د. نازك حامد الهاشمي
تُعد الهشاشة والصراع والعنف من أبرز التحديات العالمية الجديدة، التي قد تنتج عن عدم الاستقرار والحروب الأهلية وتعاقب الكوارث المناخية الأخرى. وتفضي الهشاشة والصراع والعنف في الغالب إلى سلسلة من المخاطر المتداخلة التي يظهر انعكاسها على الأوضاع الاقتصادية بصورة مباشرة. ودائما ما يتسبب عدم الاستقرار السياسي الى انتقال الهشاشة عبر الحدود، خاصة من الدول المجاورة، مما يؤدي إلى نزوح السكان، وخلق أزمات مختلفة للاجئين، بالإضافة إلى العديد من الجرائم العابرة للحدود.

وكل هذا وغيره من العوامل التي تضاعف من تعقيدات الأمن والسلم على المستويات المحلية والإقليمية وحتى الدولية.
وتعد السمة المميزة لهشاشة الدولة هي انخفاض مستويات قدرتها على تنفيذ مهامها ومسؤولياتها الرئيسية. وهنالك أبعاد لقياس الهشاشة التي تستخدم وتتمثل في العنف، والعدالة، والمؤسسات، والأسس الاقتصادية، والقدرة على الصمود في وجه الكوارث والأزمات. ويمكن أن تختلف نوعية تلك الهشاشة من دولة لأخرى. ودائما ما تعتبر القارة الافريقية خير مثال للمناطق المتأثرة بالصراع والهشاشة. وتواجه البلدان فيها، خاصة تلك التي عانت من هشاشة طويلة الأمد، نسبةً عالية من الفقر، وانعداماً للأمن الغذائي، وضعفاً كبيراً في البنية التحتية والخدمات العامة، وانكماشاً في تنوع الاقتصاد فيها، وعجزاً مؤسسياً كبيراً بها، مع انعدام مبادئ الحكم الرشيد فيها. وكل هذا يجعل تلك البلدان عرضةً لأزمات متعددة من أهمها الصراعات الداخلية وعدم الاستقرار السياسي والأمني. وفقاً لتقرير صادر من البنك الدولي (في أبريل 2023م) ذكر فيه أنه بحلول عام 2030م، ستشكل البلدان المتأثرة بأوضاع الهشاشة والصراع والعنف ما يقدر بنحو 59٪ من الفقراء المدقعين في العالم.
ومن أهم الانعكاسات السالبة على الاقتصاد، ما تحدثه الاضطرابات والصراعات من تأثيرات كبيرة على حركة السلع الأولية والتوريد بين الدول، خاصة في مناطق التوترات الجيوسياسية، ولا سيما في أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. وهذا ما يتسبب في ارتفاع تكاليف الشحن بين القارات. وترتفع أسعار السلع وتظل متقلبة، وقد تزداد الضغوط على الأسعار لتنعكس على أسعار الخدمات أيضا وبقية النشاطات الاقتصادية الأخرى التي من أهمها أسعار الفائدة. وسترتفع في هذه الحالات أسعار الفائدة طويلة الأجل، وهذا مما من شأنه زيادة الضغوط على الحكومات لكي تستمر في ضبط وتعديل مستمر للمالية العامة، وهو مما قد يؤثر بدوره سلباً على النمو الاقتصادي.
ومن الأمثلة الحديثة على ما ذكرنا آنفاً، هي التعديلات التي تمت في مسار الشحنات العالمية مؤخرا بسبب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر التي دفعت إلى تحويل مسار الشحنات لتدور حول إفريقيا. ويتضح من ذلك أن انعدام الاستقرار الجيو- اقتصادي بات هو المعطى الجديد في العلاقات الدولية، وهو مرهون باستمرار هذه التوترات في التصاعد. وذكر العديد من الخبراء الاقتصادين أن أزمة البحر الأحمر القائمة الآن تعمق من المخاوف العالمية من ترجيح عودة التضخم للارتفاع مجددا في حال استمرارها. حيث إن انقطاع شبكات الإمداد وتقلبات أسواق الطاقة هو من المعطيات الجديدة في المنافسة الدولية، وهو الأمر الذي يتطلب من العالم ضرورة التكيف معه.
