عربي21:
2025-07-03@14:11:57 GMT

هوامش شخصية على كتاب الإسلام بين الشرق والغرب

تاريخ النشر: 1st, March 2024 GMT

لم تكن علاقتي بعزَّتبيغوڤيتش مُجرَّد علاقة قارئ مَرَّ بمفكر إبَّان نُضجه، بل كانت في حقيقة الأمر: قصة نُضجي؛ أي قصة تبلور صيرورة معينة لشخصيتي وأفكاري. فقد ابتعتُ الطبعة الثانية من الترجمة العربية لـ"الإسلام بين الشرق والغرب" في 1997م تقريبا، وكنت حينها على مشارف المرحلة الجامعيَّة. كانت مأساة البوسنة لا تزال غضَّة طرية؛ فلم تمض سنوات التبرُّع والدعم، ولا انقضت مشاهد المذابح والمعاناة التي كانت تصلنا بعض تفاصيلها.



وقد ابتعت الكتاب -حينئذ- لأني وجدت عليه اسم الرئيس البوسنوي المجاهد، الذي يواجه العدوان الصربي والتواطؤ العالمي وحيدا. لم يكن العنوان يُنبئ بشيء استثنائي، وإن أشارت نبذة المترجم للعكس إشارات غامضة. وربما ظننت حين شرعت في مطالعته -للمرة الأولى- أني سأجد خطابا ناريّا بليغا عن علاقة الإسلام بالغرب مثل كتابات محمد الغزالي، أو حتى قدرا من العمق في طرح إشكالية المواجهة مثل كتابات محمد قطب، رحمهما الله. لكن كانت الصدمة أني لم أُفِدْ شيئا تقريبا، اللهم إلا بعض الأفكار والإشارات المتناثرة، التي تركت أثرها الغامض فيَّ؛ كأنها تَعِدني بالعودة للكتاب ثانية حين أستعد له معرفيّا ووجدانيّا. فقد كان الكتاب مما يلزمه عُدَّة فلسفية وكلامية وعرفانية متينة، ومن قبل ومن بعد؛ كان يلزمه تجربة حياتيَّة ومكابدة حقيقيَّة لا تتوفَّر غالبا لشابٍّ حدث في مُقتبل العمر.

ما أن بدأتُ أدرِك قصور التحصيل بغير مكابدة، حتى شرَعَتْ أبواب المعرفة تُفتح لي. صحيح أن كلنا يُكابد الحياة يوميّا، بيد أن مكابدة ما نتعلَّمه تبدأ بمحاولة تمثُّله تمثُّلا واعيا؛ فلا شيء يُنضج المعرفة ويعمقها ويختبر قدراتها الحقيقية مثل محاولات تنزيلها
وسأعود إلى هذا الكتاب العزيز ثانية بعدها بعدَّة أعوام، كنت قد طالعت خلالها ترجمة "الإعلان الإسلامي" الواضحة، وبعض ترجمة "هروب إلى الحريَّة"؛ التي دفعتني ركاكتها للبحث عن الترجمة الإنكليزيَّة. سأعود بعد أن كُسرت عندي رهبة المؤلف، وصرت أعظم إصرارا على اكتشافه واستيعابه؛ خصوصا وقد بدأتْ أدواتي الفلسفية والكلامية تتكوَّن. بيد أن القراءة الثانية لـ"الإسلام بين الشرق والغرب" لم تُثمر هي الأخرى ولا حتى بعض ما كنت أصبو إليه، وإن مثَّلت طفرة حقيقية مُقارنة بالقراءة الأولى.

لكن ما أن بدأتُ أدرِك قصور التحصيل بغير مكابدة، حتى شرَعَتْ أبواب المعرفة تُفتح لي. صحيح أن كلنا يُكابد الحياة يوميّا، بيد أن مكابدة ما نتعلَّمه تبدأ بمحاولة تمثُّله تمثُّلا واعيا؛ فلا شيء يُنضج المعرفة ويعمقها ويختبر قدراتها الحقيقية مثل محاولات تنزيلها. وبمجرد أن طرحت التحصيل النظري المجرَّد جانبا، وشرعتُ في مكابدة ما أتعلمه من خلال حركتي في الوجود؛ حتى صرت مُهيَّأ تماما لا لتشرُّب عزَّتبيغوڤيتش وتلمُّس روحه في حركتها فحسب، وإنما أمسيت أعظم استعدادا لاستيعاب عبد الوهاب المسيري والإفادة منه.

