في مسيرة الحياة، التي تتشابك فيها أضواء العلم بأسرار الفن، تجلت على الدوام تلك العلاقة المعقدة بين الإبداع البشري وما صنعت يد الإنسان من آلات وأدوات، حتى وصلنا إلى عصر الذكاء الاصطناعي، ذلك العصر الذي بات فيه السؤال المحوري: هل العلاقة بين الفن والذكاء الاصطناعي – شراكة أم تنافس؟
إن الفن، بما هو تعبير عن أعمق مشاعر الإنسان وأرقى أفكاره، قد وجد في الذكاء الاصطناعي مسرحا جديدا للإبداع، فالذكاء الاصطناعي، بقدراته المدهشة، لم يعد مجرد أداة في يد الفنان، بل أصبح شريك يساهم في العملية الإبداعية، يفهم الأنماط، يتعلم من البيانات، ويخلق بدوره أعمالا يصعب على العقل البشري تخيلها.


لكن، وكما يرى البعض، فإن هذا التعاون لا يخلو من بعض أنواع التنافس، فبينما يتيح الذكاء الاصطناعي إمكانات لا حدود لها للإبداع، يثار القلق حول مستقبل الفنانين البشر ومكانتهم في عالم يزداد فيه الإنتاج الفني الآلي يوما بعد يوم
وهنا يأتي السؤال، هل يمكن لما ينتجه الذكاء الاصطناعي أن يحمل نفس العمق العاطفي والفكري الذي تتسم به الأعمال البشرية؟


على الجانب الآخر، يرى البعض أن هذا التطور يمكن أن يعزز من دور الفنانين، مانحا إياهم أدوات جديدة تتيح لهم تجاوز الحدود التقليدية للإبداع، وفتح آفاق جديدة للتعبير عن الذات بطرق لم يكن من الممكن تصورها في السابق.


إن التحدي الذي يواجهنا في هذا العصر هو كيفية توظيف تلك التكنولوجيا الجديدة بطريقة تعزز القيمة الإنسانية للفن. ليس بإنكار الدور الذي يمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في العملية الإبداعية، بل بالسعي إلى تحقيق توازن يضمن أن يظل الفن، في جوهره، تعبيرا عن الروح البشرية، مع احتضان الإمكانات الجديدة التي يفتحها هذا العصر، ولتحقيق هذا التوازن الراقي بين الفن وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ينبغي علينا أولا أن نعيد تعريف "الإبداع" في ضوء هذه التطورات الجديدة.


الإبداع ليس حكرا على الفكر البشري وحده، بل هو سعي دائم نحو الجديد والمبتكر، سواء كان ذلك من عقل إنساني أو من آلة تعلمت كيف تفكر.


من هنا، يجب على الفنانين والمبدعين أن يتعلموا كيف يعمل الذكاء الاصطناعي، وأن يستكشفوا الطرق التي يمكن بها دمج هذه التكنولوجيا في عملية الإبداع الفني. هذا لا يعني الاستسلام لهيمنة الآلة، بل العكس تماما؛ يعني استغلال قدراتها لتوسيع آفاق الإبداع البشري. يمكن للفنانين استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل الأعمال الفنية الكبيرة واستخلاص أنماط جديدة يمكن أن تلهم أعمال جديدة، أو استخدامه في خلق مواد فنية لم يكن من الممكن تخيلها بالطرق التقليدية. وبهذه الطريقة، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة تعاونية تعزز من قدرة الفنان على التعبير عن ذاته بطرق مبتكرة.


كما يجب على المجتمعات الفنية والثقافية تشجيع الحوار بين الفنانين وعلماء الكمبيوتر والمهندسين، لخلق فهم مشترك حول كيفية استخدام هذه التكنولوجيا بطريقة تحترم وتعزز القيم الإنسانية. يجب أن نسعى إلى إقامة ورش عمل وندوات ومعارض تجمع بين التكنولوجيا والفن، لتوفير منصة لتبادل الأفكار وتطوير طرق جديدة للتعاون.