ومن المعلوم أن البحر الأحمر يكتسب أهمية جيو - إستراتيجية مميزة، إلى جانب موقعه الرابط بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبه نقاط إستراتيجية عديدة، منها قناة السويس ومضيق باب المندب. ويعد المعبران من أهم المعابر الاستراتيجية، وقد شكلا البعد الجيو - إستراتيجي للبحر الأحمر، حيث ارتبط وجودهما بتمثيل خط الملاحة الأقصر والأقل تكلفة بين شرق آسيا وأفريقيا وأوروبا، وصار أكثر الطرق التجارية حيويةً في العالم. كذلك تأتي أهمية البحر الأحمر كونه المنفذ البحري الوحيد للعديد من الدول مثل الأردن والسودان وإريتريا وجيبوتي. كذلك تكمن الأهمية الأمنية والعسكرية للبحر الأحمر كونه يعتبر ممراً إستراتيجياً لحركة الأساطيل الحربية بين البحر المتوسط والمحيط الهندي وأفريقيا، لذلك ظل موقعاً للصراع الإقليمي والدولي.
ومعلوم أيضاً أن السودان يمتلك واحداً من أكبر الموانئ على ساحل البحر الأحمر؛ ويعد ميناء بورتسودان إحدى أكبر وسائل النقل البحري إقليمياً ودولياً، ويعود تاريخ إنشائه إلى عام1909م. كما توجد بالسودان عدداً من الجزر على البحر لاحمر تبلغ نحو 36 جزيرة، وأهمها مجموعة جزر سواكن، إلا أن السودان لم يحسن استغلالها اقتصاديا. ومن المؤكد كذلك أن البحر الأحمر يحتوي على ثروة قيمة من الموارد المعدنية والحياة البيولوجية والشعاب المرجانية بالإضافة لثروة سمكية كبيرة، والكثير من المنتجات التي يمكن استخلاصها لصناعة الأدوية والمنتجات الطبيعية. وكان من الممكن أن تمثل تلك الثروات البحرية رافدا اقتصاديا مهما، كان له أن يعمل على دعم اقتصاد الدولة. وبالإضافة لتك الثروات البحرية هناك مجال لازدهار الاقتصاد السياحي في البحر الأحمر، إذ أن به بيئة جاذبة للسياحة يمكن الاستفادة منها مثلما فعلت بعض دول الجوار في شواطئها المطلة على البحر الأحمر وأقامت مدن سياحية به.
ويعد افتقاد التنوع في الاقتصاد إحدى أكبر مشاكل تحقيق الاستدامة في التنمية. وللابتكار والتنوع دور محوري في النمو الاقتصادي، حيث يؤديان إلى تطوير المنتجات والخدمات الجديدة، ويعملان على خلق فرص عمل جديدة، ويزيدان من الدخل والثروة. ولذلك تعد الطاقة من المشروعات الداعمة للنمو الاقتصادي في الدول النامية خاصة الدول الافريقية، وواحدة من أهم الموارد الاقتصادية الداعمة للتنوع الاقتصادي. وكان بنك التنمية الافريقي قد قام في عام 2019م بإطلاق مبادرة "من الصحراء إلى الطاقة"، للاستفادة من إمكانات الطاقة الشمسية في 11 دولة في منطقة الساحل (بوركينا فاسو، تشاد، جيبوتي، إريتريا، إثيوبيا، مالي، موريتانيا، النيجر، نيجيريا، السنغال، والسودان) من خلال الاستثمار في إنتاج الطاقة الشمسية وتوفير الوصول إلى الكهرباء. وظل هدف تلك المبادرة هو زيادة القدرة على إنتاج الطاقة الشمسية بمقدار 10 جيجاوات من عام 2019م وحتى عام 2030م، من خلال المشاريع العامة والخاصة، داخل وخارج الشبكة، وذلك لتزويد 250 مليون شخص بإمكانية الوصول إلى الكهرباء. غير أن السودان، فيما يبدو، لم يستفد من تلك المبادرة بالصورة المطلوبة (https://www.afdb.org/en/search/content/sudan)
ومعلوم أن السودان يتمتع برأس مال طبيعي وقوي، ويزخر بكم هائل من الموارد الطبيعية، بما في ذلك الأراضي الصالحة للزراعة والثروة الحيوانية والمعادن وغيرها. وتشير جل الدراسات والتقارير إلى أن السودان يعوقه نقص التمويل حتى يستطيع تسخير هذه الموارد لتحقيق التحول الاقتصادي. وهذا النقص يسير متلازما مع إهمال التخطيط المستقبلي، مثل قضايا وسياسات تغير المناخ، حيث يواجه السودان تدهوراً في حالة الأراضي وارتفاع درجات الحرارة وحالات متكررة للجفاف والفيضانات، وعدم انتظام هطول الأمطار، الأمر الذي ينتج عنه عادةً انخفاض في الإنتاج الزراعي. وأفضى كل ذلك إلى تباطؤ النمو في الناتج المحلي الإجمالي. وكذلك تعمل فجوة تمويل المناخ على الحد من قدرة الدولة على بناء إستراتيجيات للتكيف مع تغير المناخ. كما ورد في تقرير مجموعة بنك التنمية الافريقي أن نسبة البطالة في السودان كانت قد بلغت 20.6% عام 2022م، وعزا التقرير تلك النسبة المرتفعة بصورة جزئية إلى انخفاض النشاط الاقتصادي بسبب عدم الاستقرار السياسي. وكانت التوقعات المستقبلية تشير إلى تحسن نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.0% في عام 2023 م، و3.8% في عام 2024م في حال حدوث استقرار سياسي في السودان.، وكان من المتوقع أيضاً أن يكون النمو مدفوعا بالزراعة والتعدين في جانب العرض، وبزيادة الاستهلاك الخاص والاستثمار في جانب الطلب.
