إذا حوّرنا قليلًا ذلك السؤال الذي طرحه المفكر والباحث الأميركي نعوم تشومسكي: ماذا يريد العم سام؟ وأضفنا له من السودان، فإن الوصول إلى إجابة نهائية لهذا السؤال الخطير تُعيدنا إلى إمعان النظر في طبيعة الإستراتيجية الأميركية إزاء السودان، والتي يبدو أنها تواجه مُعضلة عميقة، وهي عدم فهم ما يجري على الأرض، أو تجاهل ما يقوم به حلفاؤها في المنطقة بدعم أحد الأطراف، هو الدعم السريع تحديدًا، ما يعني دعم استمرار الحرب.
في ديسمبر/ كانون الأول 2021 وبعد قطيعة دبلوماسية لنصف قرن تقريبًا، قامت الولايات المتحدة بتعيين جون غودفري سفيرًا لها في السودان، وسرعان ما انخرط الرجل في محاولات عبثية للتدخل في الشأن السياسي، وفرض جماعة علمانية على رأس السُلطة، لكنه وجد معارضة قوية من التيارات اليمينية، ثم رمى كل ثقله بعد ذلك وراء فولكر بيرتس رئيس البعثة الأممية، بَيد أن الأخير نفسه أخفق في مهمته، وتسبب في تعقيد الأوضاع بصورة كارثيّة.
غادر بيرتس الخرطوم غير مرغوب فيه، وسرعان ما لحقت به البعثة كلها، وفي مرحلة لاحقة اضطر غودفري لتقديم استقالته، لأسباب غامضة، وأسفر خطاب الوداع الذي ألقاه تحت أصوات الرصاص عن سياسة البيت الأبيض المضطربة.
ولعل ذلك السفير شعر بأنه تورّط في إشعال الصراع، أو لم ينجح في مهمته الدبلوماسية، حتى إنه لم يجد الوقت ولا الوسيلة للهروب من نيران القتال الذي فوجئ به على مقربة من مبنى السفارة في ضاحية سوبا، جنوب الخرطوم.
إخلاء مضطربعدم المبالاة أو بالأحرى الفشل الأميركي في استكناه حقيقة الأوضاع الميدانية، جعلَ صحيفة (واشنطن بوست) تسخر من ذلك الإخفاق الدبلوماسي، بما فيه فرار الرعايا الأميركيين في السودان؛ بحثًا عن الأمان.
ووصفت الصحيفة آنذاك جهود الإخلاء المضطربة بأنها ليست سوى الحادث الأخير في سنوات السياسة الأميركية في المنطقة، بما يعزز حقيقة العجز عن رؤية العلامات التحذيرية لاندلاع الصراع بين الجيش والدعم السريع داخل الخرطوم، حتى اصطدمَ آخر رهانات واشنطن، وهي المبادرة الأميركية السعودية، بطريق مسدود، وتهرُّب الدعم السريع، من تنفيذ اتفاق جدة في مايو/ أيار 2023، القاضي بخروج قواتهم من الأعيان المدنية، ووقف إطلاق النار، وقد فشلت واشنطن والرياض في تطوير آليات رقابية، أو إلزام أي من الأطراف المتقاتلة بحماية المدنيين والتوقيع على سلام ينهي معاناة الشعب السوداني.
جنجويد الإمبراطوريةثمة كتاب مثير للجدل أصدره الدكتور والباحث السوداني عشاري محمود، تحت عنوان (جنجويد الإمبراطورية)، وقصد بهم شخصيات أميركية فاعلة في الملف السوداني، أشار إليهم بالاسم: فيكتوريا نولاند وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، ومولي في مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية، وثالثهما جون غودفري السفير الأميركي في السودان، حيث وصفهم دكتور عشاري بـ"الأقانيم الثلاثة المضخمة".
وقال؛ إن خطرهم على السودان والسودانيين يضاهي خطر الجنجويد المعروفين، أي قوات حميدتي، ويعملون على استنقاذ قادة الدعم السريع من الهزيمة، بالضغط على الجيش للذهاب إلى المفاوضات، وتحطيم المؤسسة العسكرية، وإخضاع السودان لهم ولعملائهم بالمنطقة، ثم نهب ثرواته.
