في النقد الجزافي لدول 56: ليلة القبض على مُتاجر مع البرتغال (1964)
تاريخ النشر: 24th, March 2024 GMT
كان نقاش هويتنا من جهة انتماء السودان إلى العرب او الأفارقة (علاوة على زيف الأطروحة أصلاً التي افترضت انتماء واحداً أحداً للسودان) معرضاً لأقوال مغرضة من المتأفرقة الجدد. وهي أقوال لم يطرأ لهم أن يقيموا بها الحجة على تنصل السودان عن ولائه الأفريقي جرياً وراء ولاء عربي صمد. فلا يُسأل هؤلاء الأفارقة المحدثين على ما قالوا برهانا في حديث الشاعر العربي.
وسبب التهمة للتاجر أنه خرق حظر الحكومة التجارة مع البرتغال التي كان يكتوي باستعمارها الأفارقة في موزمبيق وأنقولا وغينيا بيساو. بل كانوا نهضوا في كفاح مسلح لإزاحة حكم البرتغال عنهم صوره المؤرخ البريطاني الناشط بازل ديفدسون في كتب غراء عن دار بنغوين البريطانية للنشر اطلع عليها جيلنا فأشراب متضامناً معهم. وتمت تلك المطاردة لتاجر المدينة من حكومة عسكرية كان لنا نقاط خلاف قوي معها في سياساتها العربية والأفريقية والعالمية جميعاً. فيكفي مثلاً أنها فرقت مظاهرة لنا عصر أحد الأيام لنصرة الجزائر ونحن في بداية عهدنا بجامعة الخرطوم في عام 1960. وأطحنا بها بثورة مايو بعد شهر واحد من تاريخ القبض على التاجر المتبرغل. ولم يمنع انحياز حكومة عبود المعروف للغرب من الدخول في مقاطعة البرتغال تقرباً من الأماني الشعبية وامتثالاً لقرارات منظمة الوحدة الأفريقية (1963) السابقة للاتحاد الأفريقي. ووقع تاجر بالخرطوم تحت طائلة القانون نتيجة لذلك.
وأعادني نبأ جريدة المورننق نيوز إلى الهرج بالهوية الذي فلقنا به المتأفرقة الطارئون طوال عقدين من الزمان. فمتى نظرت في علم هوية البرجوازية الصغيرة المتأفرقة وجدته يدور حول تميمتين. أولها أنه كان بوسعنا أن نكون أحسن الأفارقة فصرنا، بتهافتنا على العرب، أسوأ العرب. أما الرقية الثانية فقولهم إن الذي يفرقنا هو المصموت منه من علائق الجنوب والشمال التاريخية.
أتعرض هنا لتميمة أحسن الأفارقة وأسوأ العرب من جهة قولهم إننا انجررنا منذ استقلالنا وراء العرب دون الأفارقة. وسأهمل المغازي العنصرية السفلى للعبارة نفسها. وقد سدرت هذه الصفوة في القول بتنكبنا الطرق الأفريقية لا يسندها دليل ولا يلجمها دليل مضاد. وظلت على هذه العقيدة الفاسدة حتى بعد صدور كتاب الدبلوماسي الأديب المرحوم عبد الهادي الصديق “السودان والأفريقانية” في التسعينات الذي استقصى المسألة في مظانها ولم يجدنا تدابرنا أفريقيا. فدولتنا ظلت، على تعاقب النظم، تلتزم بأفريقيا بصورة ما فصّله عبد الهادي. وكانت لها كبوات حين وجدت نفسها في حلف استعماري في الكنغو في 1960 أزهق حياة باتريس لوممبا، رئيس وزراء الكنغو الذي خذله نظام عبود، مما حكاه العقيد محمد محجوب حضرة في كتاب جيد. وقد احتج الشعب على لؤم الحكومة في الكنغو في مظاهرات مشهودة في 1960. وخرجت مظاهراتنا دعماً للومببا من جامعة الخرطوم وغيرها تهتف “يا للعار خذلوا الجار”. وشممنا رائحة الغاز المسيل يومها لأول مرة. ونهضت حكومة أكتوبر 1964 بدعم ورثة لوممبا، ومنحتهم حق اللجوء السياسي ومَرَّرت لهم العون المصري والجزائري.