وعند الاطلاع على تجارب الدول التي كانت قد عانت من الحروب الأهلية والصراعات الداخلية تبقى مشاركة الخبرة البشرية من أهم العوامل المفيدة والملهمة للغاية، ومن أجل المعرفة والاسترشاد بكيفية إعادة بناء المجتمع والدولة. وتعد دولة رواندا خير مثال للخروج من الازمات الاقتصادية في إفريقيا، وذلك عقب سنوات طويلة وعنيفة من الحرب الأهلية والصراعات الداخلية، حيث استطاعت إعادة هيكلة وبناء الدولة، عبر عدد من الآليات والإستراتيجيات، واتبعت فيها تلك الدولة (التي لا تزيد مساحتها عن 26,33 كـم2 وسكانها عن نحو 13 مليون نسمة) أسرع الطرق في التنمية باستخدام التقنية في التعليم، وعبر تأسيس لقاعدة بيانات بعد إنشاء أول قمر اصطناعي بها، سهل توفير بيانات دقيقة تدعم الخطط والدراسة لمشروعات التنمية في مجالات عدة أهمها جمع البيانات حول موارد المياه والكوارث الطبيعية والزراعة والأرصاد الجوي. كذلك ساهمت التكنولوجيا في دعم نظام حكومة رواندا الإلكترونية. وكانت مرحلة التحول نحو النماء بالضرورة إطلاق عدد من الإصلاحات الاقتصادية الراسخة لدعم بناء الاقتصاد الجديد لرواندا، من خلال إعادة صياغة قوانين الضرائب، وإعادة هيكلة السياسة النقدية لخفض التضخم الذي كان يقضي على كافة أدوات التنمية. كما هدفت سياساتها في مدى أول داعم لتكوين الثروات، وفي مدى آخر إلى تقليل الاعتماد على المعونات والقروض الدولية. وهذا ما مكنها من خلق طبقة وسطى منتجة ومتعلمة تعمل على خلق وتعزيز التنمية وتساهم في تطوير اقتصاد البلاد. كذلك بالطبع اتبعت الدولة السياسات وسنت القوانين التي تعزز من المصالحة الأهلية والتماسك والسلم المجتمعي.
ومعلوم أنه مع كل أزمة تظهر فرصا للإصلاح. ورغم وجود إقرارٍ عالمي واضح عند الاستجابة للأزمات، بأن هنالك تداخلا للعلاقات بين العمل الإنساني والتنمية والعمل الدبلوماسي وحتى الأمني، فإن التركيز على الاستثمارات الطويلة الأجل يعتبر واحداً من الحلول الضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية، ولمنع تجدد الصراعات، فلا يمكن تحقيق سلام دائم دون إحراز تقدم مستدام نحو الاستقرار والرخاء، ودون اتخاذ قرارات تفضي إلى التوازن بين الاحتياجات الأمنية قصيرة الأجل، والاحتياج إلى التنمية طويلة الأجل، حيث إن نقص الأمن، وانعدام الاستقرار، وعدم توفر فرص العمل، والفساد، وضعف تقديم الخدمات يعتبر من بين أهم المخاطر التي تعيق النمو الطويل الأجل. ويتطلب ذلك تحقيق مستويات عالية من النمو المتنوع الذي يسير متوازيا مع تحقيق السلام والاستقرار ومستويات معيشة أفضل للسكان.
وللتحرر من واقع الهشاشة سواءً أكانت اقتصادية أو أمنية لا بد من مسار شامل لاستراتيجية قومية موحدة،
يستعان فيها بالجهات الفاعلة في مجالات التنمية، بوضع برامج تمكنها من القيام بدعم النمو الاقتصادي، وتحسين الحوكمة وعمل المؤسسات التي تشكل أساس الاستقرار. وبما أن العالم يشهد عدداً من التوترات الدولية والمخاطر الجيوسياسية، فإن ذلك يستوجب كذلك وضع إطاراً تشخيصياً للتجارة وتقييماً لإمكانات الدول للاستفادة من التكامل التجاري والإقليمي، بالإضافة للتعاون العابر للحدود، وهو أمر أساسي للحد من الصراعات ولتحقيق النمو والاستقرار.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: البحر الأحمر أن السودان من أهم

