قال الأكاديمي والباحث الفرنسي فرانسوا بورغا إن السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي أسهم في مساعدة عدد كبير من بلدان الجنوب، بما فيها جنوب أفريقيا وأيرلندا وإسبانيا إلى حد ما، على إبراز وعي تشير كل المقاييس إلى أنه أمر لا رجعة فيه.

وأضاف -أستاذ العلوم السياسية والباحث بالهيئة القومية الفرنسية للبحث العلمي في مدينة آكس أون بروفانس (Aix-En-Provence) جنوب شرق فرنسا- أن "الأيديولوجية الصهيونية كما تتبناها النخبة الحاكمة الحالية، بل وأيضا غالبية معارضي نتنياهو، أيديولوجية طائفية وعنصرية تشبه إلى حد كبير أيديولوجية داعش التي لا تسمح بأي شكل من أشكال التعايش".

واعتبر -في حواره مع الجزيرة نت- أن إسرائيل لم تسع يوما إلى السلام بل فقط إلى الأرض بكل الوسائل، حتى غير القانونية، وقد حظي القادة الإسرائيليون بدعم أعمى في هذا الأمر من قبل شركائهم الغربيين.

وأوضح أن يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي "أطلق عملية تعني أن إسرائيل ربما لن تكون قادرة على الاستمرار دون عقاب في اتباع مثل هذه الطرق المختصرة فيما يتعلق بالقانون الدولي، أو المبادئ الإنسانية الأساسية"، فإلى الحوار:

ماذا يعني انتشار ما سماه البعض "الحراك الطلابي" المناصر لغزة من جامعة كولومبيا إلى جامعات أميركية وأوروبية وآسيوية وغيرها في سياق قضية فلسطين؟

هذه التعبئة لجزء من الشباب على الأقل، وبينهم عدد لا بأس به من اليهود، داخل المؤسسات الجامعية المرموقة مؤشر مهم وإيجابي للغاية في الوقت نفسه. وهي تذكرنا بالدور الإيجابي البارز الذي لعبته الجامعات الأميركية في إدانة حرب الولايات المتحدة على فيتنام الشمالية.

ويعوِّض الشباب الغربيون هنا أخطاء أو جبن العديد من إخوتهم الكبار. ومن الجدير بالذكر أن العمر الحالي لهؤلاء يعني أنهم هم الفاعلون في المستقبل! وهم في فرنسا والولايات المتحدة من ينقذون شرف الطبقة السياسية بأكملها.

أغلبية المثقفين والفنانين ظلوا صامتين حتى يومنا هذا بسبب الجبن أكثر مما هو بسبب القناعة

ففي الولايات المتحدة لا يوجد حقيقة فرق فيما يتعلق بهذه القضية بين بايدن وترامب. أما في فرنسا، فاتخذت مجموعة سياسية واحدة هي "حزب فرنسا الأبية" "إل إف آي" (LFI)، وهي أقلية كبيرة، موقفا واضحا ضد الانجراف الفاشي والطائفي للإسرائيليين، وهم بذلك ينقذون شرف أغلبية المثقفين والفنانين الذين ظلوا صامتين حتى يومنا هذا بسبب الجبن أكثر مما هو بسبب القناعة.

هل تعد اعتصامات الطلاب في الجامعات الغربية بداية نهاية تغوّل الصهيونية في المؤسسات التعليمية والأكاديمية والإعلامية، وفك ربطها بالديانة اليهودية؟

إذا أردنا أن نكون متفائلين، فيمكننا بالفعل أن نعتبر ذلك "بداية النهاية" لسيطرة الصهاينة المذهلة على مؤسسات التعليم العالي، وخاصة في الولايات المتحدة، حيث يزرعون الإرهاب بالمعنى الحرفي للكلمة، وذلك عبر المشاركة الكبيرة للجالية اليهودية في تمويل الجامعات.

أما في فرنسا، فقد احتفظ المعهد الوطني للبحوث العلمية "سي إن آر إس" (CNRS) ورئاسة الجامعات لفترة طويلة باستقلالية معينة وحتى في سلوكهم، وبالفعل سهّل هذا الاستقلال كون الجامعات تتلقى تمويلا عموميا بشكل شبه حصري خلافا لما في الولايات المتحدة. غير أن موقف هذه المؤسسات، منذ بداية الأزمة الأخيرة، وخاصة السهولة التي خضعت بها لمطالب حظر خطابات المدافعين عن فلسطين، يثير اليوم للأسف الشكوك حول هذا الاستقلال.

