هجوم إسرائيل على غزة يفضح ثغرات الإيمان الليبرالي المزعوم
تاريخ النشر: 13th, February 2024 GMT
شيء غريب يجري. لعله خلل ما أو عطل. الساسة الليبراليون الذين يأبون الدعوة إلى وقف لإطلاق النار في غزة أو إيقاف الدعم لإسرائيل ما عادوا منطقيين، ويبدون أكثر فأكثر وكأنهم يمرون بأزمة. تزداد اللغة الشائهة والتصريحات المتناقضة شيوعا على ألسنة شخصيات تنتمي إلى المؤسسة. حينما سئل كير ستارمر عما لو أن قطع المياه والإمدادات أفعال تقع في دائرة القانون الدولي قال في بث إذاعي مباشر إن إسرائيل «لها ذلك الحق الأكيد».
ولا تتضح هذه التناقضات مثلما تتضح حينما يعرب الساسة عن دعمهم المطلق لأفعال إسرائيل مع تعبيرهم في الوقت نفسه عن الخوف على المدنيين في غزة. ففي منشور على موقع إكس، بدا أن وزيرة التنمية الدولية في حكومة الظل ليزا ناندي تدعم تعليق التمويلات لمنظمة الأونروا، أي وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، لأن «مزاعم على هذه الدرجة من الجدية تستوجب رد فعل جادا» مع «السعي [أيضا] إلى الحصول على تطمينات» من رئيس الوزراء بأن تقديم الدعم يمكن أن يستمر. كان عليَّ أن أقرأ ذلك التصريح مرات عدة في محاولة لأن أفهم ما الذي تريد الوصول إليه. في الوقت نفسه، قال ديفيد كاميرون إنه «قلق» من أن إسرائيل ربما انتهكت القانون الدولي، لكن هذا لم يغير موقف المملكة المتحدة من تصدير السلاح إلى إسرائيل. فحلوا لي هذا اللغز.
قد نطلق على هذه النزعة اسم سياسة شرودنجر. لقد قال وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن إن السابع من أكتوبر لا يمكن أن يعد رخصة لـ«نزع صفة الإنسانية» عن الآخرين، لكن حكومته اختارت مرتين تفعيل حق تجاوز الكونجرس لإمداد إسرائيل بالمزيد من السلاح.
وهذا التنافر هو نتيجة طبيعية لمحاولة التوفيق بين موقفين لا يمكن التوفيق بينهما. فالحقائق سافرة الوضوح على نحو يعجز معه أي شخص عن أن يواجهها ويستمر منطقيا في دعم أفعال إسرائيل في غزة. لذلك يلجأ الساسة إلى التفسيرات المتناقضة والجامحة في بعض الأحيان لاجتناب التنديد بهذه الأفعال أو المطالبة باتخاذ أي إجراء حيالها. فتدنو النتائج من التخبط، كما حدث عندما قالت نانسي بيلوسي لشبكة (سي إن إن) إنه في حين أن بعض المتظاهرين «عفويون وطبيعيون ومخلصون» فإن الدعوة إلى وقف لإطلاق النار تعني ترديد «رسالة الرئيس بوتين». ولو أن ذلك لا يكفي، فقد قالت في العام الماضي لمتظاهرين مناصرين لفلسطين إن عليهم أن يرجعوا إلى الصين فهي «مقرهم الرئيسي».
والمتحدثون الرسميون يمشون على الحبال. فعند سؤاله عن رسالة جو بايدن إلى الأمريكيين العرب القلقين على غزة، قال المتحدث باسم البيت الأبيض إن الرئيس «مفطور القلب» ويعتقد أيضا أن «لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها». ويبدو أن بايدن ذا القلب المفطور قد استسلم تماما، وتصدع بضغط من جهود الادعاء بأن سياسة بلده حيال الشرق الأوسط مثمرة بل إنها متماسكة. فقد اعترف بأن الضربات الموجهة لجماعة أنصار الله غير ناجحة. «فهل هي تُوقِف جماعة أنصار الله؟ لا. وهل ستستمر؟ نعم». ذلك ما قاله للصحفيين.
