إذ كان الأمرُ كذلك، فما أوفر المُختالين من القُصّاص والقصّاصين، فنظرا إلى أنّه من العسير إيجاد قاصّ أمير أو مأمور بإتيان القصص من قِبَل آمرٍ، فإنّ أغلب القُصّاص واقعون في دائرة الاختيال، والاختيالُ كما تُجمع المعاجم على حدّه هو التكبُّر والتبختر والزهوّ والتيه والذهاب بالنفس مذهب العلوّ والرفعة، «إن اللّه لا يُحبّ كلّ مختال فخور».
لقد عنيتُ توظيف حديث أُخرِج عن سياقه الشرعيّ في وسْم القُصّاص وتحديد منازلهم حتّى أعرض لظاهرة القُصّاص والحكّائين، لا للقصّة والحكاية في حدّ ذاتها. قلتُ إنّ الحديث خارجٌ عن سياقه وعن مقامه التاريخيّ لعلّة في نفسي أُبْديها، فأمّا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو الحديث الذي رواه عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقصّ إلا أمير أو مأمور أو مختال»، والذي وظّفه الفقهاء في لاحق الزمان لمنْع ظاهرة انتشار القُصّاص في العصر العبّاسي، وللوقوف ضدّهم، وفق سياقٍ كان فيه القصص عالقا بالتأريخ وبصدق الحكاية، صدورا عن قصص أصليّ مطلق الصدق وهو القصص القرآنيّ، الذي لا ينبغي أن يُجانَب بقَصص آخر، ويجب أن يبقى هو الصورة الوحيدة الحاملة للصدق والحق. أمّا في زماننا، فإنّ للقصّة مفهوما مختلفا، فهي التخييل، وهي الممكن، وهي الحكيُ الخارج عن مطابقة الواقع، الصادر بالضرورة عن واقع. القُصّاص في زماننا ليسوا القُصّاص في زمنٍ كان، وأدوارهم بالضرورة اختلفت، ولكن ممّا لا ريب فيه أنّ صلةً جامعة بين اختال واختلّ، وبين المختال والمختلّ، هي صلة صوتية في الدلالة المعجميّة وهي صلة نفسيّة تأويليّة في الدلالة السياقية المقامية. عندما عدت إلى لسان العرب باحثا عن معنى الختل فوجدته «الخداع عن غفلةٍ»، معانٍ تتراكم قد تُبْعدنا عن مقصود المعنى، فيكفينا من القاصّ ختلا معنيين، التباهي والجنون، فأمّا التباهي فإنّ «عُقدة الأدب» تصنع في العادة شخصيّة متعالية، متباهية بنبوّتها، وبيقينها امتلاك بصيرة ورؤية، وهي الصفة الأدبيّة التي شفّ عنها المتنبي في مقام مغاير عندما قال: «أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي/ أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي/ وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الـ/ لاهُ وَما لَم يَخلُقِ/ مُحتَقَرٌ في هِمَّتي/ كَشَعرَةٍ في مَفرِقي»، وأمّا الجنون فهو بابٌ من أبوابٍ قليلة يتأطّر فيها عامّة الداخل في
عالم الأدب في هيْأته وفي حركته وفي كلامه، وفي تمثّل المجتمع له. عودا إلى أصل الموضوع، إنّ صورة القصّاص في عالمنا العربيّ جامعة بين «الرجم بالغيب»، فهو مالك عالم الأحلام، ومهندسُ عوالم الخيال، له القُدرة على صياغة عوالم ممكنة، لم تُوجَد على وجه الإحالة والإرجاع، ولكن قد تُوجَد على وجه الإمكان، في ما ينعته الفلاسفة بالوجود بالقوّة مقابلا للوجود بالفعل، فعالم القصّاص هو عالم الوجود بالقوّة، عالمٌ افتراضيّ، يقيم فيه ممالك، ويُسْقِط ملوكا وشعوبا وحضارات، يُحيي شخصيّات ويُميتهم، يبني دورا ويهدمها، عالم ممكن باللّغة يُصنَعُ وبالخيال تُقَام عناصره وبالقصص يكون جوهره. ينبغي أن يكون القاصّ مختلاّ ومختالا، إذ يعجز أن يكون آمرا أو مأمورا، فلا صاحبَ أمرٍ له فراغٌ للخيال والقصص، ولا يقبل القاصّ عموما أن يكون مأمورا، فوجب أن يكون مختالا ومختلاّ، يجب أن يفقد عقله الواعي المُدرِك، العقل المنطقي، ليُعْمل العقل السرديّ، عقل المتخيّل الذي يشدّ إليه النافر من عالم اليقين، الهارب إلى عالم الظنّ والتأويل، فهل الذي بنى «مُدن الملح» في القصص قبل أن تُبْنى في واقع الحياة هو شخص غير مختل وغير مختال؟ ينبغي أن يكون منيف مزهوّا نافرا ريشه بالعالم الذي بناه، بالمدن الملحيّة التي أقامها، ولو لم يكن له عقلٌ مختلّ، لا ينظر إلى الأشياء كما ينظر إليها عامّة النّاس، لما استطاع أن يدخل سرد العوالم الممكنة، ولبقي في السرد الحرفيّ الذي يدخل فيه الشقّ الأوفر من قصّاصي اليوم، الساردون في زماننا هو -في أغلبهم- لا يرتقون لمنزلة قصّاص القرية، أو حكّاء السمر، فهم يعيدون إنتاج الواقع رصدا وتتبّعا. القاصّ الحقّ هو ليس محضَ راوٍ يعيد إنتاج الحكايات أو يتلقّف القصص ليكتبها بلغة يُبدي فيها تيهه اللّغوي والبلاغي، القاصّ الحقّ هو متبصّر، له رؤية خارقة، مختلٌّ في حسبان ميزان العقل، كما اتّهم غاليلي بالاختلال، وكما اتّهم نيوتن بالاختلال، القاصّ في جوهره لا يخرج عن هذه الدائرة التي يُنْكَر فيها المرء بسبب أفكاره أو قصصه أو علمه، يجب أن يتوقّف هذا السيل السرديّ القصصيّ اليوميّ ليترك المجال لأصوات قد نتوه عن عمقها، وهي تُبدي رؤيتها القصصية للكون، وهي تحكي المُقبل، وتحكي الحالّ بعينٍ لا يمتلكها عامّة النّاس.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية:
أن یکون
إقرأ أيضاً:
حفظ الأوراح أمانة.. عالم أزهري: الالتزام بقانون المرور واجب شرعي
قال الدكتور هاني تمام، أستاذ الفقه المساعد بجامعة الأزهر، إن من المقاصد الكبرى في الشريعة الإسلامية حفظ النفس، مؤكدًا أن الحفاظ على أرواح الناس ليس مجرد واجب اجتماعي، بل هو أمر شرعي ثابت بالأدلة القطعية من القرآن والسنة، وهو ما يحتم على كل إنسان أن يلتزم بكل وسيلة تحقّق هذا المقصد، ومن أبرزها الالتزام بقواعد المرور.
الالتزام بقانون
المرور واجب شرعي
وأضاف الدكتور تمام، في تصريح له، أن الالتزام بقانون المرور واجب شرعي، لأن تركه يؤدي إلى إهلاك النفس والآخرين، وهو ما حرمه الله بقوله: "ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، وبيّن أن وسائل الحفاظ على النفس تأخذ حكم الغايات، مستشهدًا بالقاعدة الفقهية: "للوسائل أحكام المقاصد".
هل يجوز إخراج الزكاة للمدين المسرف إذا عجز عن سداد دينه؟.. الإفتاء تجيب
هل يجوز إلقاء بقايا الطعام في القمامة؟.. الإفتاء تجيب
الاستعراض بالدراجات النارية
وأوضح أن التصرفات الطائشة على الطرق، مثل الاستعراض بالدراجات النارية أو القيادة المتهورة، لا تُعد حرية شخصية، بل تمثل تهديدًا مباشرًا لحياة الناس، ومن رآها فعليه أن يتدخل بما يقدر عليه من وسائل، مثل الاتصال بالنجدة أو توثيق المخالفة وإبلاغ الجهات المختصة.
وشدد الدكتور هاني تمام، على أن الشريعة تقرر مبدأ "يُرتكب الضرر الخاص لدفع الضرر العام"، كما في حالات تدخل رجال الإطفاء أو الجنود الذين يضحون بأنفسهم لحماية الآخرين، مؤكدًا أن كل من يسهم في منع ضرر عن الناس – حتى بالوسائل البسيطة – ينال الأجر والثواب، لأنه شارك في حفظ أرواح معصومة.
الطرق أمانة والأرواح أمانة
وتابع: "إن الطرق أمانة، والأرواح التي تسير عليها أمانة، ولا يجوز شرعًا التهاون في ما يؤدي إلى الإضرار بها، فالالتزام بقوانين المرور ليس مجرد احترام للنظام، بل هو عبادة يؤجر عليها العبد، ويأثم إن تركها وأهملها".

طباعة شارك الالتزام بقانون المرور واجب شرعي حكم الالتزام بقانون المرور الدكتور هاني
تمام هاني تمام