تم فض اعتصامات الطلاب في حرم الجامعات برجال الشرطة، هل ستتحول وظيفة هذه المؤسسات التعليمية من محاضن لتعليم حرية التعبير إلى مكان لضبط وقمع الحريات؟

لا يزال من السابق لأوانه إظهار مثل هذا التشاؤم، غير أنه من الواضح أن هذه العملية جارية، وهي أحد أكثر الجوانب السلبية لهذه الأزمة الأخيرة. فالجامعات في فرنسا قد استفادت تقليديا من امتياز جعلها بعيدة عن متناول الضغوط السياسية المباشرة، ولكن هذا الامتياز القديم يساء استخدامه حاليا بشكل يومي.

وتثير لوائح الاتهام الموجهة إلى النقابيين أو الفاعلين السياسيين بتهمة "التعاطف مع الإرهاب" كثيرا من القلق. وفي "بلد تشارلي"، الذي يفترض أنه يشجع أنواع السخرية الأكثر تطرفا (شريطة أن تستهدف المسلمين)، فإن الاتهام الأخير لممثل كوميدي بمعاداة السامية يغذي هذه المخاوف بشكل مشروع.

كيف نفهم تمويل الغرب للحرب الإسرائيلية على غزة في مقابل احتجاجات من الشعوب والشباب الغربي ضد هذه الحرب؟

على الساحة الدولية، من المؤكد أن موقف الحكومات الغربية غير عقلاني في ضوء مصالحها الاقتصادية والسياسية المفهومة جيدا على الأمدين المتوسط والبعيد، ولكنها مع الأسف لا تزال منسجمة تقريبا مع "متابعتهم" لاتجاه ناخبيهم.

من الضروري أن نفهم أن ضعف الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية ناتج عن المواقف المتغيرة داخل العائلتين السياسيتين الرئيسيتين في البلاد، اليمين واليسار.

ومن التفاؤل الزائد أن نعتقد أن الناخبين الفرنسيين، على سبيل المثال، يدعمون الفلسطينيين بشكل أساسي، لأن هذا أبعد ما يكون عن الواقع. ومن الضروري أن نفهم أن ضعف الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية ناتج عن المواقف المتغيرة داخل العائلتين السياسيتين الرئيسيتين في البلاد، اليمين واليسار.

فاليمين، الذي أصبح اليوم مهيمنا وفي طور تعزيز مكانته، انتقل ببطء من معاداة السامية القديمة، أعني المعاداة الحقيقية، لا تلك التي يستخدمها الإسرائيليون لتشويه سمعة أدنى انتقاد موجه إليهم، نحو كراهية الإسلام الراديكالية على نحو متزايد.

وترتبط مصادر هذا التحول، في نظري، برفض اليمين لمختلف أشكال التعبير عن تصفية الاستعمار. وأكثر من الشخص المسلم، فإن الشخص "التحرري" هو المرفوض حقيقة. والإسرائيليون لا يتلقون الدعم لذاتهم، ولكن لأنهم يقتلون دون عقاب أولئك المسلمين الذين طردونا من الجزائر أو من أي مكان آخر.

يرفض اليمين لمختلف أشكال التعبير عن تصفية الاستعمار، أما بالنسبة لليسار، فإن إحجامه المعلن عن دعم المقاومة الفلسطينية يرتكز على حقيقة أنه منذ عام 2006، عندما وصلت حماس إلى السلطة، أصبحت قيادة المقاومة تعتبر "إسلامية".

أما بالنسبة لليسار، فإن إحجامه المعلن عن دعم المقاومة الفلسطينية يرتكز على حقيقة أنه منذ عام 2006، عندما وصلت حماس إلى السلطة، أصبحت قيادة المقاومة تعتبر "إسلامية". ونحن نعلم أن الحمض النووي لليسار الفرنسي (وهذا ما يميزه عن العالم الساكسوني)، كان منذ الثورة الفرنسية الكفاح التحرري ضد الكنيسة التي كانت حليفا نشطا لاستبداد السلطة الملكية، ويحظر أي توغل للدين في الفضاء السياسي.