وذلك على أقل تقدير موجز أمين، وهو يشمل الموقف الذي يبديه حلفاء إسرائيل من غزة. أهو ناجح؟ لا، لكنه سوف يستمر. وهكذا هو الأمر. لأن الحرب لا تجتاز اختبارات. لا تتسق مع المبادئ الليبرالية، وليست من الأصل منطقية بحسابات الأمن. فالشرق الأوسط في أسوأ حالة اضطراب يشهدها منذ عقود، والصراع يحيل الحياة السياسية أكثر فأكثر إلى وضع متقلب على المستوى الداخلي، وخاصة في الولايات المتحدة وفي المملكة المتحدة. ولقد وضع حزبان من «الراشدين» الوسطيين نفسيهما في موضع البديلين للمنافسين اليمينيين الفاسدين الفوضويين في عام انتخابي حاسم، ولكنهما يشعران الآن بالخوف من خسارة الدعم، ويتعين عليهما بصورة منتظمة أن يقاوما مضايقات المتظاهرين المناصرين لفلسطين.
وهذا العجز الغريب عن الاستجابة المناسبة للعدوان الإسرائيلي أمر يتجاوز غزة. فقد فضحت الأحداث الجارية هناك عيوبا في كامل نموذج السياسات وما تقوم عليه من افتراضات. فلو أن الليبرالية عاجزة عن طرح شكل من الحكم يكون أخلاقيا وداعما للاستقرار، فأي قيمة لها إذن؟ وفي غمار هذا الصراع الدموي التخريبي تاريخيا، لو أن الليبرالية عاجزة عن أن تبدي القدرة أو الرغبة في حماية الحياة المدنية والأمن الإقليمي بل وآفاقها الانتخابية الخاصة، فإن مزاعمها تنهار في ما يتعلق بالمبدأ والكفاءة اللذين يحددان مهمتها.
وحينما يصبح تراجع الأمن في العالم ثمنا مقبولا للولاء للحلفاء، فإن مطالبة الغرب بسلطة الحارس السياسي والعسكري للقانون والنظام تبدو أكثر فأكثر مطالبة واهية.
وفور أن تتبدد هذه السلطة، يتزعزع النظام من داخله. ولقد كان الإجماع السياسي الأساسي بشأن إسرائيل وفلسطين يرى منذ أمد بعيد أن أفعال إسرائيل يجب أن تحظى بدعم راسخ، وأن محنة الفلسطينيين إما أنها عقدة تستعصي على الحل أو هي -في أسوأ الحالات- غلطة يلام عليها «إرهابيوهم». وهذا الإجماع يتعرض الآن لتحدٍ، لا من المتظاهرين مجهولي الهوية فقط، بل ومن داخل معاقل وسائل الإعلام الليبرالية. ففي الأسابيع الأخيرة، أفادت تقارير أن كلا من شبكة (سي إن إن) وصحيفة (نيويورك تايمز) تعانيان خلافا داخليا بعد أن رأى بعض العاملين أن تغطيتهما مفرطة السذاجة والتعاطف مع أفعال إسرائيل.
لقد أصبحت غزة تعبيرا عن أزمة شرعية تعاني منها الطبقة السياسية الأنجلوأمريكية التي ترأس نظاما بات بالفعل هشا ويقل يوما بعد يوم ما يقدمه لشعبه، وطرحه الأساسي الذي يستند إليه هو أن بدائله أسوأ منه. وقد تبدو الأمور مستقرة، لكن من تحتها مشاعر سخط محكومة تتعلق بتكاليف الحياة، وتقلص الحراك الاجتماعي والخراب الذي أحدثته حكومات يمينية لا يقدم لها الساسة الوسطيون حلا حقيقيا.
ومثلما قال الكاتب ريتشارد سيمور ذات مرة: «في حال اندلاع أزمة في السياسة بوسعنا أن نتيقن أنها تتحدد بتراكمات التناقضات في مواضع أخرى من البنية. فالأزمات الفردية قد تمكن إدارتها، لكن المميت هو الطريقة التي ترتد بها كل هذه التناقضات على بعضها بعضا».
والاستجابة السياسية لغزة قد تبدو صعبة وملحة، لكن ما يكمن وراءها ليس القوة، وإنما هو الضعف.
نسرين مالك من كتاب الرأي في جارديان.
