من أجل ضحايا الحروب المنسية
تاريخ النشر: 19th, March 2024 GMT
آخر تحديث: 19 مارس 2024 - 11:09 صبقلم: فاروق يوسف أقسى ما في الحروب أنها تتعرض لماكينة النسيان. ولكن هناك مَن يعتقد أن علينا ألا نبالغ في التذكير بالحروب. وهنا يمكن القول إن صفة “المبالغة” فيها الكثير من القسوة والظلم. ذلك لأنها تضع البشر في ميزان ينبغي ألا يكون مقياسا لمعاناتهم. فحين تكون الحرب مجرد صور يحل الوصف محل العذاب وتكون الكلمات الهادئة بديلا للصرخات المذعورة وينخفض مستوى الألم إلى درجة لا تليق به.
فالحرب هي التي تقتل وتهدم وتشرد وتمحو وتنخفض بشروط الوضع البشري. لا تقع الحروب لتُنسى. إذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان سيعجز عن رؤية الوحش الذي يسكنه في مرآة الحقيقة. النسيان هو نوع من الإنكار. ويمكن أن يكون واحدا من أكبر الأسباب التي تؤدي إلى أن يقع الإنسان في الخطأ نفسه. يرتكب الحماقة نفسها. منذ نهاية الحرب العالمية لم تعش الكرة الأرضية التي ابتليت بنا إلا ساعات سلام معدودة. بل إن الحروب صارت تتزامن، بعضها مع البعض الآخر. لا ينتظر البشر انطفاء نار حرب ليشعلوا نار حرب أخرى. صاروا على عجلة من أمرهم كما لو أنهم يميلون إلى الفناء بدلا من الميل إلى البقاء. يقول المؤرخون إن الإنسان في العصور القديمة كان يقتل أخاه الإنسان مدفوعا بنزعة البقاء. حدث ذلك في أزمنة الصيد وقبل أن يستقر في قرى ثابتة، بعد أن اكتشف الزراعة أما حين اخترع العجلة فقد كانت الدولة وهي واحد من أعظم اختراعاته قد وضعته على طريق القانون الذي نظم حياته وحمى ملكيته وهذب سلوكه وصار لما يفعله معنى المشاركة الاجتماعية. غير أنه لم يكف عن الغزو إلى أن حلت البشرية مشكلاتها عن طريق التوصل إلى مفهوم الدولة الحديثة التي أضفت على الجغرافيا معنى جديدا. صار مبدأ الغزو مستهجنا في ظل ثبات حدود الدول على الخريطة السياسية. إنجاز عظيم انبثق منه مفهوما الوطن والمواطنة غير أنه لم يحل دون استمرار مبدأ الغزو. غزت ألمانيا أوروبا بالطريقة نفسها التي غزت فيها الولايات المتحدة العراق وأفغانستان. وبغض النظر عما يُقال من أن هناك دروسا تعلمتها البشرية من حروبها وهو قول غامض يتعامل معه السياسيون باستخفاف فإن النسيان هو ما يراهنون عليه. إنهم يعتقدون أن عصرا تسوده قيم الاستهلاك السريع هو الحاضنة المثلى للنسيان. وهم يعتقدون أن تراكم الحروب التي تشن في أماكن مختلفة من العالم يمكن أن يفقد الإنسان التركيز على حرب بعينها. فبعد كل ما رافق حرب أوكرانيا من ضجيج غربي وتبعه هلع الطاقة والخبز، جاءت حرب غزة لتتصدر المشهد العالمي بين مؤيد ومعترض. ولكن ماذا عن حرب اليمن وبعدها حرب السودان؟ وهناك حروب أقل ضررا في بقاع أخرى. ولكنها حروب يصاحبها القتل والعذاب والتشرد والفقر والجوع. نسينا حرب أوكرانيا من أجل حرب غزة من غير أن نفكر أصلا بما تجلبه حربا اليمن والسودان من ضحايا ليس المطلوب التعرف على أسمائهم غير أن كارثة المقابر التي حلت محل البيوت تظل ماثلة أمام أعيننا بغض النظر عن الميزان الدولي. مثلما نُسيت أوكرانيا ستُنسى غزة. غزة ليست بأهمية أوكرانيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة وأوروبا اللتين تسيطران على وسائط الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي. لقد استقبلت أوروبا حشود اللاجئين الهاربين من أوكرانيا. قبلهم استقبلت أفواج القادمين من سوريا. ولكنها اليوم تساهم في إغلاق أبواب غزة على الفلسطينيين. ابقوا في ملعب القتل. سيصل طعامكم معلبا بالمظلات. أما المسحوق اليمني والسوداني فلا يحمل سوى معنى واحد. شعب ينتحر. في المصفاة الغربية ليس هناك من ضحايا إلا إذا كانوا يدخلون في حسابات الدعاية. كم هو عدد الذين قُتلوا في الحرب العراقية – الإيرانية أو في حرب تحرير الكويت أو في الغزو الأميركي للعراق؟ لا أحد يفكر في ذلك حتى لو كانت الأرقام صادمة.قياسا بما يجري فإن البشرية في حاجة ماسة إلى مَن يذكرها بعارها. لا ينحصر ذلك العار بنسيان الضحايا بل وأيضا بالتغاضي عن حقيقة أن الحروب ليست حلا مشرفا وعادلا. وإذا كان ضحايا الحروب لا ينتظرون أن يسأل أحد عنهم أو يفكر فيما انتهوا إليه من مصائر مظلمة فإن البشرية جمعاء في حاجة إلى أن تتذكر أن النسيان ليس علاجا لحماقاتها وأن الحروب المنسية ستظل جروحها مفتوحة مهما طال الزمن.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: غیر أن
إقرأ أيضاً:
هل تواصل كندا دعم أوكرانيا رغم أزماتها الاقتصادية؟
ألبرتا- ترتفع أصوات المواطنين في كندا المنتقدة لاستمرار حكومتهم في تقديم الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا، معبرين عن قلقهم المتزايد إزاء أولويات الإنفاق الحكومي التي تأتي على حساب الاحتياجات الداخلية الملحة.