إقرأ أيضاً:

إثيوبيا والوصول إلى البحر الأحمر

يعد البحر الأحمر أهم نقطة اختناق بحرية تربط اقتصادات آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، ويشكل طريقا اقتصاديا عالميا تمر عبره ما بين 12% و15% من إجمالي التجارة الدولية، فضلا عن كونه ممرا حيويا للبنية التحتية الرقمية.

ومن المتوقع أن تتزايد أهمية هذا الممر البحري والتجاري في المستقبل، مما يعزز من مكانته الإستراتيجية على الصعيد العالمي.
غير أن انزلاقه مؤخرا نحو حالة من عدم الاستقرار، نتيجة للصراعات بالوكالة والتنافسات الإقليمية الكامنة، يشكل تهديدا جوهريا لسلاسل الإمداد العالمية، وللأمن والاستقرار الدوليين.
ولتأمين هذه الساحة الحيوية، لا بد من التخلي عن الديناميكيات الصفرية الراهنة، لصالح توازن إقليمي جديد ومستقر.

يتناول هذا المقال العوامل الحاسمة التي تعرفها ساحة البحر الأحمر: أهميتها العالمية، وتأثير هشاشة الدول، والاحتياجات الوجودية لأكبر دولة في القرن الأفريقي، ويطرح أن تسوية سياسية تدمج حاجة إثيوبيا الحديثة ومتسارعة النمو إلى منفذ بحري دائم ومتوقع، تمثل المسار الأكثر واقعية نحو الاستقرار طويل الأمد ومستقبل تعاوني مستدام.

البحر الأحمر: شريان اقتصادي ورقمي عالمي

تعد القيمة الإستراتيجية للبحر الأحمر غير قابلة للتفاوض. فهو لا يمثل مجرد شريان للتجارة العالمية، بل يعد أيضا ممرا رقميا لا غنى عنه، إذ يحتضن قاعه البحري كثافة هائلة من كابلات الألياف الضوئية التي تمكن من إجراء معاملات مالية ومعلوماتية تقدر بتريليونات الدولارات يوميا. وأي اضطراب في هذا الممر لا يعد مجرد عائق تجاري، بل هو هجوم مباشر على الاتصال العالمي والأمن المالي.

هذا الموقع الجغرافي، الذي يربط ثلاث قارات، منها آسيا، وأفريقيا الأسرع نموا، ويقطنهما أكثر من نصف سكان العالم، يضع المنطقة في قلب إسقاط القوة العالمية، لا سيما من خلال مبادرات مثل "الحزام والطريق" الصينية، التي تعتمد بشكل كبير على المرور الآمن عبر شمال البحر الأحمر. لذا، يعد البحر الأحمر كيانا جيوسياسيا تتحول فيه الاضطرابات المحلية فورا إلى مخاطر نظامية عالمية.

إثيوبيا وسعيها للوصول إلى البحر

تواجه إثيوبيا، الدولة التي يزيد عدد سكانها عن 130 مليون نسمة (ومن المتوقع أن يصل إلى 200 مليون خلال عقود)، وواحدة من أسرع الاقتصادات نموا في أفريقيا، عبئا اقتصاديا وجوديا، كونها أكبر دولة غير ساحلية في العالم.
وسياستها المعلنة- ضرورة الوصول إلى البحر- ليست نزعة إمبراطورية، بل ضرورة جغرافية للنمو الوطني المستدام والأمن القومي.
تعتمد إثيوبيا حاليا على ميناء واحد مزدحم (غالبا جيبوتي)، ما يضطرها إلى إنفاق نحو ملياري دولار سنويا على رسوم العبور والخدمات اللوجيستية، وهو رقم يستنزف من احتياطاتها من العملات الصعبة وعائدات التصدير، ويعد بمثابة ضريبة هيكلية على الاقتصاد بأكمله، تعيق التصنيع وتحدّ من جهود الحد من الفقر.