وأخيرا، ينبغي على المؤسسات التعليمية دمج دراسة الذكاء الاصطناعي ضمن مناهج الفنون، لتزويد الجيل القادم من الفنانين بالأدوات والمعرفة اللازمة لاستخدام هذه التكنولوجيا بشكل إبداعي ومسؤول. إن تعليم الفنانين كيفية العمل مع الذكاء الاصطناعي، وليس ضده، سيفتح الباب أمام إمكانات لا حصر لها للتعبير الفني الذي يجسد، في النهاية، الروح الإنسانية بكل تجلياتها.


سيبقى الأمل معقودا على أن تكون العلاقة بين الفن والذكاء الاصطناعي شراكة تثري الإبداع البشري، بدلا من أن تكون تنافسا يهدد بإهمال الجانب الإنساني الذي يميز أعمالنا الفنية. لن نقف عند حد الدهشة من المزايا التي يوفرها هذا العصر الجديد، بل يجب أن نسعى دوما لاستخدام هذه الأدوات بطريقة تعمق من قدرتنا على الفهم والتعبير عن هذه الحياة بكل تعقيداتها وجمالها.


والآن، وقد تنقلنا في رحاب هذا الحديث الذي يجمع بين شطرين من الوجود، الفن والذكاء الاصطناعي، وقد استطلعنا آفاقا جديدة تفتحها هذه التكنولوجيا الفتية أمام الإبداع الإنساني، ينبغي علينا أن نقف وقفة تأمل، نزن فيها الأمور بميزان العقل والحكمة. ولنتذكر دائما أن الفن، في جوهره، هو تعبير عن الروح البشرية، هو ذلك النور الذي يضيء ظلمات الوجود، وهو الصوت الذي يحمل أعذب الألحان وأرق الهمسات. 

إن الذكاء الاصطناعي، بكل ما يحمله من طاقات، يجب أن يكون أداة تساعد في توسيع هذا النور، وتعزيز هذا الصوت، لا أن يكون ستارا يحجبه أو يخفت.


ولنتذكر دائما أن في قلب كل منا مكانا لا يمكن لأي آلة أن تدركه، مكانا ينبض بالحب والجمال والإبداع، وهو ما يجعلنا حقا بشرا...

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الذكاء الاصطناعي الفن الفن والذكاء الاصطناعي الفن والذکاء الاصطناعی الذکاء الاصطناعی هذه التکنولوجیا بین الفن

إقرأ أيضاً:

الذكاء الاصطناعي يعزز دقة التنبؤ بهياكل الأجسام المضادة

طوّر باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) نموذجًا حسابيًا جديدًا قادرًا على التنبؤ بهياكل الأجسام المضادة بدقة غير مسبوقة، مما قد يُحدث تحولًا كبيرًا في تصميم أدوية فعالة ضد أمراض معدية مثل كوفيد-19 وHIV.

الذكاء الاصطناعي يتجاوز التحديات السابقة
رغم التقدم الكبير الذي حققته نماذج الذكاء الاصطناعي المعتمدة على "نماذج اللغة الكبيرة" (LLMs) في التنبؤ بهياكل البروتينات، إلا أنها واجهت صعوبات عند التعامل مع الأجسام المضادة، خاصة بسبب المناطق شديدة التغير فيها والمعروفة بـ"المناطق مفرطة التغير". للتغلب على هذه العقبة، ابتكر فريق (MIT) تقنية جديدة تحسّن أداء هذه النماذج وتمنحها القدرة على فهم تعقيدات هذه البروتينات المناعية.
تقول بوني بيرغر، أستاذة الرياضيات في (MIT) ورئيسة مجموعة الحوسبة والبيولوجيا في مختبر علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي (CSAIL): «طريقتنا تسمح بالوصول إلى نطاق واسع من الاحتمالات، مما يتيح لنا إيجاد إبر حقيقية في كومة قش. وهذا قد يوفر على شركات الأدوية ملايين الدولارات بتجنب التجارب السريرية غير المجدية».

