يبدو أن روسيا قد شرعت في المضي قدما نحو سلم التصعيد.

ويبدو لي أن ولاية الرئيس بوتين الجديدة، وبرغم أنها لم تكن في حد ذاتها عاملا في تغيير التكتيكات والاستراتيجيات الروسية، إلا أنها تزامنت مع تغيرات كبيرة في الظروف الخارجية، ما أجبر روسيا على أن تكون أكثر صرامة في تفاعلها مع الغرب.

إقرأ المزيد كيف يكون شكل العالم بانتصار الصين أو الولايات المتحدة في الحرب بينهما؟

أولا، يقترب الوضع على الجبهة بالنسبة لأوكرانيا من الكارثة المحققة، ومع تسارع الهجوم الروسي، تزداد احتمالية انسحاب القوات الأوكرانية إلى الضفة اليمنى لنهر دنيبر.

وكارثة الاقتصاد والتعبئة العامة تقترب بشكل كبير من درجة التوتر الداخلي في المجتمع الأوكراني على خلفية نهاية ولاية زيلينسكي الرئاسية. باختصار، اقترب الوضع في أوكرانيا بالنسبة للغرب من خياري: إما قبول الهزيمة، أو الدخول في حرب مع روسيا، وهو ما يسبب رد فعل هستيري وغير مدروس للغاية من قبل الغرب. لا أعتبر كلمات إيمانويل ماكرون بشأن إرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا خطيرة للغاية. لكن دور بريطانيا في الأحداث المحيطة بأوكرانيا خطير للغاية، وافعالها هي التي يمكن أن يكون لها تطورات عنيفة للغاية.

وعلى هذه الخلفية، وقعت عدة أحداث لا يسعني سوى أن أربطها بعضا ببعض.

لقد وضعت روسيا الرئيسين الحالي والسابق لأوكرانيا، زيلينسكي وبوروشينكو، إضافة إلى عدد من المسؤولين الأوكرانيين رفيعي المستوى، حاليين وسابقين، على قائمة المطلوبين. وأنا لا أتفق مع الرأي القائل بأن روسيا بذلك لا تسعى إلا إلى استبعادهم من عملية المفاوضات المحتملة. فزيلينسكي لن يتخلى عن السلطة، والرئيس السابق، ووزيرا الخارجية والداخلية لا أهمية لهم الآن، ومن غير المرجح أن يكون لهم أي أهمية على الإطلاق.

وفي رأيي المتواضع، فإن هذا نوع من سحب الاعتراف بالانتخابات الأولى، وجميع الانتخابات اللاحقة بأوكرانيا بعد انقلاب 2014. واسمحوا لي أن أذكركم بأن استفتاء شبه جزيرة القرم، وضمها إلى روسيا استند إلى الحجة الروسية القائلة بأن نتيجة للانقلاب، وقبل الانتخابات التالية، انهارت الدولة الأوكرانية. وهو ما يعني، في رأيي، أن روسيا اتخذت خطوة نحو الاعتراف بالغياب الراهن للدولة في الأراضي الأوكرانية سابقا، وهو ما يعززه فقدان زيلينسكي للشرعية، حتى بالنسبة لعدد من الأوكرانيين، بانتهاء مدة رئاسته في 21 مايو. وإضافة إلى حرية العمل لتوسيع روسيا بشكل أكبر، فإن سحب الاعتراف بالانتخابات من شأنه أن يفتح الطريق أمام الاعتراف بأوكرانيا كأرض محتلة من الغرب، وبالتالي سيجعل الغرب مشاركا مباشرا في الحرب مع روسيا، مع إمكانية رد عسكري مشروع من قبل موسكو.

علاوة على ذلك، فقد أدى تصريح وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون بشأن موافقة بريطانيا على استخدام أوكرانيا للصواريخ البريطانية لمهاجمة الأراضي الروسية إلى حدوث انقسام في الغرب. لكن الأمر الرئيسي هو أنه دفع نحو رد فعل قاس بشكل غير عادي من جانب روسيا. وتزداد أهمية ذلك بالنظر إلى أن أوكرانيا استخدمت في السابق الصواريخ البريطانية عدة مرات لضرب الأراضي الروسية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، ولم يستلزم ذلك أي رد من وزارة الخارجية الروسية.