لقد جعلتني الحركة بالمعرفة -في الوجود- أشهد ما لم أكن لأشهده أبدا بالتحصيل الساكن؛ فأقبلت على المسيري كأن أنساقه كانت تسكُن في أغوار نفسي، وتنتظرُ من يصوغها في أدوات. لقد كانت أدوات المسيري تُبين لي طريقة عزَّتبيغوڤيتش في تشكيل نظامه الفكري، وتُكسب الفكر الإسلامي -بل والإنساني!- كله انسجاما وتكامُلا لم أستطع تلمُّسه من قبل، وإن أدركت وجوده مما بثَّته روح سيد قطب في نفسي.

ونتيجة أحداث يناير 2011م، تولَّدت داخلي طاقة روحيَّة وفكريَّة هائلة، وإن استُنزِفَت سريعا في إعادة ترتيب أسس وجودي، التي بعثرها الحدث نفسه. لكن كانت أُلفتي لأفكار عزَّتبيغوڤيتش قد بَلغَت مدى عجيبا، ونقلها لهيب الأحداث في روعي نقلة بعيدة؛ نتيجة أحداث يناير 2011م، تولَّدت داخلي طاقة روحيَّة وفكريَّة هائلة، وإن استُنزِفَت سريعا في إعادة ترتيب أسس وجودي، التي بعثرها الحدث نفسه. لكن كانت أُلفتي لأفكار عزَّتبيغوڤيتش قد بَلغَت مدى عجيبا، ونقلها لهيب الأحداث في روعي نقلة بعيدةما أفضى بي إلى عقد عدَّة جلسات "خاصَّة" لشرح هذا الكتاب الفذ في عام 2012م. وقد استمرَّت عشرة أسابيع تقريبا، وكان اللقاء الواحد يتجاوز الساعات الثلاث أحيانا. وهو ما أفدت منه إفادة عظيمة في إنضاج رؤيتي، فلم أكن أقرأ من الكتاب كما يفعل الشُرَّاح، إذ كنت أبصر كل شيء أمامي بوضوح: هيكل أفكار المؤلف الفيلسوف، وكساءه، وحركة هذا الجسم في الوجود.

وقد فتح الله عليَّ بألا أتناول النص مُغلقا مُنكفئا على نفسه، وإنما من خلال تناصِّه مع نصوص بشرية أخرى، أدبية وفلسفية؛ تأكيدا للمبادئ التفسيرية المركزية التي يُمدك بها بوصفها أدوات فعَّالة، وتقويضا للتمركز حول نصٍّ فرد. وليس من المستغرب أنَّ الله تعالى قد أنطقني في أول تلك الحلقات بمقولة اشتهرت عني بعدها: "كل نص بشري لا يعود بك للوحي الإلهي؛ فلا يعول عليه"، فقد كنتُ أساق سوقا إلى حقيقة الوعي.

* * *

وقبلها بعدَّة أعوام، كنت قد أسست تنوير للنشر والإعلام -في تشرين الأول/ أكتوبر 2007م- وزُرت الأستاذ يوسف عدس مطلع نيسان/ أبريل 2008م، لأستأذنه في نشر ترجمته لكتابنا الأثير هذا؛ فأخبرني أن أستاذنا المسيري رحمه الله -وكان آنذاك في مرضه الأخير- قد سبق وأرسل له ممثلي ناشره المصري قبل زيارتي بشهر واحد؛ ليتعاقدوا معه على نشر الكتاب، حرصا على دوام توفره. وقد قال لي حينها بالحرف: قدَّر الله وما شاء فعل، لو كنت زرتني مبكرا شهرا واحدا؛ لفُزتَ بالكتاب.. فلا أحب معاملتهم منذ نشروا ترجمتي لكتاب: "الإعلان الإسلامي"، وأرهقوني أيما إرهاق! فما كان مني -آنذاك- إلا أن أجبته: فاللهم لا تُمِتني حتى أنشر كتاب: "الإسلام بين الشرق والغرب"؛ فتبسَّم رحمه الله واغرورقت عيناي.

وقد أجيبت "نصف" دعوتي بعد 15 سنة، وحصلت على حقوق نشر الكتاب، بل وانفتحت لي -بحول الله وحده- ترجمته بنفسي ترجمة سلسة ميسورة دون عوائق، ولم أكن أتوقع ذلك ولا أخطط له؛ فلعل أجلي مُرتَهَنٌ بتمام نشره، والله أعلم حيث يجعل رسالته!

