصلية العامة للمغرب في بروكسيل، أمس الجمعة، العرض ما قبل الأول للفيلم القصير « الهروب 1944 » للمخرج المغربي سعيد حسبي، تكريما لجنود مغاربة تميزوا بشجاعتهم خلال المعارك ضد النازية في أوربا إبان الحرب العالمية الثانية.
والفيلم مستلهم من أحداث واقعية، ويسلط الضوء على شجاعة الجنود المغاربة، مع التأكيد على ضرورة صون ذاكرتهم الحية، كما يعكس قيما إنسانية نبيلة تظل ثابتة حتى في أكثر اللحظات قتامة من التاريخ.
وقد تم تصوير الفيلم في بلجيكا، ويشارك في بطولته بوجمعة البطيوي، وريك تيرموت، وعبدو غفاري إنوسا، وفيليب سيدوف، وفانسون لامبريكس. ويستند السيناريو إلى القصة الحقيقية لوالد المخرج سعيد حسبي، وهو أحد قدماء المحاربين المغاربة الذين شاركوا في تلك الحرب.
وفي كلمة بالمناسبة، قال القنصل العام للمغرب في بروكسيل، حسن التوري، إن هذا العرض يشكل مناسبة لإماطة اللثام عن « موضوع ظل مجهولا لدى الكثيرين، وفصل من التاريخ طاله التهميش لفترة طويلة، ومغامرة إنسانية نبيلة وشجاعة لم تنل ما تستحقه من تمجيد »، مشددا على أن الأمر يتعلق بالدور البطولي الذي اضطلع به الجنود المغاربة في محاربة النازية والدفاع عن الحرية.
وأضاف التوري أن هذا الفيلم يكتسي أهمية خاصة لما يحمله من دلالات رمزية وعمق تاريخي، ولكونه يجسد واجب الذاكرة، مشيرا إلى أن هذا الحدث يبرز الالتزام التاريخي للمغرب بقيم كونية، ويؤكد على ضرورة نقل هذه الحقائق التاريخية إلى الأجيال الصاعدة وفاء لذكرى الجنود المغاربة الذين ضحوا من أجل الحرية.
من جهته، أبرز المخرج سعيد حسبي أن إنجازه لهذا العمل الفني يندرج في إطار الوفاء لواجب التوثيق لهذه الذاكرة وسردها بهدف إحيائها ونقلها، لاسيما إلى الأجيال الشابة، مبرزا أن هذا المشروع يكتسي بالنسبة إليه طابعا شخصيا، لكونه يتعلق بتاريخ والده.
وقال: « إن الجنود المغاربة في الحرب العالمية الثانية هم أبطال التاريخ، وذاكرتهم تستحق أن تخلد بمختلف الأشكال الفنية ».
وأعقب عرض الفيلم نقاش مع الجمهور شارك فيه كتاب وفنانون ومؤرخون، تناول مختلف الجوانب المرتبطة بهذا الموضوع.
يذكر أن سعيد حسبي، المزداد بمدينة مراكش سنة 1966 والمقيم في بلجيكا منذ سنة 1996، هو مخرج وكاتب سيناريو وملحن موسيقى للأفلام. ويعد فيلم « الهروب 1944 » ثالث أعماله السينمائية القصيرة، بعد فيلم « أحلام » (2017) و »I Wanna Fly » (2020).