لكن التطورات الدرامية التي صاحبت السياسة الخارجية الأميركية تجاه السودان مؤخرًا كانت لافتة للعيان، منها الاستقالة المفاجئة لغودفري، وتعيين اليهودي دانيال روبنشتاين بديلًا له، ثم تعيين (توم بيرييلو) مبعوثًا خاصًا بشأن السودان، ويعني ذلك – عمليًا – سحب ملف السودان من تحت يدي (مولي في) في محاولة أخيرة لاستعادة النفوذ الأميركي في أفريقيا، والإمساك بالخيط الضائع منها، تحت مخالب الدعم الروسي الذي كاد أن يهيمن على أهم موارد السودان، وهو الذهب، وبات جليًا أن من يصل إلى هذا المنجم المُهمل من الثروات هو الفائز في السباق.
الرهان الخاسرمن الواضح أيضًا أن المشرعين الأميركيين مارسوا ضغوطًا عنيفة لإنشاء هذا المنصب، وتوظيف بيرييلو لملء الفراغ الدبلوماسي في المنطقة بتحركات فاعلة على الأرض، تضمن لهم التحكم في مصير هذا البلد، لا سيما أن الولايات المتحدة استثمرت القليل جدًا من الطاقة الدبلوماسية، وخلقت أصواتًا معادية لها وسط العساكر والقوى الإسلامية، الأكثر فاعلية، فضلًا عن أن الرهان على حميدتي، المتهم بارتكاب جرائم حرب، والسعي لإبادة بعض القبائل الأفريقية كالمساليت والفور، سيكلف الحزب الحاكم هنالك أصوات لوبيهات مؤثرة في الانتخابات الأميركية.
لكن بالمقابل التخلي عن فكرة دعم آل دقلو سيكلفهم أيضًا خسارة دولة عربية ثرية، تستثمر مليارات الدولارات في الغرب، وتدعم بصورة جلية قوات الدعم السريع، بل نجحت في شراء أصوات كثير من القادة الأفارقة؛ بهدف تسويق حميدتي كما لو أنه الرئيس الفعلي للسودان.
لم تكتفِ الولايات المتحدة الأميركية باستعداء التيار الإسلامي في السودان فحسب، وإنما تعتبر قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وأركان حربه جنرالات إسلاميين! وقامت بفرض عقوبات على الأمين العام للحركة الإسلامية علي كرتي، في تطابق غير بريء مع رواية الدعم السريع بأن الحرب يقف خلفها (الفلول)؛ أي القوى الإسلامية، والتي اختارت بطوعها القتال إلى جانب القوات النظامية.
لكن المؤكد أن قادة المؤسسة العسكرية الحاليين أبعد ما يكونون عن أي التزامات بنهج الحركة الإسلامية، في المظهر أو الجوهر، وما زالوا يرفضون إطلاق سراح الرئيس المعزول عمر البشير، ويرفضون مشاركة المؤتمر الوطني في الفترة الانتقالية، فضلًا عن أن البرهان قاد بنفسه جهود التطبيع مع إسرائيل، ولا يمكن إطلاقًا أن تكون تلك رغبة الحركة الإسلامية الداعمة للقضية الفلسطينية.
يبدو أن حكومة بايدن تمضي في ذات النهج السابق، الذي عمل على منع وصول الأنظمة الوطنية، أو بالأحرى أصحاب المشروعات الإسلامية إلى السُلطة، حتى ولو تم ذلك بالانتخابات، على حساب أقلية علمانية منبوذة لا تزال تراهن عليها، وتريد فرضها بالقوة وهدم أي تجربة ديمقراطية تأتي بمن لا يطيقونه، وربما فات على العم سام أن العداء الأميركي للشعوب الأفريقية يجلب أصدقاء مثل روسيا والصين وإيران أيضًا.
لا شك أن ازدراء الولايات المتحدة الأميركية، القيمَ الديمقراطية وحقوق الإنسان يصعب أن تجد له مثيلًا، كما قال أحدهم، ويعني ذلك أن الحكومات الأميركية ليست مؤتمنة على مصلحة الشعب السوداني، ولا هي حريصة على الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويمكن أن تدعم قوى الحرية والتغيير أو أي عسكري إذا خضع لها بالمرة، مثلما تدعم حميدتي حاليًا، وتتغاضى عن جرائمه، بتوظيف فئة طائشة من الوحوش الآدميين للقيام بالمهمة، ومن ثم التخلص منهم لاحقًا، بعد انزلاق السودان في أتون الفوضى الخلّاقة، وترتيب الأوضاع، بعد إنهاك كل الأطراف، وفقًا لتصوراتهم الاستعمارية.
