«تكوين».. بيت الحكمة يحتفي بكنوز العصر الذهبي الإسلامي
تاريخ النشر: 5th, March 2024 GMT
الشارقة (الاتحاد)
أسهب علماء العرب والمسلمون الأوائل في تطوير علم الحيوان، من خلال كتب ومؤلفات رائدة صنفوا من خلالها أنواع الحيوانات المختلفة تصنيفاً دقيقاً من حيث خواصها وعجائبها ومنافعها ومضارِّها، ووقفوا على صنوفها من حيث البريّ منها والبحريّ، والماشي والزاحف والطائر، مدفوعين في ذلك بأغراض عديدة، مثل التداوي والانتفاع بالحيوانات واتّقاء مضارِّها، ورصد حياتها وسلوكها وأحوالها.
وعلى رغم أن مساهمة العرب والمسلمين في هذا العلم لم تحظ بالاهتمام نفسه الذي حظيت به بقية العلوم، إلا أنهم قد ضمّنوا في مؤلفاتهم آراء ونظريات لم يسبقهم إليها غيرهم، كما فعل الجاحظ والدَّمِيري والقزويني الذين قالوا بنظرية التكافل أو المشاركة الحيوانية، ومفادها أن بعض الحيوانات التي تعيش في بيئة مكانية واحدة، يربط بينها نوع من المصلحة المشتركة وتنشأ بينها مودة، كأن يحطّ طائر البقر فوق البقرة ليلتقط منها الهوامَّ، أو ينظف طائر التمساح أسنان التمساح مما علق بها من بقايا اللحوم.
وفي هذا السياق، يتضمن معرض «تكوين: العلوم والإبداع» الذي يستضيفه بيت الحكمة حتى السادس من شهر مارس 2024، قسماً مخصصاً لعلم الحيوان لإلقاء الضوء على الإرث العلمي الذي تركه لنا روادنا الأوائل خلال العصر الذهبي للعلوم، بالإضافة إلى عدد من القطع المتحفية والأدوات القديمة التي ارتبط استخدامها بهذا العلم.
علم «الأحياء» وحياة الحيوان
عند ذكر علم الحيوان في الأدب العربي والإسلامي، عادة ما ينصرف الذهن إلى «كتاب الحيوان» للعالم اللغوي والأديب عمرو بن بحر الجاحظ، الذي صنّف فيه الحيوانات إلى أربعة أقسام وتحتها تفريعات عديدة، وذكر كل تفاصيل حياتها وسلوكها، غير أن معرض «تكوين» يكشف لزواره عن مخطوطة من موسوعة ضخمة تعود إلى القرن الثامن الهجري تحت عنوان «حياة الحيوان الكبرى»، من تأليف أبي البقاء كمال الدين محمد الدَّمِيريّ، وهي موسوعة تضمنت 560 كتاباً و199 ديواناً شعرياً، و1069 مادة علمية وثقها وبوّبها الدَّمِيريّ بطريقة علمية رائعة وفق الترتيب الأبجدي. ويضم قسم الحيوان كذلك مخطوطة من كتاب «خلاص الخواص» من تأليف عمر بن نور الدين الحنفي، وهو كتاب يقدم شروحاً موجزة لما ورد في موسوعة الدَّمِيريّ، وسرداً لخصائص الحيوانات ومنافعها.
البيطرة وسياسة الخيل
شكّلت العناية بالخيل محوراً رئيسياً من اهتمام العرب والمسلمين بالحيوان، إذ احتاجوا إليها في التنقل والسفر والحياة اليومية إلى جانب المعارك والفتوحات، وسُمّيت مهنة العناية بها «ترويض الخيل» في حين أُطلق على عملية معالجتها «سياسة الخيل»، وطوروا رياضة الفروسية وركوب الخيل. ومن أوائل الأعمال التي وصلت إلينا عن هذا العلم مخطوطة «كتاب سياسة الخيل ومعرفة طبها وعلاجها»، المنسوب إلى قنبر مربّي خيل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، من القرن الأول الهجري، وفيه أن الفتى قنبر «هو أول من استحكم الحديدة والسفنجة والجيران والمقص والسكين والقرن والمشط وما يحتاج إليه السايس من الآلات».
