لجريدة عمان:
2025-12-11@10:34:02 GMT

لأجل ماذا؟

تاريخ النشر: 6th, March 2024 GMT

عامًا بعد عام، ويومًا بعد يوم؛ تتسع الدنيا أمام المرء وتضيق، فتارة يكون صافي الرؤية هادئ البال، وأخرى مشمئزا من الحياة ماجًّا إياها لما يمر به وعليه فيها. ولكن الحياة هي الحياة، فهي لا تتغير ولا تغير قوانينها وسننها لأي مخلوق كان، ولكن الإنسان وحده من يستطيع أن يغيّر نظرته للحياة وطريقة عيشه، بما يعتقده ويتبناه من عقائد ومبادئ في سبيل عبور بحرها بأقل الخسائر والأضرار الممكنة.

تتراقص أمام المرء الأفكار الكبيرة وهو يفكر في شيء شاسع وغير محدود كالحياة، وكل امرئ ينظر إليها من المنظار الذي انغمس فيه ووجدت روحه وذاته طمأنينتها واستقرارها فيه. فالتاجر يراها من منظور اقتصادي بحت، فيتعامل مع الناس على اعتبار أنهم فرص لنموه الاقتصادي التجاري، ووفقًا للمبادئ التي يتبناها سيكون تعامله معهم بما فيه من شدة ولين، وأمانة وتطفيف. والسياسي يراهم فرصة لاجتذابهم إلى حزبه، وتقوية نفسه بهم للحصول على كرسي برلماني أو دور قيادي؛ وهكذا دواليك. ولأن المرء الذي يتخذ سبيله (اقتصادي، سياسي، ثقافي..إلخ)، يتأثر بمن حوله بالضرورة؛ فإنه سيصل لا محالة للمفترقات التي تحدد جدوله في نهر الحياة الكبير. فليس جميع التجار أمناء، وليس كل السياسيين كذبة، وليس كل المثقفين أصحاب رسالة ومبدأ. لذلك سيصل المرء لمفترق الطريق التي تلزمه باختيار سبيله هو، لا سبيل غيره ؛ ولكن الإنسان بطبعه يتأثر ويؤثر بمن حوله، فما العمل إذن؟.

إن سؤال المرء نفسه ومحاسبته لذاته مبدأ ديني وإنساني عظيم في آن، فأن تتذكر إلى أين أنت ذاهب، وأين هو طريقك، ولأجل من، ولأجل ماذا تعيش؟ كلها أسئلة تحدد محطاتك في الطريق للوصول إلى وجهتك النهائية. والمحطة النهائية لا يلزم أن تكون شيئا يراه الجميع ويشهدون عليه ويصفقون له؛ بل قد تكون التخلص من عادة سيئة أو اكتساب عادة حسنة، تجعلك مطمئنا في حياتك مدركا لما تريد وترجو أن تكون أقل ثقلا من قيود المحيطين وما ينتظرونه منك. إن الصوابية -أي فعل الصواب في كل حين- تجعل المرء يقترب من الخير الإنساني أكثر فأكثر، ولكنه لن يقوى على الاستمرار في طريق الصوابية دون معاونة رفاق له يتبنون الطريق والمسلك ذاته؛ فالصوابية في الحياة تعني أن تتخلى عن أمور يقدسها الكثيرون، والتخلي عن المعتقدات المطاطية «الحق في الرد، الحق في العقاب، الحق في الكراهية» واستعمالاتها التي تشبه «بطاقة السماح بفعل ما تريد» لا بفعل «ما هو صواب» تجعل من الصوابية مبدأ عظيما. فأن تكون مسؤولا عن مؤسسة ما أو أن تكون مهمة ما موكلة إليك، وتتعلق هذه المهمة بالاختيار أو الشراء من الأفضل؛ فحينها يتجلى مفهوم الصوابية واقعا، فهل ستختار الأفضل؟ أم ستختار ما تحب وما تميل إليه؟ وهل ستشتري الأفضل جودة وسعرا؟ أم ستشتري من التاجر الذي تحب بغض النظر عن أسعاره وجودة ما يقدمه؟.

