الديمقراطية الإسرائيلية الزائفة
تاريخ النشر: 16th, February 2024 GMT
الديمقراطية الإسرائيلية الزائفة
لن يستطيع الغرب دعم التطرّف الديني الإسرائيلي والعنصرية الإسرائيلية والاحتلال الإسرائيلي إلى ما لا نهاية.
لا يمكن للغرب مواصلة تجاهل الانتهاكات بحقّ الفلسطينيين، خصوصًا أن العالم يسير في اتّجاه معاكس للعنصرية والتطرّف.
تواصل إسرائيل بناء المستوطنات في خرقٍ وتحدٍّ واضحَين للقانون الدولي.
شاء الغرب أن يتجاهل كل ذلك، والسؤال اليوم، لماذا؟
يتعلق الأمر برؤية الغرب العنصرية للعرب والمسلمين. إسرائيل بالنسبة إلى الغرب تمثّل خط الدفاع الأول ضدّ ثقافة لا يريدها أو يعاديها.
إسرائيل تمارس الديمقراطية مع مواطنيها اليهود فقط، أما العرب، أهل البلاد الأصليون، فتميز ضدّهم قانونًا وممارسةً، وهو تعريف نظام الفصل العنصري.
يتغاضى الغرب عن أن هذه الدولة "الديمقراطية" دولة محتلة وأن احتلالها هو الأطول في التاريخ الحديث، وأن إسرائيل لا تطبّق القانون الدولي على الأراضي المحتلة.
العالم يتغيّر ويسير ضد اتجاه إسرائيل المغالي في عنصريته وتطرّفه ولاإنسانيته. سيأتي يوم ينحاز فيه الجيل الجديد للحقوق المتساوية أكثر منه لديمقراطية زائفة.
* * *
ربما نجحت إسرائيل في الماضي في تسويق نفسها على أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وأنها وحدها تحمل لواء القيم الديمقراطية الليبرالية، ومن هذا المنطلق يتوجّب على الغرب دعمها سياسيًا وماديًا لأنها تدافع عن قيمه في منطقة تسودها قيم سلطوية.
ولكن نجاح إسرائيل هذا ليس مردّه قوة إسرائيل الإعلامية أو قيمها "الديمقراطية" فقط. فقد شاء الغرب، ولأسباب دينية وثقافية، إضافةً إلى الهولوكوست الذي ارتكبته ألمانيا النازية وشعور الذنب الذي تبع ذلك، أن يقنع نفسه بالادّعاءات الإسرائيلية التي لا يجوز أن يكون لها مكانٌ اليوم.
وخاصة بعد ما قامت وتقوم به إسرائيل من حروب ضدّ الشعب الفلسطيني، ما يمكن أن يصل حدّ اتّهامها بالإبادة الجماعية من جانب أعلى سلطة قضائية دولية.
شاء الغرب أن يتجاهل حقيقة لا لبس فيها، وهي أن إسرائيل تمارس الديمقراطية مع مواطنيها اليهود فقط، أما مواطنوها العرب، سكان البلاد الأصليون، فيتم التمييز ضدّهم قانونًا وممارسةً، وهو التعريف القانوني لنظام الفصل العنصري.
شاء الغرب أن يتغاضى عن أن هذه الدولة "الديمقراطية" دولة محتلة وأن احتلالها هو الأطول في التاريخ الحديث، وأن إسرائيل لا تطبّق القانون الدولي على الأراضي المحتلة، وأنها تواصل بناء المستوطنات في خرقٍ وتحدٍّ واضحَين للقانون الدولي. شاء الغرب أن يتجاهل كل ذلك، والسؤال اليوم، لماذا؟
قد يتعلق الجواب برؤية الغرب العنصرية للعرب والمسلمين. إسرائيل بالنسبة إلى الغرب تمثّل خط الدفاع الأول ضدّ ثقافة لا يريدها. وقد باتت هذه الحقيقة واضحة بعد الموقف المتشدّد الذي يتّخذه الغرب ضدّ هجرة العرب من شمال أفريقيا إلى أوروبا، وهجرة السوريين إلى أوروبا وأميركا، على عكس الترحاب الذي يلقاه اللاجئون الأوكرانيون مثلًا.