مقتنيات نادرة
تتضمن المعروضات كذلك ثلاث قطع أثرية، أولاها «ركاب الخيل» وهي زوج تركماني من الركاب الحديدية، مطعّم بالفضة بالزخارف النباتية والهندسية يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر الهجري، والثانية عبارة عن «ركاب خيل» من النحاس المطلي بالقصدير يعود إلى القرن الثاني عشر الهجري، وهو مفرّغ بنقاط دائرية من قاعدته، مزخرف بأفرع نباتية وأوراق وزهور، إضافة إلى أشكال هندسية معقودة ومدببة. أما القطعة الثالثة، فهي «طبلة البازي»، وهي طبلة صيد على شكل قبة نصف دائرية تُستخدم لصيد الحيوانات، مزينة بالزخارف وكتابات ذات ألقاب سلطانية، بالإضافة إلى كتابات نثرية تتضمن عبارة «القناعة كنز لا يفنى».
ويقام معرض «تكوين: العلوم والإبداع» في بيت الحكمة بالتعاون مع مركز الملك فيصل كشريك استراتيجي، وهيئة الشارقة للإذاعة والتلفزيون كشريك إعلامي، وبرعاية ودعم كل من دائرة العلاقات الحكومية في الشارقة، وهيئة الإنماء التجاري والسياحي بالشارقة، وهيئة الشارقة للمتاحف.
المصدر: صحيفة الاتحاد
إقرأ أيضاً:
سياسات منطقة الخليج ووعي أجياله
الحديث عن دول الخليج ليس من باب الانتماء المتعالي، كما لا يمكن فصلها عن عالمها العربي لمشتركات عديدة على رأسها الدين واللغة، وفي المقابل لا يعيش الخليج بمعزل عن التحولات العالمية في الجوانب السياسية والاجتماعية والمعرفية والاقتصادية، إلا أن دول الخليج مرت بنقلة نوعية مع بدايات اكتشاف النفط، أحدث شيئا من التحول المادي والديمغرافي أثر في الجانب الثقافي، كما أثر في تحولات الوعي لدى أجياله، وإن بدأ الحراك الثقافي والمعرفي مبكرا في البحرين والكويت خصوصا، ثم حدث شيء من الاستقرار في السعودية منذ خمسينات القرن العشرين، ثم إن باقي الدول تبعتها في الاستقرار المادي، والانتعاش الاقتصادي، والانفتاح الخارجي والديمغرافي منذ بداية سبعينات القرن الماضي كما في عُمان والإمارات وقطر.
ودول الخليج سياسيا دول ملكية أسرية وراثية، استقرت على هذا ردحا من الزمن، بيد هذه الأسر لها خصوصيتها من حيث القرب من شعوبها، والبساطة في الانفتاح لهم بدل البرتوكولات المعقدة، أو العظمة المستبدة، وكما يرى محمد البغيلي أن «الملكيات منذ القدم تفتح أبوابها للنقد والاعتراض، حتى في الخليج؛ شريطة عدم القرب من السلطة، أو أن تكون النوايا صادقة للإصلاح، وفي وقته، فخوفهم من دخول بيانات سرية، وتنظيمات مخيفة، ودخول أسلحة باسم المعارضة أو الإصلاح فهذا طبيعي يخيفهم».
بيد أن دول الخليج في محاولتها للتحرر من التأثيرات الماركسية، وكان خطابها قويا في الستينات من القرن العشرين كما في الكويت والبحرين وجنوب اليمن، إلا أنها كظاهرة معرفية تحررية امتدت في جميع دول الخليج بما فيها صحراء نجد وعُمان وما حولهما، ولإضفاء بديل خطابي اتجاه الخطاب الماركسي؛ من هذه الدول من حاولت تغليب الثقافة بشكلها العام بعيدا عن الأدلجة الماركسية، ومنها من حيث الاتجاه الأكبر مالت إلى خطابات الأسلمة، والتي بعد عام 1979م ستتشكل في اتجاهات حركية تحت منظومة أسلمة الدولة كما يرى زكي الميلاد أنه «بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران ... تبنت بعض الحركات الإسلامية مناهج للتغيير في مجتمعات لا تناسبها مثل هذه المناهج على الإطلاق، واندفعت حركات أخرى باتجاه تصعيد وتيرة العمل، والانتقال به إلى مراحل متقدمة، وفجأة وجدت بعض هذه الحركات نفسها في صدام عنيف مع السلطات في دولها»، ومنها دول الخليج بأشكال متنوعة، خصوصا بعد منتصف ثمانينات القرن الماضي.