عن الجارديان البريطانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أفعال إسرائیل
إقرأ أيضاً:
على عينك يا تاجر يفضح مافيا الثقافة العربية.. كيف تحوّل الإبداع إلى مقاولات؟
لم يعد الوسط الثقافي العربي مجرّد ساحة للإبداع وتنافس المواهب، بل صار- في جانب كبير منه- حلبة صراع خفي تتحكم فيها شبكات مصالح متشابكة، أشبه بمافيات منظمة، تتقاسم النفوذ والجوائز والمنابر والمهرجانات، هذه الحقيقة لم تعد مجرّد انطباع، بل تحولت إلى وقائع موثّقة وفضائح مكشوفة، كشف جانبًا كبيرًا منها كتاب «على عينك يا تاجر» للكاتب والشاعر عماد فؤاد، الذي قدّم واحدة من أشد الشهادات جرأة في نقد البنية الثقافية العربية، سواء داخل العالم العربي أو في المهجر.
الكتاب يفكك، بأسلوب ساخر وناقض، آليات صناعة «النجومية الأدبية» في عالم تحكمه الشللية والمحسوبية وتبادل المنافع، لا الموهبة أو الإنجاز الحقيقي.
وهذا التقرير يستند إلى أبرز ما كشفه الكتاب، محللًا الظاهرة وشارحًا خطورتها على المشهد الثقافي العربي.
«ماذا لو».. خيال يبدو مستحيلًا لكنه الواقع نفسه
يطرح عماد فؤاد في كتابه مجموعة أسئلة تبدو ساخرة: ماذا لو تلقيت دعوة لمهرجان عالمي بالخطأ؟، ماذا لو فازت روايتك الرديئة بجائزة كبرى؟، ماذا لو تاجر الكاتب بقضية وطنه في السوق الأوروبية؟
هذه الأسئلة، كما يوضح الكاتب، ليست خيالًا، بل مشاهد تتكرر في الوسط الثقافي العربي بشكل يدعو إلى الذهول، فكم من كاتب لا يمتلك أي حضور أدبي حقيقي تلقّى دعوات مبهرة لمجرد تشابه الأسماء، وكم من رواية ضعيفة حصدت جوائز كبرى فقط لأن صاحبها داخل «الحلقة الصحيحة».
عماد فؤاد يسمي هذه الظواهر بـ «المعجزات المضحكة»، لأنها تفضح التصدع العميق في منظومة الثقافة العربية، وتحول الأخطاء والهفوات الإدارية إلى شهادات عبقرية مزيفة.
احتكار الفعاليات.. نفس الأسماء.. نفس الصور.. نفس المقاولين.
يكشف الكتاب، بوضوح لا لبس فيه، عن حالة احتكار رهيبة للمنصات الثقافية العربية، يقول فؤاد إنك لو نظرت إلى معارض الكتب والمهرجانات من المحيط إلى الخليج ستجد المشهد نفسه: نفس الوجوه، نفس الضيوف، نفس «النجوم»، نفس الصور والتجمعات، بعض الأسماء لا تغادر المنصات إلا إلى المقابر.
وكل عام يتحول إلى نسخة طبق الأصل من سابقه، كأننا أمام «نظام توريث ثقافي» لا يسمح بظهور جيل جديد، هذه الاحتكارات جعلت الكثير من المثقفين يتساءلون عن انعدام «كرات الخجل» في دماء هؤلاء، كما يصف الكاتب ساخرًا.
سوق الأدب العربي في الغرب.. تجارة لا علاقة لها بالإبداع
يقتحم كتاب «على عينك يا تاجر» المنطقة الأكثر حساسية: الوسط الثقافي العربي في أوروبا، وما يكشفه الكتاب هنا أخطر مما يجري داخل العالم العربي نفسه، ففي الغرب، تتحول الثقافة إلى سوق مربحة، ويظهر ما يسميهم الكاتب بـ «مقاولي الثقافة العربية في الخارج»، هؤلاء يتحركون كشبكة منظمة: يسيطرون على جوائز، يحتكرون المنح، يديرون منصات إلكترونية تنشر أعمالهم أولًا، يرشّحون بعضهم للمهرجانات العالمية، ويحصلون، كل عام تقريبًا، على الامتيازات نفسها، والأهم: أن عددًا غير قليل منهم يستثمر قضايا بلده السياسية، يرفعها كشعار حينًا، ويتاجر بها حينًا آخر، لأنها مفاتيح جاهزة للتعاطف الغربي.