إن هذا النص الفذ زهرة نسق عزَّتبيغوڤيتش الفكري وواسطة عقده، وفيه هيكل نظامه الفلسفي كله، وجمهرة تفاصيله المهمة. ومَن أحسنَ استيعابه؛ فقد استوعَب مُجمَل مراد الأستاذ وعرف وجهته. ففيه أثمرت البذور الأوَّلية التي بُذِرَت في "عوائق النهضة الإسلاميَّة"؛ محاولة تُفيد من جهد من سبق طمعا بتجاوز زلاته؛ فهي أكمل نسبيّا مما سبق. وكما يحلو لي دوما القول: لولا زلَّات من سبقونا من أفاضل الأساتذة؛ لما تعلَّمنا الصوابفاستوَت فلسفة أخلاقيَّة رفيعة عمادها الإسلام، تجلَّت عبر مُقارنة بنية الإسلام بالمادية والدين المجرَّد (المسيحية). وقد اعتصر رحمه الله من هذا الكتاب الماتع -لاحقا- دليله الحركي، أو "المانيفستو" السياسي الذي دبَّجه في "الإعلان الإسلامي".

ثم لما تسنَّت له -إبَّان سجنه الثاني- فرصة إعادة النظر في نسقه الفكري، وأثمر ذلك كتابه الشذري الماتع: "هروبٌ إلى الحريَّة"، الذي دوَّنه على مهلٍ طيلة ما يقرُب من ست سنوات كاملة؛ كان هذا الأخير إنضاجا لبعض أفكاره التي ضمَّنها في "الإسلام بين الشرق والغرب"، حتى إنه خصَّص لها ما يكاد يبلُغُ رُبع هروبه، في فصلٍ عَدَّهُ حاشية على كتابه الذي نشرُف بأن نقدم لكم اليوم ترجمته الكاملة. وهي ترجمة تنشد الكمال بصدق ودأب، ولن تبلغه؛ فإن الكمال لله تعالى وحده. بيد أنها محاولة تُفيد من جهد من سبق طمعا بتجاوز زلاته؛ فهي أكمل نسبيّا مما سبق. وكما يحلو لي دوما القول: لولا زلَّات من سبقونا من أفاضل الأساتذة؛ لما تعلَّمنا الصواب. فاللهم لا تحرمنا أجورهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر اللهم لنا ولهم.

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الترجمة الفكري كتب الفكر ترجمة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بید أن من سبق

إقرأ أيضاً:

إيران والغرب.. صراع العِلم والتقنية

 

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي **

 

لماذا تُصِر إيران على الوصول إلى نسب تخصيب مرتفعة من اليورانيوم، رغم إعلانها الدائم عن رغبتها في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية؟ السؤال يحمل في طياته أكثر من مجرد وجهة نظر سياسية أو أمنية؛ فهو يكشف عمق الطموحات العلمية والتقنية التي تسعى إيران لتحقيقها، في سعيها لأن تصبح لاعبًا رئيسيًا في مجال الطاقة النووية.

الأمر يبدأ من الحاجة المُلحَّة لليورانيوم عالي التخصيب في المفاعلات البحثية؛ حيث تُنتَج النظائر المُشِعَّة التي تُستخدم في طيف واسع من التطبيقات الحيوية؛ فالنظائر المُشِعَّة ليست مجرد أدوات تشخيصية؛ بل أدوات علاجية مُتقدمة، خصوصًا في مقاومة أمراض السرطان التي ما تزال تشكل واحدًا من أكبر تحديات الطب الحديث؛ حيث إن هذه النظائر تسمح بتوجيه علاجات دقيقة تستهدف الخلايا السرطانية دون الإضرار بالأنسجة السليمة.

أما في المجال الزراعي، فتُستخدم النظائر المُشِعَّة لمكافحة الآفات بشكل فعَّال، دون اللجوء إلى المُبيدات الكيميائية التي تُلحق أضرارًا بالبيئة والصحة. ولا يتوقف الأمر عند هذه التطبيقات؛ بل تمتد إلى علوم الكيمياء والبيولوجيا وعلوم المواد؛ حيث تُساعِد مُفاعِلات البحث على تعريض المواد لظروف إشعاعية قاسية، بهدف دراسة تأثيرات الإشعاع عليها، وهو أمر حاسم لتطوير مواد جديدة تتحمل البيئات القاسية، مثل مفاعلات الطاقة النووية القادمة أو حتى في مجالات أخرى تتطلب مقاومة عالية للإشعاع.