الإنسان يتأثر بطبعه بمن حوله، وبقدر ما فيه من قدرة على الصدق مع نفسه ومع الآخرين؛ تكون اختياراته ومنطلقاته في الحياة. فأن تدرك أن تشق طريقًا خاطئًا وتعترف بذلك وتغير مسارك، لهو من أصعب الأمور على الإطلاق. ولنضرب الثقافة مثالا على ذلك. درج كثير من الأدباء على اعتبار كتب بعينها هي مدار الثقافة ومنتهاها، وبما أن المحيط الثقافي مغلق في دائرة معينة كغيره؛ نجد أن من يختار قراءة كتب مختلفة عن تلك التي اختارتها جماعة المثقفين، نجده منبوذا يلحقه اللمز أينما ذهب وارتحل، فيقال إن فلانا شب عن الطوق. ولكن المثقف الحقيقي لو وقف مع نفسه وقفة صادقة، وتساءل «لأجل ماذا؟»، «لأجل من؟» أختار ما أختار وأفعل ما أفعل، لتخلص من رسن التقليد ولأصبح حرًا أمام نفسه أولًا وأمام الآخرين. إن الصوابية تعني أن نفعل الصواب حتى وإن لم نقتنع به أو لم يشعرنا بالراحة، أن تقول عن عدوك إنه محسن في الشأن الفلاني، وعن صديقك إنه مخطئ في الموقف الفلاني، ومتى كان الصواب مقياسًا لتعاملنا مع أنفسنا والآخرين؛ كنا أصدق وأقل ندما ونحن ننظر إلى الكيفية التي تعاملنا بها وإلى الحياة التي عشنا..

علاء الدين الدغيشي كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أن تکون

إقرأ أيضاً:

هل تكون «الترامبية» نهجًا سياسيًّا؟!

تعودنا أن نسمع عبارة «التقاليد الدبلوماسية» على ألسنة القادة والساسة في الدول المدنية الحديثة، حتى أن بعض الدول تتباهى بأنها ذات تقاليد دبلوماسية عريقة. والواقع أن هناك قوانينَ دولية تحكم العلاقات السياسية بين الدول، وأعرافًا ينبغي أن تُراعى في ممارسة التقاليد الدبلوماسية بين حكوماتها. ومع ذلك، فإننا نلاحظ في الآونة الأخيرة أن هذه القوانين والأعراف السياسية الدولية أصبح يُضرَب بها عرض الحائط.

حقًّا إن هذه القوانين والأعراف كانت تُنتهك دائمًا في كل زمان ومكان، ولكن هذا الانتهاك كان يُخفى أو يُسوّغ في نوع من الاعتراف الضمني بعدم مشروعيته؛ بينما هو الآن يتم في العلن، بل في نوع من التباهي أحيانًا. هذه الحالة قد تجسدت أخيرًا بوضوح في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة دونالد ترامب، حتى أن هذه السياسة يمكن أن يُطلق عليها اسم «الترامبية».

فما السمات العامة التي تميز هذه السياسة الجديدة المناقضة للقوانين والأعراف السياسية؟ وهل يمكن أن يكون هذا المنحى الجديد نهجًا يُحتذى في العلاقات بين الدول؟ سأحاول فيما يلي إجمال سمات السياسة الترامبية (إن جاز أن نسميها سياسة):

سياسة ترامب لا تنفصل عن شخصيته أو بمعنى أدق عن شخصه، أعني لا تحافظ على مسافة بين ميوله ونوازعه الشخصية وبين سياسة الدولة التي يحكمها دستور ومؤسسات ومنظمات؛ ولذلك فإن كثيرًا من قراراته تصطدم بمنظمات المجتمع المدني، وتجد اعتراضًا ليس فحسب من جانب الحزب الديمقراطي، وإنما أيضًا من جانب أعضاء في الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه.

ومن الواضح أن السمة التي تحدد هذا المسلك هي حالة الشعور بالعظمة التي تتبدى في مسلك ترامب الرسمي وفي قراراته السياسية على السواء.

حالة الشعور بالعظمة في المسلك الرسمي قد تبدت مؤخرًا في مواقف عديدة، منها أسلوب تعامله مع بعض رؤساء الدول، ولعلنا نذكر في هذا الصدد- على سبيل المثال- لقائه منذ شهور بصحبة نائبه مع الرئيس الأوكراني زيلنسكي، وتعنيفهما له بلغة لا تليق بلغة الحوار العلني بين رؤساء الدول (رغم كل تحفظاتنا على دور ومكانة هذا الرئيس الأوكراني).

ولعلنا نتذكر أيضًا في هذا الصدد لقائه الشهير مؤخرًا مع رؤساء وقادة الدول الأوروبية في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، وهو لقاء تم بثه رسميًّا بصورة علنية تعبر عن التعامل الاستعلائي مع العالم، بل مع أوروبا نفسها: إذا بدا أن ترامب قد أراد أن يُظهِر للعالم قادة أوروبا وهم جالسون أمامه بينما يجلس هو إلى مكتبه، وكأنهم تلاميذ يجلسون إلى المُعلِّم ليلقي عليهم الدروس والتعاليم التي ينبغي أن يلتزموا بها.

