مع كل أزمة مالية أو قرار اقتصادي مفاجئ، ينهال علينا سيل من التحليلات المعقدة والنماذج الجاهزة، وكأن الاقتصاد علم جامد لا يُجادل. لكن، ماذا لو كان معظم ما نعده "حقائق اقتصادية" إنما هو ليس سوى روايات اختيرت بعناية لخدمة مصالح معينة؟

في "دليل المسترشد إلى علم الاقتصاد" يكشف عالم الاقتصاد الكوري الجنوبي من أصل بريطاني ها-جون تشانغ عن الجانب المخفي من هذا العلم الذي يمس حياتنا اليومية.

فيفكك تشانغ أوهام الحياد والموضوعية بأسلوب مفعم بالحيوية والوضوح، ويعيد تقديم الاقتصاد بوصفه علما جدليا متنوعا، ومشحونا بالاختيارات الأخلاقية. ولا يُعلمك هذا الكتاب فقط كيف يعمل الاقتصاد، بل لماذا ينبغي أن تشكك فيه، وتفهمه من زوايا متعددة لا من نافذة واحدة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف تُغيّرنا الكلمات؟ علم اللغة البيئي ورحلة البحث عن لغة تنقذ الكوكبlist 2 of 2عبور الجغرافيا وتحولات الهوية.. علماء حديث حملوا صنعاء وازدهروا في دمشقend of list

والمؤلِّف ذو مكانة، يُدرّس في جامعة كامبريدج، ويُعرف بمواقفه النقدية الجريئة تجاه التيار الاقتصادي السائد. وقد حصل على الدكتوراه من جامعة كامبريدج، وذاع صيته بفضل كتاباته التي تدمج بين العمق الأكاديمي والأسلوب السلس الموجه للجمهور غير المتخصص.

وله مؤلفات مهمة يعرض فيها رؤيته للاقتصاد بوصفه علما اجتماعيا وأخلاقيا مرتبطا بالحياة اليومية، لا مجرد معادلات ونماذج رياضية. ويعد تشانغ من الأصوات المؤثرة عالميا في نقد السياسات الليبرالية الجديدة والدفاع عن نموذج تنموي أكثر عدالة وواقعية، يستلهم التجارب التاريخية الناجحة بدلا من التنظير المجرد.

التعددية والاقتصاد

ينطلق الكتاب من فرضية رئيسة مؤداها أن الاقتصاد ليس علما محايدا، بل ساحة تنازع فكري بين مدارس متباينة في رؤاها وتحيزاتها. ومن ثم، فإن اختزال تدريس الاقتصاد في منظور المدرسة الكلاسيكية الجديدة، كما هو سائد في جامعات العالم، لا يُعد تبسيطا وحسب، بل إخفاءً لطبيعة الاقتصاد التعددية. لذلك يرفض تشانغ هذا الطرح الأحادي، داعيا إلى مقاربة الاقتصاد بوصفه حقلا معرفيا متنوعا، تتعايش فيه -بل تتصارع- تيارات فكرية كبرى، كالكلاسيكية والماركسية والسلوكية، وغيرها.

إعلان

ويمضي المؤلف في توضيح الفرق الجوهري بين "الاقتصاد" بوصفه ممارسة حياتية وواقعا اجتماعيا، و"علم الاقتصاد" بأنه محاولة تنظيرية حديثة لفهم هذا الواقع. ويذكّر القارئ بأن علم الاقتصاد لم يتبلور إلا في القرنين الأخيرين، بينما سُجلت أشكال اقتصادية متعددة منذ فجر التاريخ، وهذا ما يجعل أي مقاربة اقتصادية بالضرورة مشروطة بالسياق التاريخي والاجتماعي.

وفي جولة تاريخية ثرية، يستعرض المؤلف الكوري الجنوبي تطور النظم الاقتصادية من المجتمعات الزراعية إلى الرأسمالية المعولمة، مشيرا إلى أن التغيرات الاقتصادية الكبرى لم تكن أبدا نتاج تطور علمي مجرد، بل جاءت نتيجة لصراعات اجتماعية وتحولات سياسية عميقة.

كما أنه ينتقد السرديات التي تروج لفكرة أن الدول الغربية بلغت الرفاهية من خلال "السوق الحرة" موضحا أن الحماية الاقتصادية وتدخل الدولة كانا حجر الأساس في تجاربها التنموية، وهو ما يدحض الكثير من أطروحات المدرسة الكلاسيكية الجديدة.