إعلان

تسعى إثيوبيا للوصول إلى البحر عبر ثلاثة مسارات:

المسار القانوني والسياسي والدبلوماسي: عبر اتفاقيات ثنائية طويلة الأمد تحظى باعتراف دولي. المسار التجاري: من خلال عقود تأجير موانئ أو ملكية جزئية، استنادا إلى الحقوق القانونية الدولية للدول غير الساحلية. الخيار العسكري: وهو ما يعكس شعورا عميقا بالهشاشة والتصميم الوطني على حل هذه المسألة، وهو تهديد يجب احتواؤه عبر حل إقليمي شامل.

إن مطلب إثيوبيا مبرر ليس فقط تاريخيا، بل أيضا بحجمها الاقتصادي والديمغرافي الهائل، ما يجعل الوصول إلى البحر ضرورة وجودية لا يمكن تجاهلها في أي تصور للاستقرار الإقليمي.

هشاشة الدولة والعامل الإريتري

على الجانب الآخر، تشكل البنية السياسية الداخلية لإريتريا عنصرا حاسما في الهشاشة غير المتوقعة في معادلة البحر الأحمر. فرغم ادعاءات الاستقرار، تعد إريتريا دولة عسكرية استبدادية، تفتقر إلى مؤسسات سياسية فاعلة، وتدار عبر جهاز أمني واسع. ذا الغياب للقدرة على امتصاص الصدمات- اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا- يجعلها شديدة الهشاشة أمام الاضطرابات الداخلية والضغوط الخارجية.
تحكمها طموحات زائدة، وتتبنى سياسات تؤدي إلى:

الانخراط في صراعات دائمة عبر تعبئة الموارد البشرية وغيرها للحروب أو عبر وكلاء. العمل كوكيل لقوى إقليمية كبرى تسعى للسيطرة الكاملة على البحر الأحمر.

كلا الخيارين يعد مصدرا دائما لعدم الاستقرار، بما يشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي الإثيوبي. فالبحر الأحمر قضية أمن قومي لإثيوبيا، ولا يمكن ترك إدارته لقوى أخرى. لذا، لن تقبل إثيوبيا نتائج السياسات الإريترية الحالية، ويجب إيجاد خيار ثالث يضمن السلام والأمن بين البلدين وفي ساحة البحر الأحمر الأوسع.
إضافة إلى ذلك، تواجه إريتريا انقسامات داخلية بين سكان الساحل والمرتفعات، وتغيرات ديمغرافية نتيجة هجرة جماعية للشباب.

وقد يؤدي رحيل أو خلافة "الدكتاتور الحالي" إلى فوضى سياسية، تفتح الباب لتدخلات خارجية، وتحول البلاد إلى ساحة صراع بالوكالة على حدود أحد أهم الممرات البحرية في العالم. فالدولة الساحلية الهشة تعد تهديدا مباشرا للملاحة المستقرة.

خطر التنافس الجيوسياسي

تغري هشاشة دول القرن الأفريقي الساحلية القوى الدولية بالتدخل. وقد تحولت منطقة البحر الأحمر إلى مسرح لصراعات بالوكالة، تقودها دول قوية في الإقليم.

يتوزّع النفوذ على الضفتين الشرقية والغربية للبحر الأحمر بين قوى إقليمية ذات امتدادات ساحلية واسعة وأخرى تمتلك حضوراً فاعلاً عبر أطراف محلية متحالفة معها. وفي المقابل، تشهد الضفة الغربية للأقليم انتشاراً مكثفاً لقواعد عسكرية تابعة لقوى دولية متعددة، ما يعكس الأهمية الجيوسياسية المتصاعدة للمنطقة بوصفها نقطة تنافس محوري بين الفاعلين الإقليميين والدوليين.

هذا النشاط بالوكالة يفاقم التوترات المحلية، ويحول النزاعات الداخلية والخلافات الحدودية إلى صراعات دولية ضخمة.