ولا شك في أن قبول هؤلاء القادة لأن يكونوا في هذا الوضع المُهين هو أمر يعكس وضعًا مجافيًا لأصول العلاقات الدولية، وهو وضع يعبر عن حالة من انسحاق القوى الأوروبية إزاء الهيمنة والغطرسة الأمريكية (رغم وجود أصوات داخل هذه القوى تطالب بالتحرر من هذه الهيمنة).

يرتبط شعور ترامب بالعظمة الشخصية بإيمانه بعظمة أمريكا نفسها، وبإيمانه بأنها دولة ينبغي أن تحكم العالم. وهذا يتبدى في التدخل دائمًا في سائر شؤون العالم: في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وفي الحرب على غزة والسعي لتسوية الصراع لمصلحة إسرائيل، وفي السيطرة على البحر الكاريبي والتهديد بضرب فنزويلا، والتهديد بالسيطرة على جرينلاند، وما إلى ذلك.

على أن هذه السياسة في الهيمنة والتدخل في الصراعات حول العالم تقوم على أساليب انتهاز الفرص لاقتناص الصفقات. فالحقيقة أن ترامب لم ينس أبدًا أنه تاجر عقارات وصفقات تجارية، وراح يدير سياسة أكبر دولة في العالم بهذا المنطق نفسه. التاجر لا يعرف لغة الحوار التي تختلف عن لغة التفاوض، فالتفاوض لا يهدف سوى إلى الحصول على صفقة ما بأقل قدر من الخسائر. وهذه هي سياسة ترامب، وهي سياسة قد تبدت أيضًا في قرارات مصيرية عديدة، منها: سياسة العقوبات وفرض الضرائب على الواردات من الدول بحسب مدى انصياعها للهيمنة الأمريكية، وهي سياسة قد فشلت وكبدت ميزانية أمريكا خسائر طائلة. وروسيا ينبغي إرضاؤها من دون خسارة أوكرانيا باعتبارها مصدرًا للمعادن النفيسة.

وتهديد فنزويلا بالحرب، لا من أجل القضاء على المخدرات، وإنما بهدف الهيمنة عليها وضمان تبعيتها باعتبارها تنطوي على أكبر مخزون نفطي في العالم. وإعادة إعمار غزة بهدف إنشاء ريفيرا جديدة؛ واتفاقية السلام من أجل إعادة رسم فلسطين ديموجرافيًا لمصلحة الكيان الصهيوني الذي هو مجرد ذراع قوية لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط.

ويرتبط الشعور بالعظمة بحالة من العنصرية التي تتحيز للعرق الأبيض على حساب أية أعراق أخرى. تبدى هذا مؤخرًا في القرار الصادم الذي اتخذه ترامب (في أواخر شهر نوفمبر)، الذي يحظر الهجرة من دول العالم الثالث إلى أمريكا، ومراجعة أوراق ملايين المهاجرين من الأعراق الأخرى، بل إنه قام بسب أكثر هؤلاء بأقذع الألفاظ، وبأنهم عالة على أمريكا، من دون وعي أو مراعاة لحقائق تاريخية تتعلق بالدور الفاعل لكثير من المهاجرين في سائر نواحي الدولة، بما في ذلك ما يتعلق بالأمور العلمية. السؤال الذي يبقى هو: هل هذه السياسة الترامبية يمكن أن تؤثر على السياسات العالمية باعتبارها نموذجًا يُحتذى؟ الرأي عندي أن هذه السياسة فاشلة تمامًا؛ فهي وإن كانت تدرك التغير الهائل في موازين القوى الدولية، إلا أنها تتجاهل ذلك باستمرار في اتخاذ قرارتها. وهذا الفشل يتبدى بشكل واضح في تراجع شعبية ترامب نفسه داخل بلده، وفي تراجع مكانة الولايات المتحدة نفسها.

مقالات مشابهة

  • بالفيديو.. ياسر مدخلي لـ"ياهلا بالعرفج": مسرح الخشبة هو الحياة الموازية التي نتمناها ونبحث عنها ونصلح فيها ما نعجز عن إصلاحه في الحياة!
  • مدبولي: من حق المواطن أن ينتقد ولكن ليس حقه الترويج لأكاذيب
  • جيرارد: صلاح أخطأ ولكن ليفربول مازال بحاجة له
  • كارما وزميلاتها وعلقةموت.. معركة لأجل القصاص والبراءة.. من ينتصر؟
  • النهايات والبدايات
  • اتهامات ترامب العقارية لخصومه تنقلب عليه.. ماذا تكشف الوثائق؟
  • هل تكون «الترامبية» نهجًا سياسيًّا؟!
  • سفارة المملكة لدى واشنطن تقيم حفلًا لدعم مبادرة "10KSA" تحت شعار "معًا لأجل الصحة"
  • استجابة من محافظة الجيزة.. ولكن!
  • منافقون.. ولكن ظرفاء!