التنمية وفق رؤية المؤلف تتطلب توفير التعليم والصحة والعدالة الاجتماعية والمساواة (رويترز) الآثار المتفاوتة للعولمة

في سياق تفكيكه للمسلمات الاقتصادية الشائعة، يتناول تشانغ بالنقد نظريات التجارة الحرة، من مثل أطروحة "الميزة النسبية" لريكاردو، مؤكدا أن الانفتاح التجاري لم يكن سببا في الإقلاع الاقتصادي للدول الصناعية، بل جاء بعد مراحل من الحماية المدروسة.

كما يُبرز الآثار المتفاوتة للعولمة، مشيرا إلى أنها خدمت مصالح الشركات الكبرى والمستهلكين في بعض البلدان، لكنها أدت إلى تفكيك صناعات محلية، وتقويض السيادة الاقتصادية في كثير من دول الجنوب. ويدعو في هذا الإطار إلى مراجعة العولمة لا من باب العداء لها، بل بهدف إعادة صياغتها على أسس أكثر عدالة وإنصافا.

ولا يغفل الكتاب التمييز بين النمو والتنمية، منبها إلى أن ارتفاع الناتج القومي لا يعني بالضرورة تحسن حياة الأفراد. فالتنمية -وفق رؤية المؤلف- تتطلب توفير التعليم والصحة والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الفئات، وهي مؤشرات لا يعبّر عنها الناتج المحلي الإجمالي. ويقف موقفًا نقديًا من النظرة التي ترى في التفاوت الاجتماعي "ثمنًا لا بد منه" داعيًا إلى إمكانية الجمع بين العدالة والنمو، كما تُظهر تجارب عدد من دول الشمال الأوروبي وشرق آسيا.

الكاتب: الخيارات الاقتصادية ليست محض حسابات علمية بل مواقف سياسية في جوهرها (الفرنسية) البعد الأخلاقي والسياسي للاقتصاد

أحد المحاور البارزة في الكتاب هو استعادة البعد الأخلاقي في علم الاقتصاد، ورفض اختزال الإنسان إلى "آلة نفعية" تحسِب التكاليف والعوائد، حيث يرى تشانغ أن كل قرار اقتصادي في جوهره أخلاقي: من دعم الصناعات الملوثة، إلى تسعير الغذاء، إلى أولويات الإنفاق العام. وبدلًا من تقديم إجابات جاهزة، يطرح أسئلة تتطلب تفكيرًا نقديًا من القارئ، مشاركًا له في عملية التأمل بدل تلقينه النتائج.

وفي أحد أهم أقسام الكتاب، يستعرض تشانغ 9 مدارس اقتصادية، مبرزا الاختلافات النظرية والتطبيقية بينها. وهو لا يقدم هذا العرض بين هذه التوجهات على أنه تنافس لإثبات الأفضلية، بل بوصفه دعوة إلى تنويع الأدوات التحليلية، بما يتيح قراءة الواقع بأكثر من زاوية.

إعلان

فالمدرسة الكلاسيكية الجديدة مثلا تمتاز بصياغة نماذج رياضية متماسكة، لكنها تفترض عقلانية مثالية بعيدة عن الواقع، في حين تُدخل المدرسة السلوكية عوامل نفسية تُضيء بعض الجوانب المسكوت عنها. وهذه التعددية، برأيه، ليست مؤشرا على فوضى معرفية، إنما انعكاس لتعقيد الظواهر الاقتصادية وتعدد أبعادها.

ثم ينتقل المؤلف في الجزء الأخير من الكتاب إلى التطبيق، محللا قضايا محورية من مثل التضخم والبطالة والأسواق المالية والأزمات الاقتصادية، ودور المؤسسات الدولية. ويخصّ بالنقد السياسات الليبرالية الجديدة التي فُرضت على دول الجنوب، كالوصفات الموحدة لصندوق النقد الدولي، والتي تجاهلت الخصوصيات المحلية، وأدت في كثير من الأحيان لتفاقم الفقر، لا إلى معالجته.

ويرى أن الخيارات الاقتصادية ليست محض حسابات علمية، بل مواقف سياسية في جوهرها. فالاختيار بين السيطرة على التضخم أو تقليص البطالة -مثلا- لا يمكن فصله عن الانحيازات الطبقية والاجتماعية للسلطة الحاكمة، وهذا ما يجعل الاقتصاد مجالا عاما يستوجب النقاش والمساءلة، لا حكرا على الخبراء والتقنيين.