وكان دور السودان ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا شديداً. فاحتفلت أفريقيا بعيد استقلالنا في 1957 بعقد اجتماع اتحاد كرة القدم الافريقي الأول في الخرطوم الذي استبعد جنوب أفريقيا من المنافسات في القارة لعنصريتها في الرياضة. وأعلن السودان في مؤتمر قمة افريقيا إغلاق مطاراته في وجه طائرات جنوب افريقيا وبريطانيا بعد استقلال روديسيا الزائف بيد المستوطنين البيض في 1965كما سيرد. كما التزم بتدريب المناضلين السود على أرضه. وزارنا مانديلا قبل اعتقاله في 1962 لدراسة هذه الترتيبات. وفتحنا الكلية العسكرية لمجاهدي أنغولا ونامبيا (جنوب غرب أفريقيا). وجعلنا مساهمتنا لقوي التحرر الأفريقية في 1970 بنداً في الميزانية العامة ورفعناها الي 50% من السابق. وقد ذكر ذلك للسودان رئيس ناميبيا سام نجومي في أول خطاب رسمي له. ذكر أياماً له بفندق الأكربول بالخرطوم وكيف ضمه السودان الي وفده في الأمم المتحدة ليعرض قضيته بعد ان أعيت السودان الحيلة ليقنعها بقبول مندوب الحركة نجومي مراقباً في الامم المتحدة.
كما ذكر أيدي السودان الأفريقية أغوستينو نيتو، رئس أنغولا الأسبق، الذي خطب يوماً في الخرطوم قائلاً “لا احتاج أن اذكر الحضور الكريم بعون السودان للمناضلين في انجولا وبقية بلدان افريقيا. يكفيني القول إن طبقة الضباط المتنفذة في بلدي اليوم قد تلقت تدريبها العسكري في كلية السودان الحربية.” ومن أطرف ما أعان به السودان مجاهدي أنغولا هو قطيع من الحمير التي أخرس البيطريون نهيقها لتعين في ترحيل معداتهم دون أن يصدر عنها صوت ينبه العدو. كما زار يعقوب قاوون، الرئيس الأسبق للجمهورية في نيجيريا، السودان ليشكر له وقفته الي جانب وحدة نيجريا والامكانيات العسكرية التي وضعها تحت تصرف الجيش النيجيري**. واشتغل السودان بنضال روديسيا الجنوبية (زمبابوي الآن). فحين أعلن إيان سميث العنصري استقلال القطر من انجلترا من جانب واحد (1965) لينفرد البيض بالحكم دعا السودان في قمة أفريقية طارئة الي استخدام القوة لرد الحق الافريقي. وقطع علاقته مع بريطانيا لموقفها المجهج من حقوق السود في روديسيا من 1965 الي 1966. ودرّب عناصر حزب زانو الروديسي ووفر لهم الباسبورتات وأوراق الهجرة وعلاج الجرحى. وحين ضايق إيان سميث، رئيس وزراء روديسيا عن الأقلية البيضاء المستوطنة، زامبيا لعونها نضال زانو طلب السودان من منظمة الوحدة الافريقية أن تعين زامبيا لتحمل العقوبات التي فُرضت عليها.
القول بأننا أسوأ كذا وأحسن كذا مجرد تميمة لا تغني عن الحق شيئاً. والقول بأن السودان انصرف عن المسألة الأفريقية تقرباً من العرب لا يخلو من مبالغة مصدرها قلة النظر واتساع الخشم. وهو ابتزاز للصفوة البرجوازية الصغيرة الشمالية افحمها من غير أن تتثبت منه ودخلت منه في أظافرها حرجاً من “عار” 56.
* وكانت حركة أنانيا في وقتها ذاك تقاتل لفصل الجنوب مما صادم السياسة الأفريقية في يومها.