لقد نجحت إسرائيل في موضعة موقفها المعادي للعرب والفلسطينيين ضمنيًا ليتماشى مع الموقف الغربي ضدّ ثقافة المنطقة وضدّ الهجرة منها. في سبيل ذلك، لا بأس لدى الغرب في التغاضي عن كل انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي وحقوق الإنسان طالما أنها تلبّي الرغبات المُعلنة أو الدفينة لصنّاع القرار الغربيين.
هذه الصورة المزيفة للديمقراطية الإسرائيلية بدأت بالتخلخل مع وصول الائتلاف الإسرائيلي اليميني العنصري بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى السلطة، خاصةً بعد محاولته تقويض النظام القضائي الإسرائيلي ونسف مبدأ نظام الفصل والتوازن الذي يشكّل أساس الديمقراطية التي تمنع تغوّل سلطة على أخرى.
فجأةً، وجد الغرب نفسه يتعامل مع إسرائيل ينقضّ فيها بعضها اليهودي على البعض الآخر اليهودي أيضًا، ما ينسف السبب المُعلن أو الدفين للمحاباة الغربية لإسرائيل. فالفلسطينيون، من النواحي الشخصية أو الثقافية، لا دخل لهم بما يجري من اعتداء على القيم الديمقراطية داخل إسرائيل التي يدّعي الغرب مناصرته لها.
ورغم انتقاد الغرب الحالي لحكومة إسرائيل بقيادة نتنياهو، ظلّ هذا الانتقاد يمارَس على استحياء وبشيء من عدم الراحة، رغم وجود عناصر داخل الحكومة الإسرائيلية مثل بن غفير وسموتريتش ممّن يحملون أفكارًا عنصرية غير ديمقراطية علنية. وبالتالي لم يرقَ هذا الانتقاد إلى تغيير السياسات أو النظرة تجاه إسرائيل لأن السبب الدفين وراء تأييدها لم يتغيّر.
جاء 7 تشرين الأول/أكتوبر لـ"يريح" الغرب الرسمي من معضلته، فقد أعاد الصورة النمطية السائدة عن إسرائيل والتي أرادها في مخيلته، فها هي إسرائيل تتعرّض مرة أخرى لهجوم "همجي"، وها هي مرة أخرى "تدافع عن نفسها دفاعًا مشروعًا"، وها هي الديمقراطية الليبرالية في مواجهة التطرُّف الديني!
هذه برأيي الأسباب الكامنة الحقيقية وراء الدعم الغربي لإسرائيل، وهي أسباب لم تهزّها حتى وقت قريب كل الانتهاكات الإسرائيلية عبر عقودٍ من الزمن، ابتداءً من احتلال فلسطين والحرب على غزة. في سبيل المحافظة على "نقاء" المجتمعات الغربية، يصغر حجم أي اعتداء إسرائيلي، وأي فصل عنصري، بل وأي إبادة جماعية طالما أن المعتَدى عليه فلسطيني أو عربي.
لكن واقع الحال يشير إلى أن هذه الصورة المغالية في الزيف لإسرائيل لا تستطيع أن تبقى محصّنة للأبد. فبعد مقتل أكثر من سبعة وعشرين ألفًا من المدنيين الفلسطينيين، جلّهم من النساء والأطفال، لا تستطيع إسرائيل مواصلة الادّعاء بالدفاع عن النفس من دون وضوح ضعف هذه الحجة. بعد تدمير غزة شبه الكامل وتحويلها إلى أرضٍ غير قابلة للسكن، لا تستطيع إسرائيل الادّعاء أنها لا تهدف إلى تنفيذ التطهير العرقي.