قيمة الكتاب

يتميّز أسلوب تشانغ بالجمع بين الوضوح والعمق، إذ يُبسّط المفاهيم النظرية من دون أن يُسطّحها، ويستعين بأمثلة حياتية وجداول توضيحية ورسوم بيانية لتيسير الفهم. ومما يعزز من قيمة الكتاب أنه لا يخاطب المختصين وحدهم، بل يُوجَّه إلى القارئ العام الذي يسعى إلى فهم التحولات الاقتصادية التي تؤثر في حياته، دون أن يكون بالضرورة دارسًا للاقتصاد.

وقد قوبل الكتاب بترحيب واسع من القراء والمهتمين في العالم، لا سيما أولئك الذين يبحثون عن بدائل للطرح الكلاسيكي الجديد السائد. كما تعرض لانتقادات من بعض الأكاديميين المحافظين الذين اتهموه بالتبسيط أو التحيز. غير أن هذه الانتقادات -كما يرى عدد من النقاد- تؤكد صدقية دعوته إلى تحرير علم الاقتصاد من انغلاقه النظري، وانفتاحه على التعدد والتأمل النقدي.

إن القيمة الكبرى لكتاب "دليل المسترشد إلى علم الاقتصاد" تكمن في أنه لا يقدّم وصفات جاهزة أو نماذج مثالية، بل يفتح المجال لفهم الاقتصاد بوصفه علمًا حيًّا، متغيرًا، ومرتبطًا بالواقع. فهو ليس مجرد مدخل أكاديمي، بل دعوة لممارسة الفهم الاقتصادي بوصفه أحد أشكال المشاركة المدنية الواعية.

وفي زمن تزداد فيه سطوة الخطاب الذي يريد الهيمنة، ويُستخدم علم الاقتصاد لتبرير قرارات تعيد إنتاج الظلم، يذكّرنا تشانغ بأن المعرفة الاقتصادية ليست حكرًا على أحد، وأن من حق كل إنسان أن يفهم ويسأل ويجادل.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات اجتماعي علم الاقتصاد

إقرأ أيضاً:

محمد فودة يكتب: مصر تكتب التاريخ من باريس.. العنانى ينتزع منصب مدير اليونسكو فى انتصار جديد يضاف لأمجاد أكتوبر

الدبلوماسية المصرية تؤكد تفوقها.. وتثبت قدرتها على صناعة النجاحات الدولية في ظل قيادة رشيدة


قوة ودعم القيادة السياسية وراء صعود مصر على خارطة العالم


وزيرا الخارجية والتعليم العالي أدارا الملف باحترافية عالية وبنيا الثقة بالإنجازات لا الشعارات


عبد العاطي وعاشور قدما صورة وطنية راقية للعمل الجماعي والاحترافي


فخر وطني خالص تجلى في حديث الوزير أيمن عاشور عقب الإعلان عن الفوز


العنانى يتوج بثقة العالم.. ويقود مرحلة جديدة من التأثير المصرى في المشهد الثقافى الدولى


حين تابعت لحظة إعلان فوز الدكتور خالد العناني بمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو، شعرت وكأنني أعيش لحظة من لحظات انتصار أكتوبر ولكن على ساحة أخرى، ساحة الثقافة والمعرفة، لا ساحة القتال، إنها لحظة انتصار في معركة من نوع مختلف، معركة الإرادة والتمثيل الدولي، وهي لا تقل أهمية عن المعارك العسكرية، لأنها معارك إثبات الذات في العالم، وإعادة تقديم مصر بصورتها الحقيقية، رائدة، ومؤثرة، ومالكة لإرث حضاري وإنساني يستحق أن يصغى إليه.

هذا الانتصار التاريخى الذي يأتي لأول مرة في تاريخ العرب، بأن يتولى مصري وعربي منصب مدير عام اليونسكو، لا يمكن فصله عن دعم القيادة السياسية، وحرص الرئيس عبد الفتاح السيسي الدائم على تمكين الكفاءات الوطنية في المحافل الدولية، لقد كانت الدولة كلها، من رأسها إلى مؤسساتها، تؤمن بهذا الملف، وتدرك أن ترشيح شخصية بحجم الدكتور خالد العناني ليس فقط جديرا بالمنصب، بل قادرا على إحداث نقلة نوعية في أداء المنظمة.

وللحق فإن الدكتور خالد العناني ليس غريبا عن ملف الثقافة والحضارة، فهو ابن هذه الأرض الطيبة التي أنجبت علماء وآثاريين ومفكرين عالميين، وقد كانت تجربته كوزير للآثار والسياحة أحد أنجح الملفات التي أعادت لمصر بريقها السياحي والثقافي على مستوى العالم، والآن يأخذ هذه الخبرات كلها إلى ساحة دولية، ليبدأ فصلا جديدا من العطاء، هذه المرة باسم مصر والعرب جميعا.