وقد تم استدعاء السفيرين الفرنسي والبريطاني إلى مقر وزارة الخارجية الروسية، وقيل للأخير إن تصريحات ديفيد كاميرون تعترف ببريطانيا كطرف في الصراع، وأن الرد على الضربات الأوكرانية باستخدام الأسلحة البريطانية على الأراضي الروسية يمكن أن يكون بضرب أي منشآت ومعدات عسكرية بريطانية على أراضي أوكرانيا وخارجها.

بالتزامن، أعلنت روسيا إجراءها مناورات لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية في المنطقة العسكرية الجنوبية.

فلماذا إذن في المنطقة العسكرية الجنوبية؟

في رأيي أن الخطوات المذكورة أعلاه كافية للاعتراف ببريطانيا كمعتد على روسيا في حالة الهجمات المتوقعة بالصواريخ البريطانية على الأراضي الروسية.

إقرأ المزيد الولايات المتحدة توقف الهجوم الإسرائيلي على إيران لتبدأ تصعيدا مع الصين

ومع ذلك، فبريطانيا عضو في "الناتو"، وإذا كان على روسيا أن تبدأ صراعا مفتوحا معها، فينبغي أن يكون ذلك على نحو لا يشمل أعضاء آخرين في الحلف.

وبيان كاميرون ثم التحذير من العواقب من جانب روسيا يضفي الشرعية على أي رد روسي ضد بريطانيا، ويقلل من احتمالات الرد الجماعي لحلف "الناتو".

في الوقت نفسه، لا تجري مناورات بالأسلحة النووية التكتيكية في منطقتي موسكو أو لينينغراد العسكريتين، المتاخمتين لأعضاء "الناتو" الأوروبيين، بل في المنطقة الجنوبية، التي لا تشكل تهديدا مباشرا لأوروبا، لكنها أقرب إلى الشرق الأوسط، الذي يوجد على أراضيه عدد من المنشآت العسكرية البريطانية المناسبة لتوجيه ضربة انتقامية، دون المخاطرة بجر دول "الناتو" الأخرى إلى الصراع.

ومن الأحداث الأخرى التي تستحق الإضافة إلى القائمة، المقابلة الجديدة التي أجراها مؤخرا السياسي والخبير الروسي الشهير سيرغي كاراغانوف، والتي حدد فيها الأهداف الأولى للضربات النووية الروسية (قواعد أمريكية، ثم عدد من الدول الأوروبية) في حال اضطرار روسيا لاتخاذ مثل هذه التدابير. بإمكانكم مشاهدة الفيديو بقناتي على تطبيق "تليغرام" من خلال هذا الرابط.

واسمحوا لي أن أذكركم بأن كاراغانوف يصر على أنه من أجل منع نهاية العالم "الهرمجدون" من الضروري إعادة الخوف وغريزة الحفاظ على الذات إلى نفوس السياسيين الغربيين، ومن الأفضل القيام بذلك من خلال الاستخدام المحدود للأسلحة النووية، أو على الأقل من خلال التحرك التدريجي على سلم التصعيد النووي.

وأود تسليط الضوء في هذه المقابلة على تصريحه بأن بريطانيا ليست من الأهداف ذات الأولوية لضربة نووية، لأنها لا تشكل تهديدا عسكريا لروسيا. أنا متأكد من أن هذا الرأي حول القوة العسكرية البريطانية تشاركه النخبة الروسية بأكملها. ومجموعة هذه العوامل، افتقار بريطانيا إلى القدرات الجادة التي تمكنها من إلحاق ضرر جسيم بروسيا بالأسلحة التقليدية، والانقسام بين دول "الناتو" بشأن أعمال بريطانيا الاستفزازية، والتأثير السياسي الأقصى حتى لو كانت صفعة صغيرة على وجه لندن، كل هذه العوامل تجعل من بريطانيا هدفا مثاليا للانتقام الروسي، ولكن ليس بالأسلحة النووية، وإنما بالتقليدية.