نموذج AbMap: أداة ذكية للتنقيب في بحر الأجسام المضادة
النموذج الجديد، الذي يحمل اسم (AbMap)، يعتمد على وحدتين مدربتين بشكل دقيق: الأولى تتعلم من بنى ثلاثية الأبعاد لحوالي 3000 جسم مضاد موجودة في قاعدة بيانات البروتينات (PDB)، والثانية تعتمد على بيانات تقيس مدى ارتباط أكثر من 3700 جسم مضاد بثلاثة أنواع مختلفة من المستضدات.
باستخدام (AbMap)، يمكن التنبؤ بهيكل الجسم المضاد وقوة ارتباطه بالمستضد، فقط من خلال تسلسل الأحماض الأمينية. وفي تجربة واقعية، استخدم الباحثون النموذج لتوليد ملايين التعديلات على أجسام مضادة تستهدف بروتين «سبايك» لفيروس SARS-CoV-2، وتمكّن النموذج من تحديد أكثرها فعالية.
وقد أظهرت التجارب بالتعاون مع شركة Sanofi أن 82 % من الأجسام المضادة المختارة باستخدام النموذج أظهرت أداءً أفضل من النسخ الأصلية.

اختصار الطريق نحو العلاجات الفعالة
يُعد هذا التقدم فرصة ذهبية لشركات الأدوية لتقليص الوقت والتكاليف اللازمة في مراحل البحث والتطوير. ووفقًا للبروفيسور روهيت سينغ، المؤلف المشارك للدراسة: «الشركات لا تريد المخاطرة بكل شيء في جسم مضاد واحد قد يفشل لاحقًا. النموذج يمنحها مجموعة من الخيارات القوية للمضي قدمًا بثقة».

تحليل الاستجابات المناعية على مستوى الأفراد
بعيدًا عن التطبيقات الدوائية، يُمكن للنموذج أن يُحدث نقلة في فهم التباين في الاستجابات المناعية بين الأفراد. فعلى سبيل المثال، لماذا يُصاب البعض بكوفيد-19 بشكل حاد، بينما ينجو آخرون دون أعراض؟ أو لماذا يبقى بعض الأشخاص غير مصابين بـHIV رغم تعرضهم للفيروس؟
الدراسة أظهرت أنه عند مقارنة البنية الثلاثية للأجسام المضادة بين الأفراد، فإن نسبة التشابه قد تكون أعلى بكثير من النسبة التي تُظهرها المقارنة الجينية التقليدية (10%). وهذا قد يفتح الباب لفهم أعمق لكيفية عمل جهاز المناعة وتفاعله مع مسببات الأمراض المختلفة.
يقول سينغ: «هنا يتجلى دور نماذج اللغة الكبيرة بوضوح، فهي تجمع بين نطاق التحليل الواسع القائم على التسلسل الجيني ودقة التحليل البنيوي».

دعم وتمويل دولي
حظي البحث بدعم من شركة Sanofi وعيادة عبد اللطيف جميل لتعلم الآلة في مجال الصحة، مما يعكس تزايد اهتمام المؤسسات العالمية بالذكاء الاصطناعي كأداة استراتيجية في الطب الحيوي.
بهذا الإنجاز، يُبرهن الذكاء الاصطناعي مجددًا على قدرته في إحداث ثورة صامتة في المختبرات الطبية، حيث لا تقتصر فوائده على التسريع والتحليل، بل تمتد لتوجيه القرارات الحاسمة التي قد تُنقذ أرواح الملايين.
أسامة عثمان (أبوظبي)

أخبار ذات صلة «جيميني» يلخص الرسائل الطويلة في «جي ميل» الذكاء الاصطناعي يدخل غرف العمليات الجوية

مقالات مشابهة

  • لا للاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الأحكام الشرعية بماليزيا
  • معلمو عُمان والذكاء الاصطناعي.. قيادة تحويلية نحو المستقبل
  • فيلم «الرمز 8».. الذكاء الاصطناعي يشعل الصراع بين ذوي القدرات الخارقة
  • هل يصبح الخليج قوة عظمى في الذكاء الاصطناعي؟
  • خبراء: الذكاء الاصطناعي لا يهدد الوظائف
  • هل يُعلن الذكاء الاصطناعي نهاية الفأرة ولوحة المفاتيح؟
  • بعد حصولها على جائزتين دوليتين: فَيّ المحروقية تطمح للتخصص في الذكاء الاصطناعي
  • بعد حصولها على جائزتين دوليتين: في المحروقية تطمح للتخصص في الذكاء الاصطناعي
  • عاجل | فتح باب التقدم لخريجي المدارس الفنية للالتحاق بكليات الحاسبات والذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي يعزز دقة التنبؤ بهياكل الأجسام المضادة