عاشت الشعوب الخليجية لأكثر من نصف قرن تحت تأثير خطابات الأسلمة بشكل أكبر، مع محاولة غالب دولها على تشجيع الانفتاح الثقافي من حيث الإعلام الرسمي العام، بيد أن تأثير الأول كان أكثر تأثيرا واستغلالا لقضايا المنطقة كفلسطين وأفغانستان وكوسوفو والشيشان وغيرها، كما نقلها من التدين الشعبي البسيط المتعايش مع بعضه إلى التدين الآحادي الشكلاني الملغي للمختلف، والذي ينظر بريبة إلى الآخر حتى داخل الدين أو المذهب ذاته، والذي تطور إلى اتجاه حركي بين فترة وأخرى.
في هذه المرحلة لم تستطع دول الخليج خلق مؤسسات ثقافية مستقلة تنطلق من داخلها، وتقرأ واقعها وتحولها وفق المرحلة، فكانت أقرب إلى ردات الفعل الآنية، وفي كثير من الأحوال هي ذاتها لبست لباس الأسلمة، وحجمت من النشاطات الثقافية المستقلة، فعاشت النقيضين، بين خطاب وإعلام خارجي ورسمي داخلي أقرب إلى الاتجاهات الثقافية في جوها اللبرالي المنفتح، وبين خطاب داخلي شعبي أقرب إلى اتجاهات الأسلمة، مع تخوف واضح من وجود اتجاهات ثقافية مستقلة ناقدة وقارئة بعمق للتحول الاجتماعي في منطقة الخليج، وإن وجد فأغلب رموزه من خارج المنطقة، أي من أجزاء الوطن العربي بشكل عام.
وفي المقابل بسبب الوفرة المالية، والاستقرار السياسي؛ دعمت بشكل واضح التحديثَ في المنطقة، وإن نظرت بريبة إلى الحداثة، ففي أقل من خمسين عاما كان التحديث المادي واضحا؛ أدى إلى الهجرات العمالية إلى الخليج، وهذه تهاجر بثقافاتها ولغتها وأفكارها، مما سيؤثر لاحقا في التفكير الاجتماعي، وفي الوقت ذاته استخدمت دول الخليج الأسس الاشتراكية في مجانية التعليم، والتشجيع عليه، كما شجعت على إرسال البعثات الخارجية، خصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة، ليرجع جيل أكثر انفتاحا، حيث العديد ممن رجع يحمل مفردات الحداثة، ولا يتوقف عند التحديث فقط، فأصبحت دول الخليج منتجة لرموز ثقافية ومعرفية لا يقلون شأنا عن إخوانهم في الوطن العربي، وأصبح لهم حضورهم الكتابي والمعرفي والثقافي والفني بشكل عام.
وإن كانت الحاسة السياسية في الخليج قبل 1995م خصوصا متحكمة إداريا في توجيه الإعلام داخل الدولة القطرية وفق خصوصيتها السياسية والدينية والثقافية والفنية، إلا أنه مع الانفتاح التقني في الشبكة العالمية، واشتراكية الحضور الإعلامي، وقدرة الفرد على كسر حاجز التعبير عن رأيه، وتقديم ما يضمره من معرفة، ولو خارج السياق الديني والثقافي والسياسي بل والجندري وفق ما يراه كفرد، حيث انتقل من المعرفات الوهمية في الشبكات الإلكترونية، ومن التحيزات الفئوية والجمعية في الفضائيات وبعض المواقع، إلى الفردانية والتصريح بفكره صوتا وصورة وكتابة بعد 2006م من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
كل هذا وغيره - حيث يصعب حصر ذلك في مقالة قصيرة كهذه - أثر في امتداد الوعي رأسيا وأفقيا، وهذا مشاهد بشكل واضح، فينبغي أن يكون تفكير سياسات منطقة الخليج وفق المرحلة التي نعيشها اليوم، وأن يكون التقنين متلائما مع هذه المرحلة من تطور مستوى الوعي والحداثة، لا أن يكون بذات العقليات قبل خمسين عاما، فإن كان كذلك سوف يزيد من درجة الفجوة بين سياسات المنطقة، وبين ما تحمله الأجيال الحالية من وعي، وأن تدرك هذه السياسات أن قوتها في الاقتراب من وعي شعوبها والاستماع لهم، ومن الانفتاح على الجميع بشكل مؤسسي يوسع من دائرة الحريات، وهذا لا يغني عن أهمية وجود مؤسسات بحثية تقرأ هذا السياق الزمني بعمق، حتى لا تتكرر الأخطاء الفردية، والقرارات الانطباعية غير القارئة بعمق للواقع المعيش.