د. عمرو صالح يكتب.. صفقة الاستثمار الكبرى
تاريخ النشر: 24th, February 2024 GMT
عندما كتبت مقالتى الأخيرة فى جريدة «الوطن» كانت بعنوان «مصر قادرة»، وكانت عن قطاع السياحة وذكرت فيها رأيى بأن مصر تعوم على كنز من الذهب فى قطاع السياحة، واليوم، ونحن نتحدث عن الصفقة الكبرى التى أعلن عنها دولة رئيس الوزراء، فلابد أن أعنون مقالتى اليوم بعنوان: مصر عظيمة.
مصر عظيمة لأنه رغم كل ما يقال عنها وعن أنها تعانى من أزمة اقتصادية يقال عنها إنها طاحنة، فإن الدولة المصرية عظيمة ولديها كل الإمكانيات السياسية والاقتصادية والإدارية والبشرية والثقافية لجذب صفقات واستثمارات عظيمة، وليست فقط كبيرة.
وفى رأيى الشخصى أن مصر قادرة على جذب أكثر من 25 مليون سائح خلال الأعوام الثلاثة القادمة - وأقول ذلك من خلال معرفتى بالأسواق الدولية وعملى كمستشار دولى سابق فى البنك الدولى وأستاذ الاقتصاد الدولى - مصر قادرة على جذب أكثر بكثير من 16 مليون سائح كما هو مخطط، والطريق إلى ذلك فى نموذج تلك الصفقة التى عقدتها الحكومة المصرية مع دولة الإمارات العربية المتحدة، فدولة الإمارات وبما لها من ثقل خارجى فى الاستثمار العالمى وأيضاً بما لها، وهذا هو الأهم، من خبرة كبيرة تراكمت فى نموذجها الاقتصادى الرائع وفى سنوات قليلة وقصيرة فقط، هى قادرة على أن توفر نموذجاً إدارياً وتسويقياً واستثمارياً مهماً فى مصر يجذب معه مئات الآلاف من السائحين حول العالم.
فنموذج خصخصة المشاريع والبنى التحتية السياحية أرى أنها من أفضل النماذج حيث يعطى المستثمر المنطقة ليقوم بتطويرها وإدارتها من كل شىء بدءًا من المرافق والكهرباء والطاقة والوسائل الترفيهية والاجتماعية، وحتى الأمن الداخلى، وهذا بالطبع من خلال مذكرات تفاهم مفصلة عن كل بند مع المستثمر ورقابة وتشريع من الدولة.
إن هذا النموذج قابل أن يتكرر فى قطاعات كثيرة فى السياحة، وأدعو مصمم التخطيط الاستراتيجى السياحى أن ينظر إلى القطاعات المختلفة غير التقليدية التى لدى مصر، ومنها سياحة السفارى، وسياحة بيع العقارات وسياحة الإقامة الدائمة والتى انتشرت بكثرة الآن فى مصر من الدول الأجنبية ومع تفضيل مواطنى أوروبا من ألمانيا وبلجيكا وهولندا وغيرهم ممن يفضلون الذهاب والإقامة والعيش بعد الإحالة إلى المعاش فى دول تتمتع بشواطئ وشمس مثل مصر، ويكفى النظر إلى مناطق الجونة وسهل حشيش والغردقة؛ كيف تحولت إلى مناطق آمنة للمواطنين الأوروبيين اختاروا أن يقيموا فى مصر أواخر أيامهم لما تتمتع به مصر من أمن وأمان لا يتوافر فى كثير من الدول الأوروبية، بالأخص بسبب الروح والطبيعة السمحة والخلوقة والرشيدة للمواطن المصرى.
هذه الصفقة التى سوف تعود على مصر بكثير من المنافع وأرجو أن تكون درساً لمخطط السياسات السياحية، ونعرف أن التنمية لا يمكن أن تكون فقط من الداخل ولكن بالانفتاح على العالم الخارجى وهذا يتطلب أشخاصاً ليس لعمل فقط قوانين وتشريعات وإجراءات ولكن يتطلب ما نطلق عليه «مصممى السياسات» القادرين على التعامل مع العالم الخارجى، بعقلية العالم الخارجى وبروح العالم الخارجى ومنطق ولغة العالم الخارجى، مع أن تكون أعينهم على تحقيق أعلى مكاسب اقتصادية للدولة المصرية.
مصر ليست فقط قادرة كما ذكرت فى مقالى الأخير، ولكن مصر قادرة ومصر عظيمة، والصفقة الأخيرة خير دليل على عظمة ومرتبة هذه الدولة وحكمتها وقوتها، والتى قد تتعثر وتمرض، ولكنها أبداً لا تموت.
تحيا مصر..
* أستاذ الاقتصاد السياسى
ومستشار البنك الدولى السابق
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: مصر قادرة صفقة الاستثمار الكبرى مصر قادرة
إقرأ أيضاً:
بطولة العالم العسكرية للفروسية.. دلالات الاستضافة المصرية
في العاصمة الإدارية الجديدة، وعلى ميادين نادي الفروسية بالأكاديمية العسكرية المصرية، يتبارى فرسان بطولة كأس العالم العسكرية للفروسية. مشهد لا يمكن اختصاره في مجرد مناسبة رياضية. أجواء مصقولة بعناية، تحمل في تفاصيلها ما يتجاوز القفزات الرشيقة للخيول، وصرامة الزي العسكري للفرسان.