المنطقة الساحلية المتنازع عليها

وهي منطقة في جنوب البحر الأحمر، يسكنها شعب العفر، الذي تربطه روابط ثقافية وعشائرية بإثيوبيا. وتمتد هذه المنطقة من جنوب ميناء مصوع إلى ميناء عصب، بطول 600 كيلومتر وعرض 60 كيلومترا من الحدود الإثيوبية، وتعرف باسم "منطقة دنكاليا" في إريتريا. وهي منطقة قليلة السكان، وتعد امتدادا طبيعيا لإثيوبيا.
استمرار سياسة حرمان إثيوبيا من منفذ بحري دائم ومتوقع، سيؤدي إلى صراعات داخلية مستمرة، وحروب إقليمية، وعدم استقرار دائم.

إعلان

وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى الحملة التي تقودها مصر للحدّ من تمدد النفوذ الإثيوبي نحو البحر بوصفها جزءًا من التفاعلات الإقليمية الحسّاسة.

الطريق نحو توازن جديد وسلام مستدام

يتطلب تحقيق السلام والاستقرار الإقليمي ترتيبا سياسيا يعترف بضرورة تمكين إثيوبيا ومنحها وصولا متنوعا إلى البحر، لتكون ركيزة أساسية في هيكل الأمن الإقليمي.

فإثيوبيا، بحجم اقتصادها وسكانها وجغرافيتها، تعد شريكا أكثر موثوقية من دول صغيرة وهشة واستبدادية، ومرساة استقرار وتعاون إقليمي.
كما لا يمكن لدولة بحجم إثيوبيا وتنوعها الثقافي أن تحكم إلى الأبد بنظام مركزي استبدادي. عوامل النمو ستدفع نحو اللامركزية، وهي عنصر أساسي في الحكم الديمقراطي، وتهيئ لتوزيع عادل للثروة وتقدم اقتصادي مستدام.

ولتكون إثيوبيا مرساة للسلام في ساحة البحر الأحمر، يجب أن تحل تحدياتها الأمنية الداخلية سلميا، وتركز على التنمية الاقتصادية والحكم الديمقراطي. ويجب إعطاء الأولوية القصوى لحل قضية تيغراي وفق اتفاق بريتوريا لوقف الأعمال العدائية، ومنع الحكومة الإريترية من أي إمكانية لشن حرب بالوكالة.

نتيجة رابحة للجميع

من خلال دمج احتياجات إثيوبيا في ترتيب متبادل المنفعة، يضمن وصولا دائما إلى البحر يحظى باعتراف دولي، يمكن للمنطقة أن تنتقل من التنافس إلى التعاون.

وبذلك تحصل إثيوبيا على شريان الحياة الذي تحتاجه؛ وتكسب الدول الساحلية مليارات الدولارات من الاستثمارات ورسوم العبور والتنمية الاقتصادية المشتركة؛ بينما تنعم الأسرة الدولية ببحر أحمر أكثر أمنا واستقرارا.

إن إثيوبيا المسالمة، ذات الحكم الديمقراطي، والمتكاملة اقتصاديا، تمتلك القدرة على إرساء توازن جديد ودائم في ساحة البحر الأحمر، وترسيخ أجندة السلام والأمن في البحر الأحمر لعقود قادمة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • السودان يعرض على روسيا قاعدة بحرية استراتيجية.. ما المقابل؟
  • فيصل بن حارب لـ"الرؤية": مخرجات "القمة الخليجية" تُشكِّل إطارًا مُتكاملًا لتعزيز أمن الخليج ودعم التنمية
  • مُحافظ البنك المركزي السعودي: "ميزانية 2026" تستهدف تعزيز النمو الاقتصادي المستدام للمملكة
  • وزارة التنمية: المساعدات التي تدخل غزة تمثل ثلث احتياجاتها فقط
  • السودان: عودة الحكومة إلى الخرطوم.. بين إعادة الاستقرار والسعي لتحقيق مكاسب سياسية
  • حملات مكثفة لمياه البحر الأحمر: تشديد الإجراءات القانونية لضبط حالات إهدار المياه والتعدي على الشبكات
  • السودان يقدم عرضا لموسكو لإقامة قاعدة روسية على البحر الأحمر وامتيازات تعدين مقابل الحصول على انظمة دفاعية جوية
  • وول ستريت جورنال: السودان يعرض على روسيا أول قاعدة بحرية لها في أفريقيا
  • “تكالة” يبحث مستجدات الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية
  • إثيوبيا والوصول إلى البحر الأحمر