لم تسلم قضايا السودان المصيرية من ربطها بالعامل الأجنبي أو الخارجي بحثاً عن حلول، والأمثلة على الارتهان للخارج والتعويل عليه كثيرة في تاريخنا الحديث وحتى القديم، وعلى سبيل المثال للحصر فقط، نجد أن معظم قضايا الحرب والسلام في السودان ارتبطت بالخارج واتخاذ مقار خارجية للمفاوضات والحوار، مرورا باتفاقية أديس أبابا في عام 1972 م وانتهاء بنيفاشا التي فصلت الجنوب في عام 2005م وكذلك الحال في اتفاق كوكا دام في 1986م واتفاقيات الدوحة للسلام وقرارات الأمم المتحدة بشأن دارفور وغيره مما لا يسع المقام لذكره.

وبالجملة ظل تاريخ الطبقة السياسة السودانية مرتبطاً بالخارج لحد كبير لحل القضايا الداخلية بدءا بالديمقراطية الأولى وانتهاء بالثالثة وكذلك الانقلابات العسكرية الثلاث انتهاء بالإنقاذ، وحاليا بعد مائة (100) عام تقريباً أي من 1919م (تاريخ زيارة وفد العشائر لبريطانيا) إلى عام 2019م حيث تسيد المشهد حراك قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، وسادت مشاكسات الفترة الانتقالية ثم دستور المحامين والاتفاق الإطاري ثم اندلاع الحرب الآثمة حاليا، وما زالت القوى السياسية المدنية سادرة في غيها وخير مثال على ذلك الجوالات المكوكية التي تتنقل فيها القوى المدنية خاصة قوى الحرية والتغيير بواجهتها “تقدم” بين دول العالم تحت ذريعة وقف الحرب والتوصل لحل سياسي كان متاحا قبل خمس سنوات ضاعت بسبب أنانية القوى المدنية هذه وضيق أفقها السياسي وغض الطرف عن أحوال ما يزيد عن أربعين مليون مواطن سوداني يعاني الفقر والجهل والمرض، وفقط التركيز على المصالح الحزبية الضيقة.

إن القضاء على داء القابلية للاستعمار يتطلب تغييرا في الذات وإصلاحها والثورة على القوالب الموروثة التي تبعث على الركود لا التجديد والنظر إلى الحال دون المآل والاعتماد على الحلول الداخلية وإبعاد العوامل الخارجية التي تؤثر سلباً على التوافق الداخلي. وهذا كله يتطلب نمطاً فكرياً وسلوكياً حديثاً مغايراً ومعايير جديدة في ظل الواقع الذي أفرزته الحرب الجارية، فالشفاء من مرض القابلية للاستعمار، يتطلب وعياً أكبر في الحياة الداخلية وأول مراحل هذا الوعي أن يعقب هذه الحرب ثورة مفاهيمة للتعاطي مع قضايا الحرية والمساواة والعدالة ومحاربة الفساد ليس بالشرعية الثورة أو القانونية فقط، بل بمفاهيم جديدة، وأول هذه المفاهيم في رأيي هو تصفية الفكر السياسي السوداني من القابلية للاستعمار نفسيا.

علينا أن ندرك أن الاستعمار (الاستخراب) في ثوبه الجديد أصبح يعتمد على حروب الجيل الرابع أو ما يعرف بحروب الوكالة (Proxy war) التي يستخدم فيها تضييق الخناق الاقتصادي واستغلال التناقضات الداخلية للدول وتسخير مجلس الأمن ومنظماته الدولية والحقوقية والتجمعات الإقليمية لخدمة أجندة ومصالح الدول الكبرى. التعويل على العامل الخارجي لن يفيدنا البتة ودونكم الصراعات الحديثة منذ اتفاقية سايكس بيكو في عام 1916م وما حدث لفلسطين ومروراً بحرب البوسنة والهرسك، وحروب الخليج وما يعرف بالحرب على الإرهاب وما يعرف بثورات الربيع العربي وحرب غزة الحالية وسابقاتها والحرب الحالية ضد الشعب السوداني، للأسف العامل الخارجي في كل هذه القضايا ظل متحاملاً على هذه الشعوب وقائماً على مراعاة المصالح القومية البرغماتية للدول الكبرى، وإن تدثرت كذباً وزوراً بدثار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذا لا يعني أن نلتزم العزلة، بل لا بد من الحذر في وضع السياسة الخارجية التي تراعي مصالحنا القومية وتقوية الجوانب الاقتصادية والاعتماد على الذات بصورة أكبر.

وللتخلص من معضلة القابلية للاستعمار لا بد من التعويل على العامل الداخلي في المقام الأول من خلال الحفاظ على وحدة الجبهة الداخلية، فلنحافظ على النسيج الاجتماعي بالبعد عن الاستقطاب السياسي والعرقي والديني والاشتطاط في المواقف السياسية، بل يجب الاعتراف بالآخر وعدم المزايدة على وطنية بعضنا البعض طالما غاب ذلك الارتماء في حضن الخارج. علينا الابتعاد عن نشر الشائعات التي تضر بالأمن القومي، علينا الكف عن كل ما هو من شأنه إضعاف الجيش -مهما بلغ الأمر – فلا نشكك في وطنيته أو مقدرته على الفعل، ووصفه بالخيانة والجبن؛ لأن مواقف بعض قادته لم توافق هوانا، فللجيش تقديراته التي لا نراها نحن العوام وللأمن القومي أبعاده التي نفهمها نحن العوام بالكلية.

على ساستنا البعد عن الارتماء في براثن العامل الخارجي تحقيقا لمصالح حزبية ضيقة، واجبكم أيها السادة دون استثناء الإعلاء من قيمة الوطن بعدم التعنت في المواقف السياسية وعليكم التحلي بالمرونة حيال غرماء السياسة وعليكم بالتنازل من أجل تحقيق الوفاق السياسي وسعة الصدر وخفض الجناح في التفاوض والتحاور، عليكم بضبط الخطاب السياسي والشعارات السياسية لتخدم قضايا الوطن والوقوف مع الجيش في خندق واحد تعظيماً للمقاومة الشعبية وسنداً لها من أجل ردع التمرد وهزيمة داعميه من الخارج الذين يتربصون بالسودان شرا.

د. أحمد عبد الباقي

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

الداخلية تعلن تسجيل اكثر من 13 الف دعوة عنف اسري خلال 5 اشهر

بغداد اليوم -  

مقالات مشابهة

  • لفتيت ونظيره الإيطالي يؤكدان مواصلة تعزيز التعاون بين البلدين في قضايا الأمن والهجرة
  • هل تنجح القاهرة في “لمّ شمل” السودانيين؟
  • الحروب في السودان تؤكد هشاشة التكوين القومي وعجز الحكومات عن الحسم
  • الصندوق الأسود للسفارة الأمريكية باليمن
  • الجنابي والخزعلي يؤكدان المضي برؤية وطنية لاهمية دعم الاستقرار السياسي
  • المفتي قبلان: لعبة البورصة السياسية لا تصلح لقيادة وطن
  • تحديد ولايات الرئاسات الثلاث
  • السودان: عسكرية الحرب ومدنية الحل
  • الداخلية تعلن تسجيل اكثر من 13 الف دعوة عنف اسري خلال 5 اشهر
  • الحزب والحزبي أليسا من مداميك الدولة الاردنية تاريخيا ولكن…؟.