الحريفة.. اللعب النظيف في الفن السابع
تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT
على أعتاب صالة السينما، كان الاختيار صعبا بين أحد الأفلام العالمية على الشاشات العرض وفيلم مصري يحمل اسم "الحريفة"، بطولة وجوه شابة جديدة، قد تبدو مشاهدة الفيلم مغامرة، لكن بعد دقائق قليلة من بداية العرض تكتشف أنك ستعيش متعة خالصة في حالة سينمائية فريدة.
بعد دقائق عدة من مشاهدة أجواء باذخة لعائلة غنية، وتحديدا مع بداية ظهور "عمر" الطالب الذي يبدو طالبا طيبا في مدرسة "الأبطال الثانوية للبنين"، بدأ الضحك يسري في الحاضرين بالقاعة، ومع الدخول المفاجئ لباقي الشخصيات، تعيدك التفاصيل إلى ذكريات مدارس الثانوية العامة.
عادة تبدو تلك الأفلام القائمة على فكرة وجود "الشلة الفاسدة" في المدارس بتنوعها بين المسيطر والضائع والمتنمر، شباب يهربون من الحصص ويضربون الآخرين، معروفة النتائج حتى قبل أن تبدأ، لكن فيلم "الحريفة" اختار مؤلفه إياد صالح أن يأتي هذه المرة بحكايات مخالفة للتوقعات، بداية من البطل لاعب كرة القدم في أرقى نوادي العاصمة، الذي بدأ حياته غنيا ثم افتقر ليلعب في دوري الشوارع، وصولا إلى خيارات هذه الشلة المدرسية التي أعادتنا إلى القيم المصرية الأصيلة القائمة على الترابط والحماية، وليس على تأصيل الضياع و"الفهلوة". أنت هنا في مباراة من نوع آخر اختار القائمون عليها الالتزام بخطة اللعب النظيف والرهان على موهوبين، يبحثون عن نجاح مرهون بالأداء وترك بصمة حقيقة.
حرفية صناعة النجومالفيلم يدور حول كرة القدم، خيار ذكي من القائمين على العمل، فمن لا يحب كرة القدم؟! تلك التي يجتمع على عشقها الناس من كل بقاع الأرض لتصنع لغة محكية عالمية في النصر والهزيمة. يحبها الغني والفقير، الكبير والصغير.
وها هي تجمع بين "ماجد" وهو اسم يرجعنا إلى ذلك العمل "الكرتوني" الطفولي الشهير"كابتن ماجد" وبين "ششتاوي" و"حتة" و"نصة" و"عمر" وأستاذ "شلش"، ولكل منهم قصة مغموسة بطعم "الجدعنة" المصرية. فهؤلاء الشباب لدى كل منهم نقطة تميز جعلته ماهرا في أداء دوره بامتياز، رغم كونها التجربة الأولى لأغلبهم.
نور النبوي الذي يجسد شخصية ماجد يتصدر ملصق الفيلم، بحجم أكبر قليلا من زملائه، ربما لأنه راكم قدرا من النجومية في أعمال تلفزيونية عدة خلال الأعوام السابقة مقارنة بزملائه، وربما لكونه بطل القصة، ورغم أن الجميع هنا كانوا أبطالا تماما كما في كرة القدم، إلا أن ذلك لا يمنع وجود هداف وكابتن للفريق، لكنه لا يستطيع أن يصنع هدفه وحيدا بل عليه أن يمرر الكرة، ويتلقاها ويتحين الوقت المناسب للتسديد. وهكذا نور النبوي، نال أول بطولة سينمائية وحقق نجاحا كبيرا في وقت قصير، رغم حمولة إرث ثقيل كونه ابن فنان شهير "خالد النبوي"، يحمل ملامحه الدقيقة، ولكنه ظهر بروح مختلفة وأداء بعيد عن تلك المساحة التي لعبها والده في أدواره.
أحمد غزي الذي جسد دور "الششتاوي"، ممثل شاب لديه قدرات متنوعة فهو يعرف إمكاناته جيدا، وكيف يظهر روحه من دون تكلف. لعب أدوارا عدة في أعمال تلفزيونية مصرية كدور "عثمان" في مسلسل "رسالة الإمام"، وشارك في مسلسل "ضرب نار" وفيلم "الاختيار 2 " إلى جانب أعمال أخرى.