هل يستطيع المجتمع الدولي مواصلة ريائه ومحاباته لإسرائيل؟ ربما يستطيع الغرب الرسمي أن يستمر بإقناع نفسه بدعم إسرائيل حتى حين، ولكن الكثير من أبناء وبنات الجيل الجديد، الذين يأخذون موضوع الحقوق الفلسطينية بجدية أكبر ودون تغليفها بأسباب أصبحت واهية، بدأ بالتحرّك والاعتراض. وها هي محكمة العدل الدولية، أعلى سلطة قضائية في العالم، تتّهم إسرائيل بالإبادة الجماعية في خطوة غير مسبوقة.
لن يستطيع الغرب دعم التطرّف الديني الإسرائيلي والعنصرية الإسرائيلية والاحتلال الإسرائيلي إلى ما لا نهاية. فالعالم يتغيّر ويسير في اتجاه معاكس تمامًا للاتجاه الإسرائيلي المغالي في عنصريته وتطرّفه ولاإنسانيته. سيأتي يوم ينحاز فيه الجيل الصاعد للحقوق المتساوية أكثر منه لديمقراطية زائفة.
*د. مروان المعشّر نائب رئيس مؤسسة كارنيغي، نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية في الأردن.
المصدر | مؤسسة كارنيغيالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الغرب إسرائيل الاستيطان الديمقراطية العنصرية فلسطين الاحتلال نظام الفصل العنصري الجيل الجديد المجتمع الدولي الإبادة الجماعية التطرف الديني
إقرأ أيضاً:
تضليل بالذكاء الاصطناعي.. الانتصارات الزائفة في حرب باكستان والهند
أثناء اشتعال الأزمة الأخيرة بين الهند وباكستان، تحديدا في مساء الثامن من مايو/أيار الجاري، أعلن عدد من مذيعي القنوات الهندية سقوط العاصمة الباكستانية إسلام آباد. ادّعى بعضهم -وفقا لتقارير- أن انقلابا قد أطاح برئيس أركان الجيش الباكستاني، فيما أكد آخرون أن البحرية الهندية شنّت ضربة مدمرة أزالت ميناء كراتشي من الخريطة. وعلى إثر تلك الأخبار، اشتعلت منصات التواصل الاجتماعي، وانتشر وسم "#استسلام_باكستان" ليحتل صدارة عدد من المنصات في الهند.
لمدة وجيزة، بدا أن النصر قد تحقق للهند فعلا، لكن الحقيقة كانت بعيدة تماما عمّا راج حينها؛ فيما تكشّف أن هذا الانتصار زائف، وأنه لا يعدو إلا أن يكون جانبا من طبيعة الحرب الحديثة: حرب المعلومات.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صائد الطائرات الصيني.. كيف تمكنت باكستان من إسقاط المقاتلات الهندية؟list 2 of 2حافة الهاوية.. تصدُّعات المكان والوجدان في صراع الهند وباكستانend of listوقد وضعت حرب المعلومات المدفوعة بالذكاء الاصطناعي المواجهة الأخيرة بين الهند وباكستان تحت دائرة الضوء، إذ غيّرت هذه التقنيات الجديدة طبيعة النزاعات وأدخلتها إلى العصر الرقمي، بكل حمولاته المراوغة، ومنتجاته شديدة التضليل.
فقد أظهرت تلك الأحداث بوضوح مدى قوة وخطورة تقنيات الذكاء الاصطناعي، وما تسببه من نشر للشائعات على منصات التواصل الاجتماعي، وترويج لمقاطع مزيّفة، ويترافق كل ذلك مع هندسة هجمات سيبرانية تستهدف منصات الخصم الرسمية.
إعلانومع تدفق المعلومات المضلِّلة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ومن ثم انتقالها إلى القنوات الإعلامية والصحف والمؤثرين، يصعب للغاية على الجمهور التمييز بين ما هو حقيقة، وما هو خيال.