افتتاح وفعاليات بطولة العالم العسكرية للفروسية تعكس رسائل استراتيجية ناعمة، تضع الرياضة في خدمة التنمية، والرمز في خدمة الطموح الوطني. البطولة ليست حدثًا عابرًا على هامش أجندة الرياضات العسكرية، بل مرآة تعكس هندسة مصرية دقيقة لحضور نوعي في المشهد الدولي، من خلال هذه البطولة وغيرها، خلال السنوات الأخيرة.
من حيث الشكل، تستضيف مصر عبر استضافتها بطولة العالم العسكرية للفروسية ممثلين عن جيوش عدة في منشأة عسكرية عريقة. ومن حيث المضمون، تفتح البطولة نافذة على فلسفة جديدة تتبناها الدولة المصرية: القوة لم تعد فقط في السلاح، بل في القدرة على تحويل اللحظة الرياضية إلى لحظة دولة.
أن تُقام البطولة في الأكاديمية العسكرية، ليس تفصيلًا عابرًا، بل تثبيت لهوية المؤسسة العسكرية المصرية كركيزة للاستقرار والتنمية. تعبير عن مقاربة مصرية تدمج بين الأداء الاحترافي التقليدي، ميدانيًا، والمشاركة في جهود التحديث والانفتاح الثقافي والرياضي، هذا ما يمكن قراءة تفاصيله عبر بطولة العالم العسكرية للفروسية.
العاصمة الإدارية، بما تحمله من رمزية المشروع الوطني الأكبر في العقد الأخير، تجد في البطولة فرصة لتثبيت نفسها كمنصة للأحداث العالمية، السياسية منها والرياضية. كل ميدان، كل منصة قفز، تتحول إلى اختبار للبنية التحتية، والقدرة التنظيمية، والقدرة على إبهار الوفود الدولية، بعيدًا عن الصخب، وبعيدًا عن الضجيج.
تمنح البطولة المؤسسة العسكرية المصرية مساحة ناعمة لتقديم صورتها الحضارية، تلك التي تجمع بين الانضباط والتقاليد العريقة، وبين القدرة على التجديد والاحتراف. الفروسية، كرياضة، ليست غريبة عن الوجدان المصري، وهي امتداد طبيعي لثقافة النبل والشجاعة والانضباط التي طالما رافقت صورة الفارس في الذاكرة العربية.
لكن الأهم من ذلك أن هذه البطولة ليست فقط إعادة اعتبار لرياضة تراجعت شعبيًا، بل أيضًا محاولة لإعادة إدراجها في الثقافة العامة، وجعلها جزءًا من المشروع الوطني العام، المتعدد الأبعاد: تنموي، رمزي، ثقافي، واستثماري.
وراء هذا الحدث العالمي، منظومة اقتصادية دقيقة: تجهيزات بيطرية، صناعات جلدية، تغذية متخصصة، كفاءات بشرية، ومدارس تدريب. سلسلة اقتصادية كاملة تُدفع للأمام بفعل لحظة رياضية، تتزامن مع خطط لتنمية العاصمة الإدارية ومحيطها العمراني، بما يجعل من الرياضة محفزًا غير مباشرٍ لاقتصاد الفروسية.
إلى جانب الاقتصاد، تلوح فرص أخرى. فالمؤسسة العسكرية لا تكتفي بالعرض، بل ترسم ملامح مسار جديد في الاستثمار الرياضي العسكري، حيث تفتح هذه البطولات الباب لتوظيف البنية التحتية العسكرية، ذات المعايير الرفيعة، في رياضات احترافية تتقاطع فيها الصرامة والانضباط، مع الذوق العام والشغف الشعبي.
الأكثر طموحًا هو ما تلوّح به هذه اللحظة من أفقٍ استشرافي: تأسيس أكاديمية دولية للفروسية العسكرية، تكون شراكة بين وزارة الدفاع ووزارة الرياضة واتحاد الفروسية، لا تقتصر على التدريب، بل تتعداه إلى البحث والتعليم والتأهيل، بما يجعل من مصر مركزًا معرفيًا في هذا المجال.
تبرز الدبلوماسية الدفاعية كأداة حديثة للنفوذ. فالجيوش الكبرى باتت تعي أن الرياضة العسكرية إحدى بوابات النفوذ الناعم، حيث العلاقات تُنسَج في ميادين الخيول كما تُنسج في صالونات السياسة. ومصر، من خلال هذه البطولة، لا تنسج فقط علاقات ثنائية مع جيوش الدول المشاركة، بل تؤسس شبكة إقليمية ودولية جديدة، خاصة في محيطها العربي والإفريقي.
قد تكون البطولة العسكرية للفروسية حدثًا رياضيًا، لكن قراءتها الصحيحة تكشف عن لحظة شديدة التركيب، لحظة تداخل فيها الرمز بالحسابات، والموروث بالرؤية، والفروسية بالاستراتيجية. إنها لحظة تقول إن مصر لا تتسابق فقط بخيولها في ميادين الأكاديمية، بل تتسابق أيضًا مع الزمن لتكريس حضورها كقوة ناعمة صاعدة في زمنٍ تتعدد فيه أدوات التأثير. هي بطولة، نعم، لكنها أيضًا حكاية وطن يُحسن الحديث عن نفسه.