عبد الله علي إبراهيم
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
السودان: 70 حالة وفاة جراء الكوليرا في الخرطوم خلال يومين
رام الله - دنيا الوطن
أعلنت السلطات الصحية في السودان أن حصيلة ضحايا الكوليرا في العاصمة الخرطوم بلغت 70 وفاة، في وقت تواجه فيه المدينة تفشياً متسارعاً للوباء وسط تدهور حاد في الخدمات الأساسية.
وسجّلت وزارة الصحة في ولاية الخرطوم، الأربعاء، 942 إصابة جديدة و25 وفاة، بعد تسجيل 1177 إصابة و45 وفاة في اليوم السابق. وأشارت إلى أن 90% من الإصابات الجديدة تم رصدها في الولاية، ما يعكس تصاعداً مقلقاً في وتيرة العدوى.
وتأتي هذه التطورات في ظل أوضاع إنسانية كارثية، حيث أفاد تقرير سابق بأن 51 شخصاً توفوا بالكوليرا خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من مايو، في بلد تمزقه الحرب ويعاني من نزوح نحو 70% من السكان، فيما خرجت 90% من محطات ضخ المياه عن الخدمة، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
ودقت نقابة أطباء السودان ناقوس الخطر، محذرة من أن الأعداد الحقيقية للوفيات قد تكون أعلى بكثير، مرجحة أن تكون هناك مئات الوفيات في العاصمة وحدها. وأشارت النقابة إلى أن مستشفيات الخرطوم تعاني من نقص حاد في المحاليل الوريدية ومصادر المياه النظيفة، فضلاً عن غياب شبه تام لأجهزة التعقيم.
وفي سياق متصل، تسببت ضربات نفذتها قوات الدعم السريع مؤخراً باستخدام طائرات مسيّرة في استهداف ثلاث محطات كهرباء بولاية الخرطوم، ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي لعدة أيام، وتأثرت بذلك محطات معالجة المياه، بحسب منظمة "أطباء بلا حدود".
وقال أحد سكان أم درمان، بشير محمد، إن السكان اضطروا إلى جلب المياه مباشرة من نهر النيل، بواسطة عربات تجرها الحمير، في ظل غياب مصادر المياه النظيفة. وأكد طبيب من مستشفى النو أن المياه غير المعالجة تعد سبباً رئيسياً في تفشي المرض.
ورغم أن الكوليرا تُعد مرضاً متوطناً في السودان، إلا أن الحرب المستمرة والانهيار الشامل في القطاع الصحي ساهما في جعل التفشي الحالي أكثر حدة وخطورة. وتنتقل العدوى عادة عن طريق تناول طعام أو ماء ملوث ببكتيريا الكوليرا، وقد تؤدي إلى الوفاة خلال ساعات إذا لم تُعالج.
ومع تزايد أعداد المصابين، أطلق متطوعون نداءات عاجلة للكوادر الطبية ذات الخبرة لدعم الفرق الصحية في المستشفيات. وقال أحدهم إن أعداد المرضى تفوق قدرة المؤسسات الصحية، وإن كثيراً منهم يُعالجون في ممرات المستشفيات نظراً لامتلاء الأسرة.
وقد أجبرت الاشتباكات المسلحة ما يصل إلى 90% من مستشفيات البلاد على الإغلاق المؤقت، وفقاً لنقابة الأطباء. كما ذكرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن 70 إلى 80% من المرافق الصحية في المناطق المتأثرة بالحرب أصبحت خارج الخدمة.
وتستمر الحرب التي دخلت عامها الثالث في التسبب بكارثة إنسانية واسعة النطاق، حيث أودت بحياة عشرات الآلاف وتسببت في نزوح نحو 13 مليون شخص، وسط ما وصفته الأمم المتحدة بأنه "أسوأ أزمة إنسانية قائمة في العالم".
وفي محاولة للحد من انتشار الوباء، أعلن وزير الصحة السوداني عن توزيع جرعات تطعيم ضد الكوليرا في جميع الولايات المعرضة للخطر.