طبقات من التزييفيرتبط عادة اندلاع الأزمات والحروب بانتشار الشائعات والأخبار المضللة، لكن ربما ما تغيّر اليوم هو مستوى واقعيتها وسرعة انتشارها؛ إذ يكفي أن ينتشر مقطع واحد مزيف خلال دقائق حتى يؤثر في إدراك جمهور واسع تجاه قضية ما، وبالتالي يؤدي إلى خلق رأي عام يشكل أداة ضغط مؤثرة على صُنّاع القرار.
مثلا، في الثالث من مايو/أيار الجاري، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو للرئيس الأميركي دونالد ترامب، يظهر فيه وهو يدلي بتصريحات مسيئة تجاه باكستان، ويهدد بـ"تدميرها" دعما للهند. كما ورد في نسخ أخرى من الفيديو ما يشير إلى دعوته لإزالة باكستان من الخريطة.
Trump को सुनो…
" If Pakistan attacks India, I will support India erase Pakistan" !
ऐसा पहली बार होगा जब भारत और पाकिस्तान में युद्ध होने का रहा हो और अमेरिका पाकिस्तान की जगह भारत का साथ देने की बात कह रहा हो….. pic.twitter.com/mBafhBRDOQ
— विकास प्रताप सिंह राठौर???????????? (@V_P_S_Rathore) May 3, 2025
وبعد تحقق من صحة الفيديو، تبيّن أنه مُفبرك، لكن هذا التحقق جاء بعد انتشار الفيديو ورواج التصريح على منصات التواصل. وعلى إثر انتشاره، أوضحت تقارير إعلامية في الهند أن إنتاج الفيديو كان بتقنية "التزييف العميق".
ووفقا لإحدى مواقع تدقيق الحقائق الهندية، فإن المقطع الأصلي يعود إلى عام 2016، خلال كلمة ألقاها ترامب حول الاقتصاد في نادي نيويورك الاقتصادي، دون أن يتحدث فيها عن الهند أو باكستان. كما أكدت شركة "هايف" أن الفيديو لم يُعدّل بصريا، لكن الصوت المرفق يبدو أنه من إنتاج تقنيات الذكاء الاصطناعي.
إعلانوبعدها بأيام قليلة، وتحديدا في الثامن من مايو/أيار، انتشر مقطع فيديو آخر يُظهر المتحدث باسم الجيش الباكستاني، الفريق أحمد شريف شودري، وكأنه يعترف بأن الهند نجحت في إسقاط مقاتلتين باكستانيتين من طراز "جي إف-17″، وهو مقطع تبين أيضا أنه معدّل بتقنية "التزييف العميق" بالذكاء الاصطناعي.
Pakistan confirms 2 JF17 shot down by India
News coming in that we have hunted one F16 as well just a while ago! pic.twitter.com/DSEriRfuQW
— Ashu (@muglikar_) May 8, 2025
حصد هذا المقطع نحو 760 ألف مشاهدة على منصة "إكس"، قبل أن تُضاف إليه ملاحظة تحقق تكشف تزييفه. وقد خدع المقطع بعض وسائل الإعلام الهندية، إذ بثّته بعض القنوات على أنه خبر عاجل، ثم سحبته بصمت من مواقعها الرسمية.
ودَمج مقطع الفيديو بين لقطات حقيقية من مؤتمر صحفي للفريق شودري ومشاهد مفبركة. واستُخدمت لقطة للجمهور لتغطية نقطة الانتقال بين المقطع الأصلي والمُفبرك، وظهرت قفزة صوتية واضحة عند موضع التلاعب بالصوت.
كذلك اجتاحت الصور المزيفة بالذكاء الاصطناعي منصات التواصل الاجتماعي، من مشاهد تفجير طائرات حربية إلى صور دموية من ميادين المعارك لا أساس لها على الأرض. وفي إحدى الحالات، جرى تداول مشاهد من لعبة فيديو عسكرية على أنها لقطات حقيقية، وحققت أكثر من مليوني مشاهدة، ما يكشف حجم الإقبال على المحتوى المضلل في أثناء الحروب والنزاعات، كما أشارت صحيفة واشنطن بوست.