لم يكرر غزي دورا واحدا في مشاركاته التلفزيونية، بل قدم مساحات متنوعة ومختلفة وتميز في أدائها بين المدمن وابن البلد. وسبق زملاءه بخطوة مختلفة بمشاركته في مسلسلات بريطانية أهمها "التاج" The Crown بجزئه الخامس المعروض على منصة نتفليكس في دور عدنان خاشقجي شابا. وقدم في "الحريفة" صنعة متقنة لشخصية "ابن البلد" المسنود من عزوته وأهله، العارف بقيم الحارة وتبعات كونه مسؤولا رغم إخفاقه التعليمي وحبه للكرة.
مطرب "المهرجانات" أحمد خالد خميس الشهير بـ "كزبرة" الذي أدى شخصية "حتة"، كان اكتشاف هذا الفيلم، فرغم كونها المرة الأولى التي يمثل فيها فهو بالأساس مطرب "مهرجانات" شاب، لكن الأداء الكوميدي الذي قدمه ينبئ بنجم سينافس كبار نجوم الكوميديا قريبا لقدرته على الإضحاك، دون جهد يذكر وتميزه بملامح مصرية خالصة.
عبد الرحمن محمد الذي أدى شخصية "عمر"، الكوميديان الواعد الذي لم تتوقف مشاهده عن إضحاك المشاهدين في السينما، يبدو كظل خفيف للفنان الراحل علاء ولي الدين، يحمل كثيرا من ملامحه وروحه ويزيد بنظارته. لا تشعر وأنت تشاهده بأنه يمثل ولا بعناء الاندماج بل تضحك بمجرد ظهوره على الشاشة. كان حضوره مع كزبرة، وتلك المباراة بينهما في الفيلم اكتشافا لجيل جديد من مقدمي الكوميديا الشباب.
أحمد حسام، لاعب كرة القدم المصري المعروف بميدو، أو "الأستاذ شلش" كان مفاجأة حقيقية، وللوهلة الأولى لن تتعرف إليه، بتلك النظارة السميكة والملابس الفضفاضة والجسد المترهل، استطاع "ميدو" الاندماج سريعا في عالم السينما، ولعب دوره باقتدار. تذكرنا معه ملامح كابتن حسن شحاته مدرب منتخب مصر بهدوئه، الذي ينقلب عاصفة عندما تلوح الهزيمة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل كرر المؤلف الخلاف الشهير بين ميدو وكابتن حسن شحاته في مشهد من مشاهد الفيلم بين "عمر" و"كزبرة" لتضحك من قلبك، وأنت ترى بطل الموقف حاضرا يحاول تهدئة الطرفين متذكرا الخلاف الحقيقي بصوت ميدو وقتها.
مخرج يحترف التأليف
إياد صالح، مخرج وكاتب سينمائي، أخرج العديد من الأفلام الوثائقية وعمل مساعد مخرج، وشارك في كتابة العديد من الأعمال الدرامية التلفزيونية، إضافة إلى برامج تلفزيونية عدة منها "صاحبة السعادة".
قدَّم إياد قبل 10 سنوات فيلم وثائقي بعنوان "سنوات الكور الضائعة" وتساءل فيه عن أسباب غياب مصر عن كأس العالم، ويبدو أن ذلك الحلم ظل يراوده حتى جاءته الفرصة هذه المرة، ولكن كونه مؤلفا لأول عمل سينمائي له، ويدور حول كرة القدم.
يقول إياد صالح للجزيرة نت "مدرسة الأبطال هي مدرستي الحقيقية، وأغلب تلك الشخصيات التي ظهرت في الفيلم عشت معها، وأنا طالب في الثانوية العامة، وكان حلمي تقديم ابن البلد في المناطق الشعبية على طبيعته كما عرفته بين زملائي، وليس كتلك الصورة التي انتشرت خلال السنوات القليلة الماضية عن غرقه في البلطجة والمخدرات، وأساليب الحوار التي لا تشبهنا".