وأستبعد بشكل كبير أن يكون توقيت مقابلة كاراغانوف وتصريحاته كانا من قبيل الصدفة.

ففي الاجتماع الأخير لنادي فالداي، سأل كاراغانوف بوتين عما إذا كان الوقت قد حان لإجراء تغييرات على العقيدة النووية للبلاد، وخفض حاجز استخدام الأسلحة النووية.

ومن المعروف للجميع أن فلاديمير بوتين هو أحد أكثر السياسيين حذرا وحبا للسلام في العالم، لا سيما في الفترات الفاصلة بين بعض خطواته المفاجئة، والتي لن أقوم بسردها. وبطبيعة الحال، رفض بوتين، كما كان متوقعا، اقتراح كاراغانوف، مؤكدا مرة أخرى سمعته كسياسي متوازن ومسؤول للغاية.

في الوقت نفسه، وكما نرى، من خلال الإعلان عن المناورات باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، فقد خطت روسيا خطوة على سلم التصعيد النووي الذي اقترحه كاراغانوف. وهي ليست خطوة صغيرة، بالنظر إلى الظروف الأخرى المصاحبة والمذكورة أعلاه.

فالمناورات النووية يمكن تفسيرها أيضا بأنها استعداد لضرب القوات الغربية التي تدخل أوكرانيا في منطقة أوديسا، إذا تدخل حلف "الناتو" في الصراع بأوكرانيا (وهو ما حذر منه بوتين في خطابه 24 فبراير 2022، اليوم الذي بدأت فيه العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا).

ويمكن تفسير ذلك أيضا على أنه تدريب لقوات الصواريخ التقليدية في منطقة عسكرية، حيث يمكن للصواريخ التقليدية أن تصل إلى القواعد البريطانية في الخليج أو السفن البريطانية في البحر الأحمر أو بحر العرب.

إقرأ المزيد لم دمّر الروس والسوريون والليبيون والعراقيون وغيرهم بلدانهم؟

وتشكل مناورات القوات النووية التكتيكية أيضا تحذيرا لأوروبا في المقام الأول. ويمكن أن تكون هذه التدريبات بمثابة غطاء ضد أي رد فعل عاطفي من الدول الأوروبية، إذا قامت روسيا، على سبيل المثال، بإغراق سفينة بريطانية بالتزامن مع وقت المناورات، إذا ضرب صاروخ بريطاني جسر القرم.

إلا أن الأمر الأكثر أهمية هو أن تصرفات الغرب السابقة قد تؤدي إلى إبطاء، وليس منع، تحقيق أهداف روسيا في أوكرانيا. لكن التورط المباشر لأوروبا في الحرب يهدد بحدوث تطورات غير متوقعة، وتصعيد غير منضبط، قد يصل إلى التدمير النووي المتبادل.

ويبدو أن الكرملين يتفق مع منطق كاراغانوف بشأن الحاجة إلى الشروع في المضي قدما نحو سلم التصعيد، تدريجيا وبحذر. ليبقى السؤال الوحيد هو ما إذا كان الكرملين قد وافق بالفعل على ضرورة إعادة الخوف إلى نفوس الأنغلوساكسونيين، أم ليس بعد. وفي رأيي أنه إذا كان الكرملين يعتمد على سقوط أوكرانيا من دون المزيد من الصراع المباشر مع أوروبا، فإن مثل هذه التدابير تصبح أمرا لا مفر منه.

ومن الصعب عليّ أن اتجنب إغراء التعامل مع الأمنيات كحقائق فيما يخص صرامة روسيا بشكل أكبر، لكني حاولت تقديم التفسير الأكثر عقلانية للأحداث الأخيرة.

المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف

رابط قناة "تليغرام" الخاصة بالكاتب

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب

المصدر: RT Arabic

كلمات دلالية: ألكسندر نازاروف إيمانويل ماكرون أسلحة الدمار الشامل أسلحة ومعدات عسكرية ألكسندر نازاروف الأزمة الأوكرانية الاتحاد الأوروبي الجيش الأمريكي الجيش الروسي العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا الكرملين حلف الناتو ديفيد كاميرون فلاديمير بوتين قنبلة ذرية وزارة الدفاع الروسية النوویة التکتیکیة الأسلحة النوویة الأراضی الروسیة إذا کان أن یکون من خلال فی رأیی وهو ما

إقرأ أيضاً:

هل هناك مخطط سري لتفكيك سوريا؟

نشر السفير الأميركي في أنقرة، توم باراك، بصفته مبعوثًا خاصًا لبلاده إلى سوريا، رسالة لافتة عبر حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي، تناول فيها بالنقد سياسة الدول الإمبريالية الغربية في الشرق الأوسط، وكشف عن الإستراتيجية التي تعتزم بلاده اتباعها في سوريا، قائلًا:

"قبل قرن من الزمان، فرض الغرب خرائط وحدودًا مرسومة وإدارات انتدابية وحكومات أجنبية. لقد قسم اتفاق سايكس-بيكو سوريا والمنطقة الأوسع من أجل المكاسب الإمبريالية، وليس من أجل السلام. وقد كلّف هذا الخطأ أجيالًا متعاقبة. لن نكرّر ذلك مجددًا.

إن زمن التدخلات الغربية قد ولى. المستقبل للدبلوماسية القائمة على الحلول الإقليمية، والشراكات، والاحترام المتبادل. وكما أكد الرئيس ترامب في خطابه في الرياض بتاريخ 13 مايو/ أيار، فإن الأيام التي كانت فيها القوى الغربية تأتي إلى الشرق الأوسط لتعطي دروسًا حول كيفية العيش وإدارة الشؤون، قد انقضت.

لقد وُلدت مأساة سوريا من رحم الانقسام. ولا يمكن أن تولد من جديد إلا عبر الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها. وهذا يبدأ بالحقيقة والمساءلة والتعاون مع أبناء المنطقة، لا بتجاوز المشكلة دون حلها.

نحن إلى جانب تركيا ودول الخليج وأوروبا- لا بالجنود والخطب والحدود الوهمية، بل إلى جانب الشعب السوري ذاته. بسقوط نظام الأسد، فتحنا الباب نحو السلام؛ ومن خلال رفع العقوبات، نتيح للشعب السوري فرصة فتح ذلك الباب واكتشاف طريق نحو ازدهار وأمن متجددين".

إعلان

من اللافت أن تأتي رسالة كهذه من سفير الولايات المتحدة، التي لطالما كانت واحدة من أركان القوى الإمبريالية المتورطة في غمر الشرق الأوسط بالدم عبر سياسات الاحتلال، متحدثًا عن "المندوبين" البريطانيين والفرنسيين، كما لو أن بلاده لم تسلك النهج ذاته.

ومن اللافت أيضًا، أن الولايات المتحدة -التي تنتقد ما فعلته بريطانيا وفرنسا قبل قرن- هي نفسها اليوم من تحدد مصير دول الشرق الأوسط، من بُعد 15 ألف كيلومتر.

محتوى الرسالة

ما أثار استغرابي استشهاد السفير الأميركي باراك باتفاقية سايكس-بيكو، التي لم تتجاوز في حقيقتها تبادلًا للمراسلات بين وزراء ودبلوماسيين وبيروقراطيين في بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، ولم تُوقَّع قط.

لقد سميت "اتفاقية سايكس-بيكو" نسبة إلى الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرنسوا جورج بيكو، وهي خطة سرية صيغت إبان تفكك الإمبراطورية العثمانية، لتحديد كيفية تقسيم الشرق الأوسط بين هذه القوى الاستعمارية.

لكنها، رغم تسميتها "اتفاقية"، لم تتعدَ كونها خطة بقيت في طور النقاش. فقد جرت المفاوضات بشأن بنودها بين 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 1915، و3 يناير/ كانون الثاني 1916 بمشاركة روسيا، وبريطانيا، وفرنسا. ولكنها لم تتحول إلى اتفاقية رسمية بسبب قيام الثورة البلشفية في أكتوبر/ تشرين الأول 1917 في روسيا.