انتصارات زائفةفي هذا السياق، وصف المحلل السياسي المتخصص في شؤون جنوب آسيا، مايكل كوغلمان، هذا المشهد بوجود "كمّ هائل من الأخبار الكاذبة بصورة فجّة" في وسائل الإعلام الهندية الموالية للحكومة، وفقا لما ذكره لصحيفة واشنطن بوست.
وقد زعمت قنوات شهيرة مثل "زي نيوز" و"إيه بي بي" بأن انقلابا عسكريا يجري في باكستان، مدعية أن الجنرال عاصم منير، قائد الجيش الباكستاني، قد اعتقله مجموعة من الضباط تحت قيادته. ولم تُقدَّم تلك القنوات والصحف أي دليل يدعم هذه الرواية، ومع ذلك تناولها المذيعون بوصفها أمرا واقعا، بل وصل الأمر إلى حد التكهن باسم القائد العسكري الجديد.
إعلانلم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وصلت بعض التقارير إلى تأكيد أن العاصمة الباكستانية إسلام آباد قد سقطت فعلا، فقد أعلنت "زي نيوز" أن القوات الهندية استولت على إسلام آباد، وأن الجيش الباكستاني قد استسلم.
وسارت قناة "تايمز ناو" الناطقة بالهندية في نفس التوجّه الخيالي، داعية البحرية الهندية إلى "إحراق كراتشي حرفيا". كانت القناة تروّج لسيناريوهات عن قوات هندية سيطرت على إسلام آباد، فيما ارتفعت الأصوات هناك حول توقيت "الاستسلام الرسمي لباكستان".
According to @ZeeNews, Pakistan's capital Islamabad has already been captured. pic.twitter.com/MZZHaf3dAR
— Mohammed Zubair (@zoo_bear) May 8, 2025
في السياق ذاته، بدأت قنوات هندية، باللغات المحلية والإنجليزية، تروّج لانتصار على جبهة بحرية جديدة، معلنة -دون دليل- أن البحرية الهندية قصفت ميناء كراتشي بصواريخ أُطلقت من حاملة الطائرات الهندية " آي إن إس فيكرانت" (INS Vikrant)، ودمرت الميناء بالكامل. إحدى القنوات الهندية أعلنت أن هذه أول ضربة من البحرية على كراتشي منذ عام 1971، بينما زعمت أخرى أن 26 سفينة حربية هندية تحاصر الميناء وأن "باكستان ستنتهي اليوم".
ولإضفاء بعض الطابع التوثيقي المرئي على هذه المزاعم، عرضت قناة ناطقة بالهندية مقطعا لتحطم طائرة في فيلادلفيا عام 2022، وادّعت أنه يُظهر دمار كراتشي بعد القصف.
ولم ترد تقارير ميدانية ولا تأكيدات عسكرية ولا تحقيق صحفي، لكن كان السبق هو المسيطر؛ حتى أن المؤسسات الإعلامية الشهيرة انزلقت إلى ترديد روايات جمعتها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ومن مصادر مجهولة غير موثّقة. ومع حلول صباح اليوم التالي، كانت هذه الروايات المفبركة قد خلقت شعورا عاما باقتراب النصر لدى شرائح واسعة من الجمهور الهندي.
هجمات سيبرانيةبالطبع، لن يكتمل مشهد ساحة المعركة المعلوماتية إلا بالهجمات السيبرانية، وتزامنا مع مزاعم عن قصف كراتشي، بُث من حساب هيئة الميناء على منصة إكس –بعد اختراقه– منشور يؤكد الضربة، ويصف الميناء بأنه في حالة دمار، وأن حالة الطوارئ تسيطر على الأجواء.
إعلانففي التاسع من مايو/أيار، فوجئت هيئة ميناء كراتشي بأن حسابها الرسمي على منصة "إكس" قد تعرّض للاختراق، وبدأ في بث أخبار كاذبة تدّعي أن ضربة صاروخية هندية ألحقت أضرارا جسيمة بالميناء، مما أثار موجة من الشائعات عن كارثة إستراتيجية.