ولا يمكن الحديث عن هذا الفوز دون التوقف أمام الدور الكبير الذي لعبه كل من السفير بدر عبد العاطي وزير الخارجية المصرية، والدكتور أيمن عاشور، وزير التعليم العالي والبحث العلمي ورئيس اللجنة الوطنية المصرية لليونسكو، وممثل مصر في المجلس التنفيذي للمنظمة، لقد أدارا معا هذا الملف باحترافية، وتحركا بتنسيق مشترك في كل الاتجاهات الممكنة، مقدمين صورة وطنية راقية عن العمل الجماعي، كانت تحركاتهم دقيقة، واعتمدت على بناء ثقة دولية في المرشح المصري، لا بالشعارات، بل بالحقائق والإنجازات التي لا يستطيع العالم إنكارها.


ولقد لمست في كلمة الوزير أيمن عاشور عقب إعلان النتيجة، مشاعر الفخر الوطني الخالص، حين قال إن “مصر تجني اليوم ثمرة جهد احترافي دام أكثر من عامين”، وهي بالفعل ثمرة زرعتها دولة تعرف ماذا تريد، وتحصدها اليوم بجدارة واحترام.

هذه لحظة يجب ألا تمر مرور الكرام، فمثلما ندرس للأجيال معارك النصر العسكري المجيد فى السادس من أكتوبر، علينا أن نزرع فيهم الوعي بأن النصر له وجوه متعددة، وأن تمثيل بلدك باقتدار على منابر العالم، هو انتصار لا يقل شرفا عن كل المعارك البطولية في التاريخ.

إن فوز الدكتور خالد العناني بمنصب المدير العام لليونسكو لا يعد فقط انتصارا دبلوماسيا أو نجاحا إداريا، بل هو شهادة دولية تمنح لمصر من قلب العالم، اعترافا بقيمتها التاريخية، وحضارتها الخالدة، وريادتها الثقافية التي لا تغيب عن أي مشهد إنساني.  

ومن قلب هذا الحدث، أشعر أن ما تحقق لم يكن وليد لحظة، بل ثمرة تخطيط استراتيجي طويل، ودعم سياسي واع، وإيمان حقيقي بأن مصر تستحق أن تتصدر المشهد العالمي في كل المجالات، لا سيما تلك التي تخص الحضارة والهوية والثقافة، وبصفتى مواطن عاشق لهذا الوطن، شعرت أن هذا الحدث يعيد لي نفس الشعور بالفخر الذي شعرت به وأنا أقرأ عن انتصار أكتوبر، مع الأخذ فى الاعتبار ان هذا انتصار ناعم، لكنه عميق، يرسخ فكرة أن مصر لا تنتصر فقط بالسلاح، بل تنتصر أيضا بالعقل، والكفاءة، والعلم، والتاريخ.

هنيئا لمصر ورئيسها وشعبها بهذا الإنجاز التاريخي، وهنيئا للعالم برؤية جديدة ستقود اليونسكو نحو مستقبل أكثر إنصافا للثقافة، وأقرب للسلام، وأكثر احتراما للهوية.

 

رلاررلا لالالا بلبلبل

مقالات مشابهة

  • سر مؤجل لسنوات.. أبو الغيط يكشف كواليس غامضة عن تأخر نشر كتابَيه
  • محمد فودة يكتب: مصر تكتب التاريخ من باريس.. العنانى ينتزع منصب مدير اليونسكو فى انتصار جديد يضاف لأمجاد أكتوبر
  • جديد تسريبات ابنة أمل عرفة.. اعتذار علني يكشف خفايا الابتزاز
  • أحمد موسى يصدر كتابًا يكشف فيه تفاصيل غير مسبوقة عن حرب أكتوبر على لسان مبارك
  • خبير اقتصادي: القطاع الخاص هو الأجدر على التعامل مع الأوضاع الاقتصادية الحالية
  • مسيّرات الرعب: كيف تحوّلت سماء أوروبا إلى ساحة حرب نفسية؟
  • السياسات الاقتصادية واستشراف المستقبل
  • خالد فكري رئيسًا لشُعبة المخابز خلفًا لعطية حماد
  • عمّان.. مباحثات أممية تحث على ضرورة الإصلاحات الاقتصادية باليمن وتحقيق العدالة للمتضررين من الحرب
  • وزير الاقتصاد الرقمي يكشف عن إنشاء محطات فحص فني ضمن مراكز الخدمات الحكومية