ومع ذلك فإن ذريعة ما يسمى "الدفاع عن العلمانية" أو مناهضة رجال الدين تبدو هشة بشكل خاص، ويكفي أن نلاحظ في الواقع أن الاضطراب الهائل، إن لم نقل السيطرة التي تزداد وضوحا يوما بعد يوم، للدين على سياسة إسرائيل، حيث لم تعد "كتب الله الأرض لشعب التنوير"، حسب تعبير نتنياهو، تعني شيئا ولا تشكل أدنى مشكلة.

وعليه فإن كل شيء يشير إلى أن قوى اليسار قد انخرطت لاشعوريا في رفض عاطفي مماثل، ليس ضد المسلم الذي هو رمز ذلك الرفض، بل لكامل الشعوب التي كانت بالأمس مستعمرة، وكل أولئك الذين جابهونا لكي يتحرروا من الاستعمار.

وبالطبع، عززت هجمات العام 2015 بطريقة عاطفية للغاية هذا الرفض، الذي غذَّته دعاية إسرائيلية كانت تسعى دائما (وقبل ظهور حماس بفترة طويلة) إلى أن تجعل الغربيين يربطون المقاومة الفلسطينية "بالإرهاب الإسلامي"، وقد نجحت في ذلك جزئيا على الأقل.

ومن المناسب أن نذكر هنا بأن شارون في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، صرخ في وجه الغربيين قائلا "عندكم بن لادن، عندنا عرفات".

آلاف الفلسطينيين الذين قُتلوا في غزة لا يموتون اليوم "عبثا"، وإن تضحياتهم لن تساهم فقط في مواجهة الإمبريالية الطائفية الإسرائيلية، بل ستسمح أيضا لأولئك الذين دعموها بشكل أعمى لفترة طويلة، أن يدركوا مدى خطئهم ومدى العداء الباهظ التكلفة الذي يصيبهم من هذا الدعم.

فتح طوفان الأقصى أعين الشباب والناس حول العالم على جرائم الإبادة الإسرائيلية الجماعية التي صدرت في حقها قرارات أممية لم تنفذ، هل يساهم ذلك في نهاية الأحادية غير الأخلاقية وغير القانونية في ظل تمسك الشباب الغربي خاصة بالمشترك الإنساني؟

إذا أردنا أن نكون متفائلين نعم، يمكننا أن نقول إن آلاف الفلسطينيين الذين قُتلوا في غزة لا يموتون اليوم "عبثا"، وإن تضحياتهم لن تساهم فقط في مواجهة الإمبريالية الطائفية الإسرائيلية، بل ستسمح أيضا لأولئك الذين دعموها بشكل أعمى لفترة طويلة، أن يدركوا مدى خطئهم ومدى العداء الباهظ التكلفة الذي يصيبهم من هذا الدعم. ومن الواضح أن هذه العملية جارية في الولايات المتحدة. وقد أسهم السابع من أكتوبر في مساعدة عدد كبير من بلدان الجنوب، بما فيها جنوب أفريقيا وأيرلندا وإسبانيا إلى حد ما، على إبراز وعي، تشير كل المقاييس، إلى أنه أمر لا رجعة فيه.

هناك حاليا طريقتان للخروج من الأزمة التي نتجت عن إنشاء إسرائيل عام 1948 وتوسعها الحالي، إما الخروج "وفق مثال جنوب أفريقيا"، أو هناك باب الخروج الآخر "الجزائري"، أي أنه سيفرض رحيل إحدى الطائفتين أو السيطرة الصارمة عليها، وهذا هو الخيار الذي مارسته إسرائيل دون عقاب منذ إنشائها.

هل يمكن أن يقود حل الدولتين الذي عارضته أميركا في الأمم المتحدة إلى تمكين الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره وحل القضية الفلسطينية؟

هناك حاليا طريقتان للخروج من الأزمة التي نتجت عن إنشاء إسرائيل عام 1948 وتوسعها الحالي، إما الخروج "وفق مثال جنوب أفريقيا" ويعني ضمنا أنه، أيًّا كان الشكل المؤسسي، دولتان أو دولة واحدة، ستكون هناك مصالحة بين الخيال السياسي والطموحات والأجندات الخاصة بالطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.