وعن ردود الفعل حول الفيلم يقول صالح "أعظم الهدايا التي صادفتني بعد عرض الفيلم هو رد فعل الأمهات والآباء حول سعادتهم بالأفكار التي أعجبتهم، وأن الفيلم أثر في أبنائهم كثيرا، ليعرفوا كم يبذل الأهل من مجهود كبير لتوفير فرص جيدة لحياة الأبناء، إضافة إلى خلو الفيلم من الأفكار الغريبة التي تنتشر بين الشباب اليوم".
نجح المؤلف في إعادتنا إلى تلك القاعدة التي بتنا نفتقد حتى طرحها، وهي هل يحدد الجمهور ما يقدمه المبدع أو العكس؟ ويؤكد أنه من الممكن للسينما أن ترسم خطوط المجتمع وليس دوما العكس.. ليعيدنا معه هذه المرة إلى ذكريات قاربنا على نسيانها من طول تشويهها، فرغم اللهجة، والملابس وقصات الشعر، برزت تلك الحارة المصرية التي افتقدنا تفاصيلها خلال السنوات الأخيرة، إما لتهميش قاتم بين جرائم وضياع، وإما غنى فاحش بين قصور فخمة، وحياة باذخة بأفكار غربية صرفه.
الإخراج مهارة الجمال والسهولةالمرات الأولى في الإخراج السينمائي لكثير من المخرجين تأتي مرتعشة أو باهتة، أما "الحريفة" فكان فيه كثير من الجهد والتميز لمخرجه رؤوف السيد، بداية من اللقطات العامة للشوارع والملاعب الصغيرة في الحارات مع تلك التي توازيها في نوادي القمة، لتدرك حجم التفاصيل المبهجة للشارع المصري، واختلاف الاحتياجات لطبقاته المتنوعة.
تناغم المؤلف مع المخرج في جذب الانتباه إلى عالم الحارة ومناسباتها، كما شاهدنا في مشهد الاحتفال بـ"التنجيد" الشائع في المناطق الشعبية، وهو مناسبة تحضير فرش الزوجية والاحتفال بتجهيزاته مقارنة، بمشاهد الحفلات الصاخبة باهظة التكلفة للأثرياء.
بين دفء بيوت الطبقة المتوسطة وضيقها، واتساع المسافات بين غرف قصور الأغنياء وفردانيتهم بين محاولات الاندماج، عبر لغة وإشارات طبقات اجتماعية مختلفة ونجاحات صغيرة لخلق صداقات في محيط من الترقب، لمسنا كل تلك المشاعر ونحن نشاهد الفيلم المغموس بأجواء البيوت ورائحتها والشوارع وصخبها.
كما نجح المخرج في توظيف إمكانات أبطاله رغم تجاربهم المحدودة في التمثيل، بل كانت المحاولة الأولى لأغلبهم من دون الوقوع في فخ المبالغة، أو الانتقاص من أدوارهم، فكل شخصية تدخل قلبك دون استئذان.
لا يمكن أن يحصل ممثل أو كاتب أو مخرج موهوب على فرصة إلا من خلال منتج مغامر، يراهن على طاقات جديدة. طارق الجنايني نجح في فيلم "الحريفة" أن يثبت للآخرين أنه مراهن ذو ثقل، فليس الأمر مجرد إتاحة فرصة لشباب مغمورين لمنافسة نجوم كبار في موسم واحد، بل لتحمسه لمثل تلك الأفكار التي لا يقدمها سواه، فخلال السنوات الأخيرة شاهدنا أعمالا كثيرة بتوقيع الجنايني، وكل ما يجمعها أنها مختلفة عن السائد.. في هذا العام فقط، وخلال أقل من شهرين جاء في السينما "الحريفة" وفي المنصات "حالة خاصة" ليتربعا على عرش المشاهدة بامتياز.
تصدّر "الحريفة" شباك التذاكر خلال 5 أسابيع كاملة وحقق الإيرادات الأعلى حتى الآن متخطيا حاجز 40 مليون جنيه حتى كتابة هذه السطور، ومنافسا لنجوم كبار؛ مثل: محمد عادل إمام وماجد الكدواني في فيلم "أبو نسب"، "مقسوم" بطولة ليلى علوي، "شماريخ" بطولة آسر ياسين، و"رحلة 404″ بطولة منى زكي.