ولكن هل ستنجح تلك الخُطة، أم أن إرادة الشعوب هي الأقوى؟
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الولایات المتحدة الدعم السریع فی السودان
إقرأ أيضاً:
الجيش السوداني يوجه ضربة قاصمة لظهر مليشيا الدعم السريع بدارفور
"ضربة قاصمة لظهر مليشيا الدعم السريع" هكذا وصف قادة ميدانيون ومحللون عسكريون تحدثوا للجزيرة نت استعادة الجيش السوداني لمنطقة العطرون الإستراتيجية بولاية شمال دارفور، صباح أمس، مؤكدين أنها تمثل نقطة تحول حاسمة في مسار الحرب التي اندلعت في 15 أبريل/نيسان 2023.
وتتحكم منطقة العطرون الواقعة بمحلية المالحة في أقصى شمال ولاية شمال دارفور بمحور صحراوي حيوي، يربط بين الولاية الشمالية وشمال دارفور، ويمتد نحو المثلث الحدودي الذي يربط السودان وليبيا وتشاد، كما يوجد بها مطار، مما يجعلها نقطة عبور رئيسية للإمدادات العسكرية.
وقال مصطفى تمبور، والي ولاية وسط دارفور، ورئيس حركة تحرير السودان للجزيرة نت إن "الانتصارات الكاسحة التي حققتها القوات المسلحة الباسلة والقوات المساندة في منطقة العطرون الإستراتيجية بشمال دارفور جعلت الطريق سالكا نحو مدينة الفاشر لفك حصارها".
وأفاد أن هذا الانتصار يمهد كثيرا لتقدم القوات نحو ولايات غرب وجنوب وشرق ووسط دارفور، لضمها قريبا لحضن الوطن، وأضاف "نبشر شعبنا الأبي بأن إنهاء التمرد بات قريبا، وكل المؤشرات تدل على ذلك".
قطع خطوط الإمداد
قال معتصم أحمد صالح، الأمين السياسي لحركة العدل والمساواة السودانية، التي شاركت باستعادة منطقة العطرون من قبضة قوات الدعم السريع، للجزيرة نت، إن "استعادة السيطرة على المنطقة من قبل القوات المسلحة السودانية والقوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح -المتحالفة مع الجيش- يُعد تحولا إستراتيجيا في مسار الحرب".
وأفاد بأن فقدان الدعم السريع لمنطقة العطرون يعني حرمانها من أحد أهم خطوط الإمداد اللوجستي، مما يضعف قدرتها على المناورة والتحرك في شمال وغرب دارفور ودعم جيوبها في شمال غرب كردفان.
وأكد معتصم أن القوات المسلحة السودانية والقوة المشتركة تستطيع من خلال السيطرة على منطقة العطرون "مراقبة التحركات العسكرية للمليشيا في المنطقة، وقطع طرق إمدادها القادمة من ليبيا وتشاد، مما يُسهم في تقليص نفوذها في الإقليم".
وقال إن أهمية العطرون كمنطقة إستراتيجية تُحدد موازين القوى في دارفور، "وتُشكل نقطة تحول كبرى ضمن الخطط الرامية لفك الحصار عن الفاشر، وهزيمة قوات الدعم السريع في غرب كردفان، ودحرها في دارفور".
استعادة مباغتة
وأكد نور الدائم طه، مساعد رئيس حركة جيش تحرير السودان، التي يرأسها حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، أن السيطرة على منطقتي المالحة والعطرون تمثل "ضربة إستراتيجية قاصمة" لقوات الدعم السريع ولمن يقف خلفها إقليميا.
وقال نور الدائم الذي شاركت قواته الجيش السوداني باستعادة منطقة العطرون للجزيرة نت، إن هذه المناطق التي تم تحريرها لم تكن مجرد نقاط إمداد، "بل كانت ممرات حيوية لتهريب السلاح، والمرتزقة واستهداف السودان عبر الحدود الليبية".