خلال 30 دقيقة، تمكن فريق تكنولوجيا المعلومات الخاص بهيئة ميناء كراتشي من استعادة السيطرة على الحساب، وأصدر بيانا رسميا أعلن فيه عن اختراق الحساب، مؤكدا أن الميناء آمن ويعمل بصورة طبيعية. دُعي الصحفيون لزيارة الموقع مساء اليوم ذاته، حيث كانت العمليات اللوجيستية تسير بسلاسة، دون أي أثر للمزاعم السابقة. ولم يتردد البيان الصحفي للهيئة في اتهام جهات هندية بالمسؤولية عن الاختراق وبث المعلومات المضللة.
Press Release
KPT'S OFFICIAL TWITTER ACCOUNT HACKED BY INDIA
This is to state that India has released fake news from official twitter/X account of KPT. It is clarified that KPT's official X/Twitter Account was hacked
Pls reconfirm the news from KPT PR before showing on media
— Karachi Port Trust Official (@official_kpt) May 9, 2025
وفي حادثة مشابهة في الليلة نفسها، تعرض حساب وزارة الشؤون الاقتصادية الباكستانية للاختراق، حيث استخدم القراصنة الحساب لنشر تغريدة زائفة تزعم أن باكستان تطلب قروضا طارئة بسبب "خسائر فادحة ألحقها بهم العدو". تلك التغريدة الملفقة حققت ملايين المشاهدات قبل حذفها، ما يبرز قدرة الهجمات السيبرانية على اختراق قنوات رسمية ونشر روايات زائفة على نطاق واسع.
هذه الحوادث تكشف بُعدا متقدما من الحرب المعلوماتية، إذ يتسلل المخترق -سواء كان جهة حكومية أو مرتزقة سيبرانيين- إلى حسابات رسمية، ليزرعوا الأكاذيب بغطاء رسمي، فيُطمس الخط الفاصل بين الحقيقة والبروباغندا.
إعلان معركة فرض السرديةمع تصاعد موجات الشائعات والأخبار الزائفة، لجأت حكومتا الهند وباكستان إلى أدوات رقمية متطورة -من ضمنها تقنيات رقابة مدعومة بالذكاء الاصطناعي- بهدف كبح السرديات التي تعدّها مُؤذية. في الهند، مارست السلطات ضغوطا أكبر على شركات التواصل الاجتماعي لإجراء عمليات حذف بالجملة للمحتوى، بل وحظر حسابات بالكامل.
بموجب أوامر طارئة، اضطرت منصات مثل إكس وفيسبوك إلى تقييد آلاف المنشورات المرتبطة بالأزمة. ففي الثامن من مايو/أيار، أعلنت إدارة العلاقات الحكومية العالمية، التابعة لمنصة إكس، أنها بدأت بحجب أكثر من 8 آلاف حساب داخل الهند استجابة لطلب حكومي.
X has received executive orders from the Indian government requiring X to block over 8,000 accounts in India, subject to potential penalties including significant fines and imprisonment of the company’s local employees. The orders include demands to block access in India to…
— Global Government Affairs (@GlobalAffairs) May 8, 2025
حتى وسائل الإعلام المستقلة في الهند لم تسلم من هذه المواجهة مع الحكومة، فموقع "ذا واير" -أحد أبرز المنصات المستقلة- حُجب فجأة لدى عدد من مزوّدي الإنترنت، دون تنبيه أو تفسير. واختفت تقاريره التي تناولت الفوضى من الواجهة لساعات، خاصة تلك التي انتقدت تعامل الحكومة مع الحرب المعلوماتية.