خلطة فنية رابحةمنذ سنوات ربما نبحث طويلا فلا نجد فيلما نستطيع الاستمتاع به مع أبنائنا دون الخوف من تمرير أفكار أو ممارسات لا تشبهنا. "الحريفة" استطاع أن يكون ذلك الخيار بكل أريحية وجمال؛ ففي الوقت الذي تستمتع فيه بأداء تمثيلي مبهر ويسير وخالٍ من التعقيدات والمبالغة، لن تقلق من الشتائم البذيئة المتوقعة، ولن تجد مشهدا للمخدرات وتسويقها كحل سهل، ولن تلوث سمعك بمقاطع من أغاني المهرجانات، التي تتأرجح بين وصف فعل فاحش، أو عمل منافٍ للدين والفطرة.
"الحريفة" جاء ليؤكد أنه مع فتح باب الإبداع للكتاب بتشجيع من منتج لديه نظرة أخرى للفن غير تحقيق إيرادات مغمسة بالعبث في الثوابت.. ومع مخرج يريد أن يترك أثرا مميزا، يمكن أن نصنع خلطة فنية مميزة ورابحة ونظيفة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: کرة القدم
إقرأ أيضاً:
تشريعات السابع من أكتوبر.. حرب إسرائيلية موازية!
ألقت معركة "طوفان الأقصى" بظلالٍ كثيفة على البيئة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، لكنها تركت ندوبا غائرة أعمق أثرا في البنية المجتمعة الإسرائيلية، تسببت في ارتباك أحوالها اليومية، وحركة أعمالها، والأخطر أنها تسببت أزمة وجودية غير مسبوقة حسب تعبير السياسيين الإسرائيليين.
تأتي التدابير التشريعية في مقدمة الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل لمعالجة أثر الهزيمة النفسية والمادية التي تعرض لها الكيان الإسرائيلي، حيث سنت حزمة كبيرة من التشريعات الاستثنائية، والتي تتعارض بشكل كبير مع الصورة التي كانت تبالغ في رسمها عن مجتمعها الديمقراطي، والحريات، ودولة القانون. في هذا المقال نلقي الضوء على أهم هذه التشريعات عبر تجميعها في خمسة أطر شاملة.
الإطار الأول: تشريعات حصار الهزيمة وترميم الجبهة الداخلية
تركزت جهود الكنيست الإسرائيلي لمعالجة أثر الهزيمة وترميم الجبهة الداخلية حول زاويتين رئيسيتين، الزاوية الأولى خاصة بهدم رمزية الفعل المقاوم، والثانية تتمثل في استغلال الحدث في تمرير إجراءات عقابية في مواجهة المجتمع الفلسطيني من "عرب 48".
عقوبة لمن يشاهد "إصدارات المقاومة"
أُجريت مجموعة من التعديلات على قانون الإرهاب بعد ثلاثة أشهر من بدء معركة الطوفان، ففي الثامن من شباط/ فبراير أقر الكنيست تعديلات على قانون الإرهاب، فرض بموجبها عقوبة السجن لمدة عام على كل من يتم اتهامه "بالمشاهدة" بشكل منهجي لفيديوهات تطلقها ما تسميها إسرائيل "منظمات إرهابية"، والتي تشمل حسب القانون ثلاث منظمات: "تنظيم داعش، وتنظيم القاعدة، وحركة حماس"، ويمنح القانون الوزير المختص حق إضافة أسماء منظمات أخرى.
أكدت المذكرة التفسيرية وجهة القانون وغاياته بالقول: "إن المشاهدة المكثفة للمنشورات الإرهابية من قبل بعض المنظمات قد تخلق عملية غسل أدمغة، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة الرغبة والدافع لارتكاب أعمال إرهابية..". ويعطي هذا التفسير دلالة على عمق أثر إصدارات المقاومة على نفسية المجتمع الصهيوني، ما أدي لاتخاذ إجراء مشدد مقابل مجرد مشاهدة هذه الإصدارات!