ويأتي ذلك في ظل أزمات اقتصادية ومالية متفاقمة هي الأشد وطأة في تاريخ البلد، فضلا عن تزايد الضغوط على دخل الأسر والعاملين، وتراجع قدرة الحكومة على معالجة المشكلات الداخلية.
وأعلن رئيس الوزراء مارك كارني عقب اختتام قمة دول مجموعة السبع، عن حزمة دعم جديدة لأوكرانيا بقيمة إجمالية 4.3 مليارات دولار كندي (2 مليار للتزود بأسلحة مثل الطائرات من دون طيار، والذخائر، والمركبات المدرعة) وقرض بقيمة (2.3 مليار دولار كندي لإعادة بناء البنية التحتية)، وتوفير 57.4 مليون دولار كندي لدعم الأمن.
قدمت كندا في عهد حكومة جاستن ترودو السابقة، منذ بدء الحرب أكثر من 12.4 مليار دولار كندي (حوالي 9.2 مليارات دولار أميركي) مساعدات مالية مباشرة لأوكرانيا، والتزمت بتقديم 45 مليار دولار كندي كمساعدات عسكرية حتى عام 2029، ليصل إجمالي الدعم مع إعلان كارني إلى ما يقرب من 24 مليار دولار كندي (17.8 مليار دولار أميركي).
يرى مستشار الأمن المالي مدين سلمان، أن كندا يجب أن توازن بين ما تراه واجبا أخلاقيا وإنسانيا في دعم أوكرانيا لتحرير أراضيها المحتلة من قبل روسيا، وبين دعم شعبها الذي يعيش ظروفًا اقتصادية صعبة وغير مسبوقة تمر بها البلاد.
ويضيف سلمان، في حديثه لـ"الجزيرة نت"، أن التباطؤ الاقتصادي، والتعريفات الجمركية الأميركية، وارتفاع معدلات البطالة، يجب أن تدفع الحكومة الكندية إلى إصلاح الوضع الداخلي قبل الالتفات إلى مشكلات الدول الأخرى، خاصة أن الحرب الروسية الأوكرانية باتت تدور في حلقة مفرغة وفق ما يظهر، على حد قوله.
الأولوية للأزمات الداخليةوشدد سلمان على ضرورة توجيه الدعم الحكومي حاليا نحو معالجة الأزمات الداخلية التي تؤثر مباشرة في حياة المواطن، لا سيما في قطاعي السكن والصحة، مع التركيز على الاستثمار في مشاريع البنية التحتية، التي أصبحت ضرورية لتعويض انهيار الشراكة الاقتصادية مع الجارة أميركا.
من جانبه، أيد الخبير المالي أحمد جاد الله ما ذهب إليه سلمان، في أن الأولوية كان يجب أن تُعطى لتعهدات مارك كارني "الوردية" التي قدمها للكنديين، بتخصيص هذه الموارد لإصلاح البنية التحتية الكندية، ودعم برامج تعزيز الصادرات والابتكار والترويج التجاري للمنتجات والصناعات الكندية، إضافة إلى تحسين الخدمات الطبية التي تعاني أصلاً من نقص حاد في الموارد.