غير أن كل شيء يشير إلى أن الجانب الإسرائيلي، وبشكل أكثر وضوحا، يبذل قصارى جهده لمنع ظهور مثل هذا المنظور، لأن الأيديولوجية الصهيونية كما تتبناها النخبة الحاكمة الحالية، بل وأيضا غالبية معارضي نتنياهو، أيديولوجية طائفية وعنصرية، تشبه إلى حد كبير أيديولوجية داعش التي لا تسمح بأي شكل من أشكال التعايش.

ثم يبقى هناك باب الخروج الآخر، وقد يكون من النوع "الروديسي" أو "الجزائري"، أي أنه سيفرض رحيل إحدى الطائفتين أو السيطرة الصارمة عليها، وهذا هو الخيار الذي مارسته إسرائيل دون عقاب منذ إنشائها، إذ إنها لم تسع يوما إلى السلام بل فقط إلى الأرض بكل الوسائل، حتى غير القانونية، وقد حظي القادة الإسرائيليون بدعم أعمى في هذا الأمر من قبل شركائهم الغربيين.

غير أن يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي أطلق عملية تعني أن إسرائيل ربما لن تكون قادرة على الاستمرار دون عقاب في اتباع مثل هذه الطرق المختصرة فيما يتعلق بالقانون الدولي أو المبادئ الإنسانية الأساسية.

ويبقى مع ذلك، أن المستوطنين الإسرائيليين يمتلكون الآن أسلحة نووية، وما لم تتمكن إيران من امتلاك مثلها، فإنهم سيبقون الوحيدين في المنطقة الذين يستطيعون التلويح بمثل هذا التهديد.

كانت هذه بعض المعطيات التي يمكن أن تحدد مستقبل هذه المنطقة، ولكن سأتوقف هنا، لأنني غير قادر مطلقا على إخباركم بأيّها سينتصر.

موقف الحكومات الغربية بقيادة الولايات المتحدة سوف يسهم في تسريع تشويه صورتها أمام "الجنوب العالمي".

ما التأثيرات المتوقعة للعدوان الإسرائيلي ضد غزة على الدول العربية والغربية في ظل صمود روسيا وتنامي قوة الصين؟

من الواضح أن عرض العنف الإسرائيلي اللامتناهي قد وسّع الفجوة أكثر بين الشعوب العربية وقادتها الذين اختاروا طريق "التطبيع" السهل مع مرتكب المجازر أو امتنعوا عن أي شكل من أشكال الاحتجاج غير اللفظي.

ومن الواضح أن موقف الحكومات الغربية بقيادة الولايات المتحدة سوف يسهم في تسريع تشويه صورتها أمام "الجنوب العالمي"، رغم ما يميز هذا الجزء من العالم من التنوع. ومن المرجح أن يتمكن القادة الروس والصينيون، على الرغم مما ينخرهم من تناقضات رهيبة (في الشيشان أو سوريا أو أراضي الإيغور) من الاستفادة من ذلك.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات فی الولایات المتحدة السابع من أکتوبر جنوب أفریقیا من الواضح أن دون عقاب فی فرنسا غیر أن إلى حد إلى أن

إقرأ أيضاً:

الناخبون الهنود يستيقظون أخيرا

في الأسابيع التي سبقت إعلان نتائج الانتخابات في الهند، سيطر شعور بالخوف على الملايين من الأفراد الذين يعتزون بمبادئ الديمقراطية العلمانية في البلاد.

طوال عملية التصويت الماراثونية، كان من المحتم أن يحقق رئيس الوزراء ناريندرا مودي، الذي حشد قاعدته الهندوسية اليمينية بالاعتداءات المستمرة على القيم التأسيسية للهند والأقليات والآداب العامة، فوزًا ساحقًا للمرة الثالثة على التوالي. وكان حزبه بهاراتيا جاناتا متأكداً من فوزه بحصة أكبر من المقاعد البرلمانية، حتى أنه خلال فترة التحضير الطويلة للانتخابات العامة، سخر من المعارضين بشعار: «هذه المرة، 400 أكثر».