عقوبة طرد أبناء العائلات الفلسطينية
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 أقر الكنيست قانونا يقضي بطرد ابن عائلة "المخرب" الفلسطيني إلى قطاع غزة، أو إلى مكان آخر تختاره وزارة الداخلية الإسرائيلية. يمنح التعديل للحكومة سلطة طرد العائلات الفلسطينية وفق حجج واهية، من قبيل توفر العلم المسبق عن خطة "المخرب" ولم يقم بمنعه أو الإبلاغ عنه، أو إذا أعرب عن تأييده للعمل "الإرهابي" أو نشر مديحا أو تأييدا لأفعال المقاومة "الإرهابية". وتتراوح فترات الطرد لمن يحملون الجنسية الإسرائيلية أو الإقامة الدائمة من 7 سنوات إلى 20 عاما.
ويمكن اعتبار غايات القانون بحسب الأصل انتقامية وليست وقائية، حيث تستغل الحدث في ترحيل العائلة كلها، وهي عقوبة جماعية ممنوعة دوليا، كما تستخدم هذا الإجراء ذريعة للتوسع في هدم منازل العائلات الفلسطينية وتهجيرها، بالإضافة لاستغلال هذا التشريع في صناعة طبقة من الجواسيس الذين يبلغون عن العائلات الفلسطينية.
عقوبة إنكار "مجزرة" السابع من أكتوبر
في ذات السياق أقر الكنيست عقوبة بالسجن 5 سنوات على كل من ينفي حصول "المجزرة" التي نفذها "مخربو حماس ومساعدوهم" يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، في محيط قطاع غزة، ويتم توقيع العقوبة على كل من يكتب أو يتكلم شفهيا ما من شأنه نفي المجزرة أو امتداح "العدو".
وتشرح المذكرة التفسيرية الغرض النهائي للتجريم بقولها: "كما تعلمنا من ظاهرة إنكار الهولوكوست، فإن هذا النوع من الأكاذيب يمكن أن ينتشر بسرعة ويحول دون إمكانية إثبات الحقيقة التاريخية. كما أن إنكار المذبحة في بعض الأحيان يشكل جزءا من محاولة حماية مرتكبي الجرائم والتعبير عن الدعم لهم، ومن أجل مكافحة إنكار المذبحة ومنع انتشارها سواء في إسرائيل أو في الخارج، فنقترح إنشاء جريمة جديدة، على غرار الحظر المعمول به فيما يتعلق بإنكار الهولوكوست".
الإطار الثاني: تشريعات عقابية ضد فلسطينيي الداخل
وفق الحالة التي صنعها الطوفان، اتخذت السلطات الإسرائيلية مجموعة من الإجراءات لفرض عقاب جماعي على فلسطينيي الداخل لمنعهم من التعاطف ابتداء، وبالتالي ترتيب عقوبات إن تم هذا التعاطف، لكن بنظرة تحليلية للعقوبات نجدها أقرب للعقوبات المجهزة مسبقا ووجدت في الحدث أرضية مناسبة لإقرارها.
إسقاط المواطنة وإلغاء الجنسية
في آذار/ مارس 2024 أقر الكنيست تمديدا زمنيا يحرم آلاف العائلات الفلسطينية في الداخل الفلسطيني (خلف الخط الأخضر) من إجراءات لم الشمل في حال وجود أحد الوالدين من الضفة الغربية أو قطاع غزة، ويشمل المقيمين في لبنان وسوريا والعراق وإيران، ويعد الإجراء امتدادا لإجراءات معمول بها منذ انتفاضة الأقصى عام 2002.
تعديل آخر تم على قانون المواطنة الإسرائيلي في تموز/ يوليو 2024 يقضي بإلغاء الجنسية أو سحب تصريح الإقامة الدائمة لمن يمتدح أعمال "الإرهاب" أو مرتكبيها.
فصل الموظفين
تقررت حزمة من الإجراءات لفصل الموظفين، أبرزها القانون الذي أقره الكنيست بمنح وزير التعليم صلاحية فصل الموظفين بجهاز التعليم الرسمي، في حال صدر عنهم ما يؤيد "منظمة إرهابية" أو عمليات إرهابية، وتكون عملية الفصل فورية من دون سابق انذار.