إضافة إلى ذلك، هناك جانب استراتيجي لا يقل أهمية، وهو استخدام الطاقة النووية في الغواصات وحاملات الطائرات؛ فالطاقة النووية تمنح الغواصات قدرة فريدة على البقاء مغمورة لفترات طويلة دون الحاجة للتزوُّد بالوقود؛ ما يجعلها أداة قوة استراتيجية لا تُضاهى في الحروب البحرية، وكذلك، تُوَفِّر الطاقة النووية لحاملات الطائرات قُدرة هائلة على توليد الكهرباء لتشغيل أنظمتها المُعقَّدة؛ بما في ذلك أنظمة إطلاق الطائرات؛ مما يمنحها تفوقًا تكتيكيًا كبيرًا. والولايات المتحدة- على سبيل المثال- تعتمد على حاملات طائرات تعمل بمفاعلات نووية.

العالم الغربي، ومن ضمنه الولايات المتحدة، يعرف تمامًا أن السيطرة على المعرفة العلمية هي سِرّ تفوقه العسكري والتقني، ولذلك، يفرض قيودًا صارمة على مثل هذه الأمور، ليست فقط لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي؛ بل أيضًا لمنعها من تطوير قدراتها العلمية والتقنية الذاتية. وإيران، رغم هذه الحواجز، استطاعت أن تُحقِّق قفزات نوعية في مجال البحث العلمي، حتى وصلت إلى نقطة لم يعد بإمكانها التقدم أكثر إلّا عبر بناء بنى تحتية بحثية متقدمة، ومنها مفاعل نووي عالي التخصيب.

هنا يكمُن جوهر الصراع الحقيقي: ليست مسألة امتلاك إيران للسلاح النووي فقط؛ بل التحدي الأكبر هو طموحها العلمي والتقني الذي لا يكلّ، والذي يُهدد احتكار الغرب للمعرفة والتكنولوجيا المتقدمة، فبينما يسمح الغرب لإيران بنقل تقنيات محدودة، فإنه يضع خطوطًا حمراء صارمة أمام تطوير قدرات ذاتية تمكنها من مجاراة أو حتى منافسة التقدم العلمي الغربي.

هذا الصراع يعكس فَهْم إيران العميق بأن التقدم العلمي هو العمود الفقري لأي نهضة حقيقية، وأن الاعتماد على نقل التكنولوجيا فقط لن يحقق طموحاتها، وإيران تريد أن تبني نفسها كقوة علمية حقيقية، قادرة على الابتكار والبحث المستقل.

إنَّ إصرار إيران على المضي قدمًا في تخصيب اليورانيوم بنسب عالية، تعبيرٌ صريحٌ عن رغبتها في التحرُّر من قيود الغرب العلمية والتقنية، وهو سعي لجعل نفسها لاعبًا فاعلًا في الساحة الدولية، ليست فقط كمستهلك للتقنية؛ بل كمُنتِج ومُبتكِر، وهذا الطموح العلمي يُثير قلق الغرب، لكنه أيضًا يُشكِّل شهادة على تصميم إيران على تجاوز كل العقبات في سبيل بناء مستقبلها العلمي والتقني؛ لأن النفوس الكبيرة لا تكفيها مجرد رغبات؛ بل تحتاج إلى أفعال تبني أسسها وتشق طريقها وسط التحديات.

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • السلام رسالة الإسلام.. الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة المقبلة
  • من أين يستمد هؤلاء جرأتهم على الإساءة إلى الإسلام في تركيا؟
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (الحواشي…)
  • فرنسا تواصل انسحابها من ثاني دولة بالعالم وتسلم قواعدها العسكرية التي كانت تستخدمها
  • أوقاف الفيوم الحفاظ على المال العام مطلب شرعى ووطني ولا مكان لمقصر أو مهمل
  • عبيد الله لا عبيد البشر.. كتاب عن الإسلام وتمرد المستعبَدين في العالم الجديد
  • كانت ضربة لمشروع الشرق الأوسط الكبير.. المكتسبات المسكوت عنها لثورة 30 يونيو
  • نقيب كتاب مصر: نقابة اتحاد الكتاب تشهد عصرًا ذهبيًا في تاريخها الثقافي
  • القراءة والكتابة في مخيمات النزوح
  • إيران والغرب.. صراع العِلم والتقنية