ولكن مع بدء ظهور نتائج الانتخابات يوم الثلاثاء، بدا الأمر كما لو أن شخصًا ما شعر بالارتياح، وخرجت الهند من فترة طويلة من التنويم المغناطيسي. ومودي، الذي ادعى مؤخراً أن ولادته لم تكن حدثاً «بيولوجياً» بل كان مرسلاً من الله، فشل حتى في منح حزبه أغلبية برلمانية بسيطة، مما جعله غير قادر على تشكيل حكومة بمفرده. ومن المرجح أن يظل رئيسا للوزراء لفترة ولاية أخرى مدتها خمس سنوات، ولكن يبدو أن سحره على الناخبين قد انكسر، ومعه ربما وصل مشروع «هندوتفا»، مشروع حزب بهاراتيا جاناتا لتحويل الهند إلى دولة قومية ذات أغلبية هندوسية، إلى طريق مسدود أخيرا.

لقد جعل مودي نفسه فوق مستوى الدولة منذ وصوله إلى السلطة لأول مرة في عام 2014، إلا أنه قد تضاءل الآن. في انتخابات 2019، حصل حزبه على 303 مقاعد من أصل 543. وتعاملت حكومته، التي ضمت أيضاً 50 برلمانياً من شركاء صغار في الائتلاف، مع المعارضة بقسوة. هذه المرة، حصل حزب مودي على عدد أقل بكثير من المقاعد البالغ 240 مقعدا، لكنه سيكون قادرا على تشكيل حكومة ائتلافية أخرى فقط بمساعدة الشركاء الذين تشتد الحاجة إليهم أكثر من أي وقت مضى. تحالف المعارضة (I.N.D.I.) الذي شكله حزب المؤتمر الوطني الهندي الذي كان مهيمنًا في السابق، بتحالفه مع أكثر من عشرين حزبًا معظمها أحزاب إقليمية، كان يعادل تقريبًا حزب بهاراتيا جاناتا على الرغم من عدم وجود ساحة انتخابية عادلة إلى حد كبير.

خلال الأعوام العشرة التي قضاها في السلطة، نجح حزب مودي، بأسلوب الأنظمة الاستبدادية، في الاستيلاء على كل المؤسسات المهمة في الهند تقريبًا. يعد الحزب أحد أغنى الأحزاب السياسية في العالم، وقد أنشأ آلية لجمع الأموال، التي أعلنت المحكمة العليا في الهند عدم دستوريتها في وقت سابق من هذا العام، للاستفادة من التبرعات السياسية مجهولة المصدر. لقد طارد الحزب منافسيه باستخدام المؤسسات الحكومية، وورطهم في تحقيقات لا نهاية لها، وجمّد الحسابات المصرفية للأحزاب، بل وسجن اثنين من رؤساء الحكومات من الولايات التي تسيطر عليها المعارضة في الفترة التي سبقت التصويت. استعمل حزب بهاراتيا جاناتا سلطته وأمواله وضغوطه لتقسيم الأحزاب السياسية الأخرى وبث الانشقاقات فيها. لقد نجح فعلياً في تحويل محطات البث التلفزيوني والصحف الكبرى إلى أذرع دعائية، حيث يُكافأ مالياً أولئك الذين يدعمون الحزب، ويحول أولئك الذين لا يدعمونه إلى المؤسسات القانونية.

تعاملت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة مع الانتخابات باعتبارها منافسة بين فائز طبيعي مضمون، ومجموعة من الطامحين. في النهاية، نجح تحالف المعارضة I.N.D.I.، الذي يمثله (راهول غاندي) من حزب المؤتمر، في كسب تأييد الناخبين الذين عانوا من عواقب أخطاء حكم مودي ومن المعلومات غير الصحيحة التي نشرها عبر وسائل الإعلام.

لقد حطّم التحالف الجديد هالة مودي الذي لا يقهر، برسالته الداعية إلى العودة إلى أصول العمل السياسي، مركزا على عدم قدرة رئيس الوزراء في تحقيق حتى الحد الأدنى من المكاسب الاقتصادية للعديد من المواطنين، الذين يواجهون معدلات بطالة مرتفعة تاريخياً، وارتفاع الأسعار، وتزايد عدم المساواة حتى فترة إزدهار الأسواق المالية.