كما منح القانون للوزير صلاحيات قطع الميزانيات عن المؤسسات التعليمية الخاصة، المعترف بها، والتي تتلقى ميزانيات من الدولة، في حال ثبت أن "مناهجها" تتضمن ما يؤيد "الإرهاب" بحسب المفهوم الإسرائيلي.
الإطار الثالث: تشريعات مواجهة الخطر الخارجي
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 أقر الكنيست تعديلا لقانون مكافحة الإرهاب يجيز لوزير الدفاع إصدار قرارات اعتبار "الأجانب" ناشطين إرهابيين، وتم الاستفادة من هذا الإجراء في مواجهة النشطاء الرافضين للإبادة أو الاعتداءات العسكرية التي يقوم بها الاحتلال.
ولا يتوقف الأمر عند حدود وصف النشطاء بالإرهاب، بل مكَّن وزير الدفاع من إصدار قرارات "ملاحقة" للمتبرعين والداعمين لحركات المقاومة خارج فلسطين، والحجز على أموالهم ومؤسساتهم، وهو الأمر الذي عبرت عنه رئيسة مجموعة الجرائم الخطيرة في وزارة العدل، ليلاخ فاغنر، بقولها: "هذا التعديل يمنح وزير دفاعنا صلاحيات مستقلة، حيث يمكنه بنفسه الإعلان عن عملاء إرهابيين أجانب، حتى نتمكن من مكافحة آليات تمويل الإرهاب التي تستخدمها حماس وعملاء إرهابيون موجودون في الخارج وينقلون الأموال التي تذهب إلى حماس، ولدينا مصلحة كدولة إسرائيل في الإعلان عن هذه الكيانات لأن الإعلان يجعل من الممكن فرض عقوبات اقتصادية مختلفة عليها، ومصادرة أموالها وحساباتها وممتلكاتها".
في ذات السياق، أقر الكنيست قانون يحظر منح تأشيرات دخول لكل شخص أو ممثل لجهة عالمية تؤيد فرض مقاطعة على إسرائيل، بسبب سياساتها، أو أنه يؤيد تقديم مواطنين إسرائيليين للمحاكم الدولية بسبب نشاطهم، والقصد عسكريين وسياسيين متورطون في الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، وهو القانون الذي استخدمته الحكومة الإسرائيلية في منع نائبتين من حزب العمال البريطاني وترحيلهما من مطار بن غوريون بعد اتهامهما بأن لهما أنشطة مناهضة للإبادة.
الإطار الرابع: إجراءات ضد السلطة الفلسطينية وفلسطينيي الأراضي المحتلة
رغم موقفها المعادي لطوفان الأقصى، لم تكن السلطة الفلسطينية بعيدة عن الإجراءات الإسرائيلية الانتقامية، فقد أقر الكنيست قانونا يسمح للمتضررين من عمليات نفذها فلسطينيون بإقامة دعاوى تعويضات من الجهات الداعمة للعمليات، وفي مقدمتها "السلطة الفلسطينية"، وتتراوح قيمة التعويضات بين 5 ملايين و10 ملايين شيكل.
في وقت لاحق تقدمت السلطة الفلسطينية بعريضة إلى المحكمة العليا الإسرائيلية" لرفض هذه التدابير، إلا أن المحكمة رفضته، وعلق قاضي المحكمة العليا على التماس السلطة بقوله: "إننا سنقول ما هو مفقود في الالتماس، ولكنه يستحق الطرح، السلطة الفلسطينية تدفع للإرهابيين وأفراد عائلات الإرهابيين أموالا ومزايا بمعدلات كبيرة، في ارتباط وثيق بالأعمال الإرهابية الإجرامية التي ارتكبوها"، وأضاف: "حتى لو كان القانون قائما على دافع سياسي، فإن هذا لا يؤدي إلى الغائه".