عماد فؤاد يقول بوضوح: «يكفي أن يمتلك الكاتب قضيتين حتى يتنقل بينهما كلاعِب سيرك».
المهرجانات العالمية.. بوابات مغلقة لا يدخلها إلا «أصحاب المفتاح»
يفضح الكتاب آليات عمل المهرجانات الأدبية الكبرى: لجنة ثابتة لا تتغير، عضو من كل بلد يرشّح أبناء بلده حصريًا، أسماء معينة تشارك كل عام دون انقطاع، تبادل دعوات ومصالح بين أعضاء الشبكات العربية في الخارج.
فلا يشارك شاعر فلسطيني في مهرجان «سيت» الفرنسي إلا بترشيح عضو اللجنة الفلسطيني، ولا يذهب شاعر مغربي إلى مهرجان عالمي إلا بترشيح عضو اللجنة المغربي، والأمر نفسه يتكرر في هولندا وألمانيا وإسبانيا.
هذا الاحتكار الدولي- كما يكشف الكتاب- أنتج «شِلَلًا» ممتدة عبر القارات، تتشارك الجوائز والمنصات، وتغلق الباب أمام أي صوت مستقل.
اللجان المانحة.. حيث يجلس المرشح في مقعد المحكم
من أخطر الحقائق التي يكشفها كتاب عماد فؤاد، وجود أسماء بعينها تتنقل بين ثلاث مواقع في آن واحد: عضو لجنة التحكيم، مرشح للجائزة، فائز بالجائزة، هذه الدائرة المغلقة تقضي نهائيًا على مبادئ العدالة والمنهجية، فالمعيار ليس القيمة الفنية، بل الانتماء إلى الشبكة.
ويورد الكتاب مثالًا صادمًا: كاتب عربي حصل على جائزة مالية كبيرة عن رواية إلى درجة أن مترجمًا- بعد قراءة 15 صفحة فقط- أعلن رغبته في «لكمه إن رآه يومًا»، لكن الجائزة منحت صاحب الرواية ثقة مزيفة جعلته يطمح بعدها إلى «نوبل».
السوشيال ميديا.. مصنع نجومية بلا موهبة
يرصد الكتاب ظاهرة أخرى، النجومية الزائفة التي تصنعها السوشيال ميديا، يكتب البعض النص نفسه كل يوم، بنفس المفردات، ويحصد مئات الإعجابات من جمهور لا يقرأ، ثم يتحول هذا التفاعل السطحي إلى دليل على «العبقرية»، وهكذا تصبح السوشيال ميديا جزءًا من اقتصاد الوهم الثقافي.
الشللية.. دولة داخل الدولة
ينتهي عماد فؤاد في كتابه إلى أن ما نشاهده اليوم ليس تكرارًا عشوائيًا للأخطاء، بل نظام كامل: شلل أدبية، تحالفات منظمة، تبادل مصالح، إقصاء ممنهج، تلميع متواصل لأسماء بلا رصيد، وخنق أي موهبة جديدة لمجرد أنها بلا ظهر.
ويؤكد أن «هدية تُهدى لتُسترد»، و«دعوة تُقدّم مقابل دعوة لاحقة» هو قانون غير مكتوب، لكنه ساري وفاعل بقوة.
ثقافة على حافة الانهيار
ما يقدمه كتاب «على عينك يا تاجر» ليس مجرد سرد أو فضفضة، بل كشف حقيقي لبنية ثقافية عربية تنهار تحت وطأة الفساد الأخلاقي والمجاملات والشللية والاحتكار، فالظاهرة لم تعد مجرد «سوء إدارة»، بل منظومة كاملة تحوّلت فيها الثقافة إلى سلعة، والشعر إلى تذكرة سفر، والقضية إلى رأس مال.
إن مستقبل الثقافة العربية لن يستقيم ما لم يتم الاعتراف بهذه التشوهات، ومواجهتها، وتفكيك احتكاراتها، وإعادة الاعتبار للموهبة الحقيقية التي تقف خارج الصفوف.. لأنها لم تتقن لعبة المقاولات.