Dear Readers of The Wire
In a clear violation of the Constitutional guarantee of freedom of the press, the Government of India has blocked access to https://t.co/mEOYg6zJMu across India. + pic.twitter.com/K1jRk3Vxpy
— The Wire (@thewire_in) May 9, 2025
أما على الجانب الباكستاني، فرغم اتباع إسلام أباد لهجة رسمية أكثر تحفظا، تُدار المعركة المعلوماتية بحزم مماثل. فقد أعلن الفريق الوطني للاستجابة السيبرانية (National CERT) حالة "التأهب القصوى"، محذرا من تصاعد التهديدات السيبرانية، وتدفّق الرسائل المُفبركة المُنتجة بالذكاء الاصطناعي على الشبكات الحكومية.
إعلانويُرجّح استخدام الحكومتان لخوارزميات رقابية وآليات ذكاء اصطناعي للكشف عن المحتوى، إذ وُسمت بعض المنشورات الزائفة على منصة إكس بإشعارات تصحيحية، فيما استعانت شركة ميتا بفِرق تحقق مدعومة بأنظمة ذكية تعمل بمختلف اللغات الإقليمية.
لم تكن الحكومات وحدها من خاضت تلك المعركة، فقد أظهرت عاصفة المعلومات في الثامن من مايو/أيار كيف يمكن لبيئة التضليل أن تتحول إلى منظومة مكتفية بذاتها، بتحولها إلى حلقة ذاتية التوليد تعيد فيها وسائل الإعلام الموالية للحكومة، والحسابات المجهولة، والمستخدمون العاديون، تدوير الأكاذيب نفسها حتى تترسّخ كحقائق.
على الجانب الهندي، بدأ السيناريو من الجهات المعتادة: مؤثرون قوميون، وحسابات تروّج للجيش، تدفع بـ"معلومات استخباراتية" غير مؤكدة، كطائرات باكستانية أُسقطت، وقوات خاصة تسللت إلى إسلام آباد، أو ضربات بحرية استهدفت كراتشي. النبرة كانت احتفالية، والوسوم جاهزة للانتشار، ثم دخلت القنوات الإخبارية الكبرى، فالتقطت هذه المزاعم، وقدّمتها بوسم "عاجل" على الشاشة، ومنحتها طابع الحقيقة.
هكذا أُغلقت الدائرة: من وسائل التواصل إلى شاشات التلفاز، ثم تعود السردية إلى المنصات الرقمية، وتنتقل منها إلى تصريحات المتحدثين الرسميين، الذين كرر بعضهم الادعاءات ذاتها، مما أضفى عليها شرعية من خلال التكرار وحده. لا أدلة؟ لا توجد مشكلة، المهم أن القصة تُباع وتحقق رواجا.
حتى واقعة اختراق حساب هيئة ميناء كراتشي -رغم واقعيتها- تحولت إلى أداة في حرب فرض السردية. في الهند، اعتُبرت العملية برهانا على هشاشة البنية التحتية الباكستانية. بينما في باكستان، كانت دليلا على حملة نفسية سيبرانية تديرها الهند. والنتيجة؟ منظومة رقمية لا تشترط صحة المعلومة، بل اتساقها مع الهوية والانتماء.
بمجرد أن يتبنّى عدد كافٍ من المتابعين خبرا زائفا -أو تضخّمه حسابات لها مظهر موثوق- ينطلق كحقيقة. يلتقطه المذيعون، ويردده السياسيون، ويستقر في وعي الجمهور. وبحلول وقت التصحيح -إن حدث- تكون الرواية قد ترسّخت.
إعلانهكذا تعمل ماكينة الأكاذيب بكامل طاقتها: كذبة تولد في تغريدة، ثم تغذيها خوارزمية، بعدها تتوّجها غرفة أخبار، ثم يُعاد ضخّها إلى مجرى الرأي العام، وقد صارت أكثر صلابة، وأصعب في نفيها أو التحقق منها.
في معارك فرض السردية الجديدة، لا تنتصر الحقيقة، بل تسبقها الصورة الأولى بصرف النظر عن مصداقيتها. الرابح هنا هو من يملأ الفراغ الرقمي أولا، لا من يصحح المعلومة لاحقا.