الإطار الخامس: تشريعات القضايا الرئيسية (القدس- الأرض– اللاجئين)
إجراءات ضم الضفة
استغلت إسرائيل أحداث "الطوفان" في إقرار إجراءات من شأنها ضم الضفة الغربية، حيث أقر الكنيست قانونا يقضي بضم مستوطنات جنوب مدينة الخليل الواقعة أقصى جنوب الضفة الغربية المحتلة، إلى ما تسمى "سلطة تطوير النقب"، وهو أحد مشاريع قوانين الضم.
ويعنى تغيير القانون أن البلدات اليهودية في المنطقة سوف تكون مشمولة بخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، في مقابل منع البلدات الفلسطينية التي تقع تحت حكم السلطة الفلسطينية من التمتع بهذه الخطط، وبهذا الشكل يرسخ القانون توجهات إسرائيل التي تهدف إلى تعزيز سلطة الحاكم العسكري على أراضي "يهودا والسامرة" كما تسميها إسرائيل، وبالفعل يتولى الوزير اليمين المتطرف "سموتريتش" هذه المسئولية بصورة رسمية معتمدا على هذه القوانين.
حظر عمل الأونروا - عودة اللاجئين
في تشرين الأول/ أكتوبر 2024 اعتمد الكنيست قانونا يحظر عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التابعة للأمم المتحدة، في المناطق الواقعة تحت ما تسمى "السيادة الإسرائيلية"، والمقصود تحديدا القدس الشرقية المحتلة، والبلدات والمخيمات التي ضمها الاحتلال الإسرائيلي لمناطق نفوذه، مثل مخيمي شعفاط وقلنديا، كما أنه بموجب القانون تم إغلاق مكتب الوكالة في القدس الشرقية، ويشمل القانون نزع المكانة الدبلوماسية الممنوحة للعاملين ضمن منظمات الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من أن نص القانون لا يحظر عمل الأونروا في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أن حظر تعامل الأجهزة والمؤسسات الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية، سيقود إلى منع جيش الاحتلال من التعامل مع الأونروا كوكالة تابعة للأمم المتحدة، في تلك المنطقتين، ما أدى إلى امتناعها عن العمل بعد بعض تعرضها لأعمال عدوانية.
حظر فتح سفارات في القدس الشرقية باعتبارها عاصمة فلسطين
في تشرين الأول/ أكتوبر 2024 أقر الكنيست قانونا يحظر فتح ممثليات دبلوماسية في القدس الشرقية المحتلة، تهدف إلى خدمة الفلسطينيين، من دون موافقة الحكومة الإسرائيلية. ويقول مقدم مقترح القانون زئيف إليكن "إن أي شخص يرغب في إنشاء بعثة أجنبية في القدس سيتعين عليه أن يتصرف وفقا لهذا القانون، وستكون البعثة ملزمة بتقديم خدمة لسكان دولة إسرائيل كون القدس هي العاصمة الأبدية غير القابلة للتجزئة لدولة إسرائيل، ولن يسمح لأي دولة بتحدي سيادتنا في القدس الموحدة، ولن يثنينا أي قدر من الضغوط عن التمسك بهذا المبدأ المهم".
يمثل هذا القانون تعديلا على قانون ضم القدس المحتلة وهو أحد قوانين الأساس التي تمثل في مجموعها دستور "إسرائيل" حيث أنها لم تكتب دستور بالشكل المتعارف عليه.
تمثل هذه الدوائر الخمس أهم القوانين التي اتخذتها دولة الاحتلال في مواجهة الفلسطينيين بعد طوفان الأقصى، مستغلة حالة الاستعلاء العسكري، والسعار السياسي، والحشد الإعلامي في تحقيق خطط قديمة يستنزل منها ما يناسب الظرف، وهو الأمر الذي تتقنه دوائر صنع القرار الإسرائيلية عبر الصبر الطويل واستغلال الفرص، لكنها في المقابل تعكس حالة رعب من الآثار التي خلفها السابع من أكتوبر. وفي كل الأحوال تهدم هذه الإجراءات الاستثنائية الصورة الديمقراطية التي تدعيها إسرائيل، فلم تعد واحة الحريات التي تتفاخر على جيرانها، في الوقت ذاته، فقدت للأبد رمزية الدولة، وأدبيات الحكم الرشيد.