إعلانوعن تأثيرات القرار على الميزانية، حذر جاد الله من تداعياته على الميزانية، التي ستجعل الحديث عن سد عجز الميزانية حلما صعب المنال، مشيرا إلى أن هذا الدعم سيؤثر سلبا على التضخم وسعر الدولار الكندي في أسواق الصرف، كما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية، مثل الغذاء والطاقة، مما سيقلل من القوة الشرائية للمواطنين ويزيد من صعوبة الحياة.
ويضيف جاد الله، في تعليق لـ"الجزيرة نت"، أن ذلك سينعكس أيضا على زيادة الدَّين العام، حيث يُمول جزء كبير من الدعم عن طريق الاقتراض، مشيرا إلى أن هذا سيرفع الدَّين العام على المدى الطويل، ويزيد من تكلفة خدمته، مما سيرهق ميزانية الدولة ويعرقل أي جهود أو خطط لإصلاح الوضع الاقتصادي والمالي الحالي.
وعن تحقيق التوازن في الصرف، يقول جاد الله إنه يتطلب نهجا اقتصاديا مدروسا بدقة، من خلال اعتبار رفاهية المواطن الكندي وجودة الخدمات المقدمة إليه أولوية وطنية لا تحمل المساومة.
وذلك من خلال إعطاء الأسبقية لتوفير وتحسين الاحتياجات الأساسية للمواطنين، مثل الصحة والتعليم، وتخفيض تكلفة السكن وتوفير إسكانات مدعومة من الحكومة بأسعار معقولة لذوي الدخل المحدود والمتوسط، والحد من غلاء أسعار المواد التموينية، ودعم قيمة العملة المحلية.
وتعاني كندا من تحديات اقتصادية تتجلى في ارتفاع تكاليف المعيشة، وتزايد معدلات البطالة وانخفاض فرص العمل، وارتفاع أسعار المنازل، فضلاً عن زيادة إيجارات السكن، مما أدى إلى شعور المواطنين بالإحباط جراء عجز الحكومات عن إيجاد حلول جذرية لهذه الأزمات، التي أثقلت كاهلهم بشكل مباشر، وتسببت في عدم استقرار حياتهم.
كندا لم تتأثرمن جهته، قدم الخبير الاقتصادي الدكتور زياد الغزالي، رؤية مختلفة عن سابقيه، قائلاً إن تمويل الالتزامات الخارجية لم يأتِ على حساب الخدمات الأساسية للمواطن الكندي، مشيرا إلى أن الحكومة حافظت على تمويل الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية والإسكان، رغم الزيادة الكبيرة في عدد السكان بين أعوام 2021 و2024.
وأوضح الغزالي، في حديثه للجزيرة نت، أن المساعدات المالية التي قدمتها الحكومة الكندية لأوكرانيا استُردت عندما ارتفعت أسعار النفط والغاز خلال عامي 2022 و2023 نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، مما انعكس إيجابيا على إيرادات الدول المصدرة للنفط والغاز، إلى جانب سياسات الاقتراض وإعادة التوجيه.
دافع إنساني وحقوقيوعن دوافع تقديم الدعم لأوكرانيا، أكد الغزالي أن كندا ترى نفسها جزءا من الدول التي تدافع عن حقوق الإنسان وسيادة القانون والديمقراطية، وتسعى للحفاظ على مكانتها الدولية كعضو في مجموعة السبع وحلف الناتو.
وأشار إلى أن هذا الدعم يهدف إلى ردع التوسع الروسي باتجاه أوروبا الشرقية، لافتاً إلى أن كندا تضم واحدة من أكبر الجاليات الأوكرانية في العالم، بما يقارب 1.4 مليون مواطن كندي من أصول أوكرانية.
كما أوصى الغزالي بأن تكون المساعدات المستقبلية، التي لا تُعد إنسانية، على شكل قروض قابلة للاسترداد أو من خلال مساهمات متعددة الأطراف، مثل إنشاء صندوق مشترك مع مجموعة السبع. كما دعا إلى زيادة كفاءة الإنفاق الداخلي وتحفيز النمو الاقتصادي لتحقيق التوازن بين الالتزامات الداخلية والخارجية.
إعلانفي المحصلة، استعادة ثقة المواطنين، يتطلب من الحكومة تحقيق توازن بين الالتزامات الخارجية والداخلية، وذلك من خلال عاملين، أولهما العمل مع الشركاء الدوليين لتوزيع العبء المالي وضمان تحقيق الالتزامات بأقل تكلفة.
وثانيا إجراء إصلاحات داخلية وتعزيز برامج الدعم الاجتماعية، وإعطاء الأولوية لمعالجة أزمة السكن والتضخم والبطالة وإصلاح وتطوير القطاع الصحي، لضمان حياة كريمة للكنديين تتناسب مع مقدرات بلادهم ومكانتها العالمية، دون تخلي كندا عن دورها الدولي الحيوي.