الحقيقة كضحية جانبيةيحذر بعض المحللين من المخاطر المستحدثة التي يفرضها تصاعد الحرب المعلوماتية المدفوعة بالذكاء الاصطناعي. يذكر جويجيت بال، الأستاذ في جامعة ميشيغان ومتخصص في المعلومات المضللة، أن انفلات الخطاب على وسائل التواصل الاجتماعي قد يُرغم الحكومات على اتخاذ قرارات مصيرية؛ الفكرة الجوهرية أن الأكاذيب المتداولة، والخطاب القومي المتشنّج عبر الإنترنت، قد يدفعان القادة إلى اتخاذ خطوات متهورة تحت ضغط جماهيري يسعى إلى ردّ فعل سريع، لا إلى حكمة إستراتيجية، كما أشار لصحيفة واشنطن بوست.
ويخشى بعض الباحثين من سرعة وواقعية المحتوى المُنتَج بالذكاء الاصطناعي. إذ تشير راشيل موران، الباحثة بمركز جامعة واشنطن للرأي العام، إلى أن الأزمات تُربك الجمهور أصلا، وتجعل التمييز بين الشائعة والحقيقة مهمة صعبة. لكن وجود مقاطع مزيفة عالية الجودة داخل هذا المزيج يزيد الأمر تعقيدا، ويُضعف قدرة الجمهور على اتخاذ قرارات مبنية على معلومات موثوقة. ببساطة، يمكن للمحتوى المقنع والمفبرك أن يشتّت الانتباه عن تحذيرات حقيقية، أو يضخم تهديدات وهمية، بما يؤدي إلى حسابات خاطئة قد تكون مكلفة.
لكن ربما يتمثل القلق الأعمق في أن وتيرة إنتاج المعلومات المضللة، عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، باتت تتجاوز قدرتنا على الاستيعاب والرد. فعندما يُكتشف التزييف، تكون الرواية المضللة قد انتشرت وألقت بظلالها، في حين لا تلقى التصحيحات ذات الانتشار أو التأثير. وبهذا ندخل سباق تسلح جديد، ليس بين الدول فحسب، بل بين أدوات صناعة الأكاذيب وتلك التي تسعى إلى كشفها، في مشهد تتآكل فيه الثقة أكثر، ويُصبح التيقن من أي معلومة عملة نادرة.
إعلانفي هذا المشهد، يجد الجمهور نفسه غارقا في سيل من الادعاءات: الصادق منها والزائف، وذاك الذي يستحيل التحقق منه فورا. الحقيقة الرقمية باتت هشة للغاية، فصورة مصممة بإتقان أو تغريدة مضللة تكفي لتشكيل واقع مواز مؤقت، حتى يأتي النفي إن أتى أصلا. حتى الأخبار الحقيقية لم تعد تُستقبل بثقة، بعد أن أضعف التضليل المُمنهج مصداقية جميع المصادر.
ومع تحوّل الحرب المعلوماتية المعززة بالذكاء الاصطناعي إلى الوضع الطبيعي الجديد، لم يعد ضباب الحرب يخيّم على جبهات القتال فحسب، بل غزا شاشات أجهزتنا، وتوغّل في صفحاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي. التحدي الأكبر الآن لا يكمن في كشف الأكاذيب، بل في استعادة الحد الأدنى من الثقة والعقلانية في زمن تتفوّق فيه البروباغندا الفورية، وتُصبح فيه الحقيقة أولى ضحايا الذكاء الاصطناعي.
قد لا نعتبر ما جرى مجرد حلقة جديدة في حروب البروباغندا المعتادة، بل يمكننا اعتباره محاكاة تمهيدية لعالم أصبحت فيه الحقيقة نفسها ضحية جانبية؛ عالم تُفبرك فيه الادّعاءات بأدوات ذكية، ويُصدّقها أغلب الجمهور فورا، ثم تُضخَّم عالميا قبل أن تتاح أي فرصة لأقرب مدقّق معلومات للتثبت من صحتها.