إنّ الإيمان بتحالف I.N.D.I. يعد بمثابة قفزة مليئة بالأمل، وأداءه في الانتخابات يعد إعلانا مهما بأنه لا تزال هناك أحزاب في الهند، على الرغم من الخلافات بينها وثقافة الخوف التي ساعدت في حفاظ مودي على سلطته، يوحدها الالتزام بالقيم الدستورية والإرادة للوقوف ضد مشروع هندوتفا. يضم التحالف قاعدة سياسية وطنية واسعة، منهم سياسيون من الولايات أكثر تقدمًا اجتماعيًا واقتصاديًا من العديد من الولايات التي يسيطر عليها الحزب الحاكم. يستطيع التحالف البناء على نجاحه، والوقوف في وجه السيد مودي، وهو أمر يعد بمثابة بشائر جيدة لمستقبل البلاد.

في وقت سابق من هذا العام، افتتح مودي معبدًا هندوسيًا جديدًا في مدينة أيوديا المقدسة. وكان ذلك تتويجاً لحملة هندوسية يمينية لبناء معبد في موقع مسجد عُمْرُهُ قرون من الزمن، والذي هدم بشكل غير قانوني على يد حشد من الهندوس في عام 1992. وكان من المفترض أن يمثل هذا البناء انتصار مشروع هندوتفا، وتهميش 200 مليون هندي مسلم، الذين شوه مودي صورتهم، وهوجموا بعنف من قبل بعض المتطرفين الهندوس، وبذلك يضمن مودي ولاء الناخبين الهندوس الذي كان يظن أنهم سيحملونه إلى نصر سهل. ولكن حتى مع وجود المعبد، بالإضافة إلى مطار جديد بالقرب من أيوديا وطرق جديدة ومحطة سكة حديد مجددة لجلب المصلين الهندوس، خسر حزبه المقعد البرلماني في دائرة فايز آباد، حيث تقع أيوديا.

وفي الوقت الذي ركزت فيه حملة تحالف I.N.D.I. على حكم مودي وهدف حزب بهاراتيا جاناتا المتمثل في تغيير كامل للدستور، لجأ رئيس الوزراء إلى إجراءات متطرفة، واتهم المعارضة بالتخطيط لمنح السيطرة للمسلمين. ومع ذلك، يبدو أن هذا الخطاب المتزايد المعادي للمسلمين يأتي بنتائج عكسية، فبالرغم من احتفاظ مودي بمقعده رئيسا للوزراء، كان هامش فوزه أقل مما كان عليه في الانتخابات الأخيرة.

لقد نجح التحالف في تقليص حجم مودي، وأعاد فتح الأفق السياسي في البلاد. سيبقى مودي في السلطة، ولكن هناك بارقة أمل في أن حكومته، التي تعتمد في بقائها على شركاء لا يتبنون مشروع هندوتفا، سيكون لديها نطاق ضيق لتقويض الديمقراطية، أو إرهاب المسلمين ومنتقدي الحكومة، وأن البرلمان ومؤسسات الدولة، مثل المحاكم، سوف تعود للعمل مرة أخرى كما كانت عليه من قبل.

على أرض الواقع، لم يتم التخلص من التغييرات التي أحدثتها حركة هندوتفا التابعة لمودي على مدى السنوات العشر الماضية، وهناك الكثير مما يتعين القيام به. ولكن أنصار الهند الديمقراطية العلمانية أصبح بوسعهم الآن أن يتنفسوا الصعداء ولو قليلاً.

مقالات مشابهة

  • الأمم المتحدة تعتزم إدراج إسرائيل بالقائمة السوداء للدول المؤذية للأطفال
  • الطريق الثالث…!!
  • جرائم حرب وإبادة.. الأمم المتحدة تقدم لمجلس الأمن أدلة مهمة تدين داعش في العراق
  • بجانب داعش والقاعدة.. إدراج إسرائيل بالقائمة السوداء للدول والمنظمات التي تلحق الأذى بالأطفال
  • هل وصلت رسالة داعش عبر عوكر إلى الدول الأوروبية؟
  • الناخبون الهنود يستيقظون أخيرا
  • ديفيد هيرست ..”إسرائيل” تشبه الصليبيين أكثر فأكثر وقد تلقى مصيرهم
  • كاتب بريطاني مخضرم: إسرائيل تشبه الصليبيين أكثر فأكثر وقد تلقى مصيرهم
  • اللوبي الصهيوني.. الثقب الأسود في السياسة الأمريكية
  • طفل الكونغرس.. قصة أشهر شخصية في أميركا حاليا