وبعد سقوط الحكم القيصري، نشر البلاشفة نص "خطة سايكس-بيكو" في صحيفة "إزفستيا" بتاريخ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، في إطار حربهم الإعلامية ضد القوى الرأسمالية الأوروبية التي خشيت من تمدد الشيوعية إلى أراضيها. وكانت تلك المرة الأولى التي اطلع فيها العالم على نوايا بريطانيا، وفرنسا لتقسيم المنطقة، ما كشف الأهداف الحقيقية للإمبريالية الغربية.

لقد تجاهلت هذه الخطة الخصوصيات الإثنية والدينية لسكان الشرق الأوسط، وسعت إلى تقسيمه على الورق إلى دول وحدود اصطناعية. والاستثناء الوحيد في الخطة كان ما يتعلق بفلسطين، إذ دعم وزير الخارجية البريطاني آنذاك، آرثر بلفور، في رسالته الشهيرة بتاريخ 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 إلى اللورد روتشيلد، إقامةَ وطن قومي لليهود في فلسطين. وكانت تلك الرسالة بمثابة الشرارة الأولى في حريق الشرق الأوسط.

إعلان

وقد تأسست الدولة الصهيونية الإسرائيلية في عام 1948، ومنذ عام 1967 وحتى اليوم، تواصل إشعال الحروب في المنطقة، وعلى رأسها فلسطين، لتحقيق أهدافها الصهيونية.

ورغم أن "خطة سايكس-بيكو" لم توقّع رسميًا، فقد تم تطبيقها جزئيًا: خضعت سوريا للانتداب الفرنسي، بينما وُضع العراق وبعض دول الخليج تحت انتداب بريطاني.

وفي أعقاب توقيع هدنة مودروس عام 1918، والتي أنهت الحرب بين الدولة العثمانية والحلفاء، تم تسريح الجيش العثماني، واحتلت فرنسا مدن عنتاب وأورفا ومَرعش في جنوب الأناضول. وبإيعاز بريطاني، نزلت القوات اليونانية إلى إزمير يوم 19 مايو/ أيار 1919، لتبدأ مرحلة احتلال الأناضول.

وفي 23 أبريل/ نيسان 1920، ومع افتتاح الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة، انتهت الدولة العثمانية من الناحيتين القانونية والعملية. وبعد عامين، أنهت حرب الاستقلال التركية الوجود الأجنبي، ورسمت حدود الجمهورية الحديثة.

وهكذا، أدّى انسحاب الدولة العثمانية من الشرق الأوسط، وتحديدًا من سوريا، والعراق، إلى فوضى مستمرة منذ أكثر من قرن، كانت الدول الغربية السبب الرئيسي فيها.

وقد أدار البريطانيون والفرنسيون المنطقة عبر أنظمة انتدابية تابعة لهم، واستمرت هذه الأنظمة حتى سبعينيات القرن الماضي. ثم جاء دور إسرائيل، التي زرعت الفوضى والحروب والانقسامات، ولم تعرف هذه البلدان الاستقرار، ولم تتوقف الصراعات الإثنية والدينية منذ ذلك الحين. وما نشهده اليوم في العراق، ولبنان، وسوريا هو نتيجة ذلك الإرث الاستعماري.

هل الهدف تقسيمات جديدة؟

من الواضح أن رغبة الولايات المتحدة في أن تحلّ محل بريطانيا، وفرنسا في معركة السيطرة على الشرق الأوسط تمثل العامل الأبرز وراء هذه الرسالة. لكن مضمون الرسالة يحمل دلالات عميقة وإشارات إلى ما قد يحدث في المستقبل.

حين تحدّث السفير عن سوريا وحدودها بعد الحرب الأهلية، انتابني شك عميق. فبيانه الذي لم يركز بشكل كافٍ على وحدة الأراضي السورية يثير تساؤلات: هل تمهّد الولايات المتحدة عبره الطريق لتقسيم جديد داخل سوريا بناءً على الانتماءات الدينية والإثنية؟

إعلان

وهنا تذكرت ما قاله الرئيس الأميركي وودرو ويلسون أمام الكونغرس يوم 8 يناير/ كانون الثاني 1918، حين عرض رؤيته لعالم ما بعد الحرب العالمية الأولى في 14 بندًا، أحدها يتناول الدولة العثمانية:

"يجب ضمان سيادة آمنة للأتراك في المناطق التركية الحالية من الدولة العثمانية، ويجب تأمين حرية تامة للتطور الذاتي للشعوب الأخرى التي تخضع للحكم التركي، بما يضمن أمنها التام دون أي تهديد".