واعتبر أن ما جرى هو "كسر فعلي لعمود الدعم اللوجستي والاستخباراتي الذي اعتمدت عليه المليشيا، وإغلاق لأحد أخطر المنافذ التي استُخدمت لإغراق السودان بالفوضى"، وأضاف "الرسالة واضحة، وهي أن السودان ليس ساحة مستباحة، والجيش والقوة المشتركة ماضون في حماية الدولة السودانية من الانهيار".
ورأى مراقبون أن الاستعادة المباغتة للجيش السوداني والقوة المشتركة لمنطقة العطرون الإستراتيجية تعني السيطرة بشكل كامل على مفاصل الحركة عبر الصحراء الغربية، وعلى نقطة تجمع المقاتلين القادمين من خارج السودان للقتال بجانب الدعم السريع، وهو ما يمنح القوات المسلحة والقوة المشتركة الأفضلية في الميدان.
سيطرة كاملة
تقع منطقة العطرون في قلب الصحراء بشمال دارفور، وهي أرض منخفضة يوجد بها مطار قديم يصلح لاستقبال طائرات الشحن التجارية والمسافرين. و يرى المحلل العسكري والعميد المتقاعد بالجيش السوداني إبراهيم عقيل مادبو أن هذا الموقع جعل لها بعدا إستراتيجيا، كونها تُشكل ملتقى وتقاطع طرق لـ3 دول.
وقال العميد مادبو للجزيرة نت، إن سيطرة الجيش على المالحة والعطرون تمثل انفتاحا على مناطق الصحراء الأخرى مثل بئر راهب وواحة النخيلة، وقفلا لمنطقة المثلث الحدودي، وإعلانا للسيطرة الكاملة على الصحراء والحدود مع ليبيا.
وأضاف "وبذلك يتم قطع كل طرق الإمداد على المليشيا، التي كانت تستغل عدة بوابات، وتقوم بجلب الإمداد اللوجستي والمرتزقة".
وأشار العقيد المتقاعد إلى أنه "من خلال تتبع خارطة بنك أهداف وضربات طيران الجيش، ونتائج العمليات البرية الخاصة، يتضح أن منظومة وأولوية الاستهداف كانت على موعد مع العديد من التطورات النوعية المهمة".
وتوقّع أن تدفع هذه التطورات قوات الدعم السريع لنقطة "حافة الهاوية والانهيار"، أو لتجريدها ومنعها من تحريك وسحب قواتها من كردفان لحشدها في الفاشر، وذلك عن طريق قطع خط انسحابها التدريجي غير المنظم وغير المحسوب، الذي جاء كأحد ارتدادات التحرك النشط للقوات المسلحة بمحاور كردفان والنيل الأبيض وأم درمان.
تأمين الولاية الشمالية
اعتبر قادة ميدانيون تحدثوا للجزيرة نت، أن استعادة منطقة العطرون في المثلث الحدودي شديد الأهمية بين السودان وليبيا وتشاد، تضيّق الخناق على قوات الدعم السريع وتمهد الطريق أمام تحرير كامل إقليم دارفور.
وحسب بيان للعقيد أحمد حسين، المتحدث الرسمي باسم القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح فإن "تحرير منطقة العطرون الإستراتيجية يُعد إنجازا عظيما، تم نتيجة عملية عسكرية دقيقة ومنسقة نفذتها القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح، بالتعاون مع القوات المسلحة السودانية".
وأضاف البيان أن "تحرير منطقة العطرون كبّد العدو خسائر فادحة بالأرواح والعتاد، ويمثل خطوة حاسمة في سبيل استعادة الأمن والاستقرار في إقليم دارفور، ويعكس التزامنا الراسخ بحماية المدنيين وتأمين الأراضي السودانية".
ويرى عسكريون أن تحرير العطرون يسهم في تعزيز تأمين الولاية الشمالية من الهجوم الذي توعدت به الدعم السريع على مدينة الدبة، بعد تجميع "المرتزقة" في العطرون، لأن ظهرها سيكون مكشوفا أمام ضربات الجيش السوداني والقوة المشتركة لو غامرت بالتفكير في الهجوم على الشمالية.