إذا كان توم باراك يريد أن يبشرنا برسالة من هذا القبيل، فعلينا أن نتهيأ لصراعات جديدة؛ لأن هذا التوجّه يعني، في جوهره، تفكيك الدولة القومية في الشرق الأوسط، وإرساء كيانات على أسس طائفية أو عرقية، وهو ما سيمهّد لحروب أهلية ونزاعات دموية لا تنتهي.

وفي العراق مثلًا، قد يتم تقسيم البلد إلى ثلاث مناطق: شيعية، وسنية، وكردية. وفي سوريا، قد تُرسم خرائط جديدة على أساس العرقيات والطوائف: العرب، والدروز، والأكراد، وتنظيمات مثل PKK/PYD، والعلويين.

ولعل ما تقوم به إسرائيل من تحركات تجاه الدروز والمنظمات الكردية الانفصالية مثل PKK/PYD-YPG في سوريا ليس إلا مؤشرًا على هذا المخطط.

ومن الأسباب الأخرى التي تدعو إلى الشك، ما قاله السفير باراك عقب لقائه مع الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني في إسطنبول، حيث صرّح: "أوضحت أن تعليق العقوبات الأميركية على سوريا سيساهم في تحقيق هدفنا الأساسي، وهو الهزيمة الدائمة لتنظيم الدولة، وسيوفر فرصة أفضل لمستقبل الشعب السوري. كما هنأت الرئيس الشرع على خطواته العملية التي تتماشى مع ما طرحه الرئيس ترامب بشأن المقاتلين الأجانب، وتدابير مكافحة تنظيم الدولة، والعلاقات مع إسرائيل، والمخيمات ومراكز الاعتقال في شمال سوريا".

وأبرز ما طالب به ترامب خلال زيارته السعودية كان: "الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام مع إسرائيل".

إعلان

إن مطالبة سوريا، التي تحتل إسرائيل أراضيها، بالانضمام إلى "اتفاقيات أبراهام" ليست مجرد فكرة شخصية للرئيس ترامب. لذا، علينا أن نتفحص بعناية كلمات وتصريحات توم باراك. لأنه من غير الممكن أن تقدم الولايات المتحدة على أي خطوة في الشرق الأوسط دون علم إسرائيل أو إذنها أو دعمها.

وفي كل علاقة تكون إسرائيل جزءًا منها، سواء علنًا أو سرًا، تكون الحسابات دائمًا لصالح المشروع الصهيوني. ولهذا، يجب الحذر مما قد تخفيه التصريحات المفرطة في الود والغموض التي تصدر عن السفير الأميركي في تركيا والمبعوث الخاص لبلاده إلى سوريا، توم باراك، لأن بلاده، التي تتخذ النسر شعارًا وطنيًا، ليست صاحبة تاريخ في تبني سياسة سلام دون حسابات خفية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • عاجل. نتنياهو: غيّرنا وجه الشرق الأوسط وقضينا على محمد السنوار في قطاع غزة
  • فوز "OHI Leo Burnett" بثلاث جوائز مرموقة
  • جولة دي بي ورلد للجولف أفضل حدث رياضي في «الشرق الأوسط»
  • هل هناك مخطط سري لتفكيك سوريا؟
  • قمة بناء المستقبل تنطلق في أبوظبي بشراكة فوربس الشرق الأوسط
  • الخارجية الروسية: تطوير الحوار مع أمريكا لن يكون على حساب علاقاتنا مع حلفائنا
  • صفقات الغضب بين ترامب و نتنياهو
  • "غلوبانت" تفتتح مقرها الإقليمي في الشرق الأوسط بالرياض
  • ترامب بعد الضربة الروسية على أوكرانيا: بوتين أصبح مجنونا
  • جيروزاليم بوست: فجر جديد بالشرق الأوسط لا مكان فيه لإسرائيل فهل تستيقظ؟