فيلم «التفكير في الموت» وإشكالية التعبير عن الفردانية على الشاشة
تاريخ النشر: 12th, May 2024 GMT
تكتسب الدراما النفسية على الشاشة أهمية وخصوصية وتتباين الآراء والتقييمات بصددها لأسباب عديدة يبرز في مقدمتها أن هذا النوع من الأفلام هو من نوع الأفلام الباطنية الذي تتوارى فيه الشخصية ولا يظهر مما تكنّه إلا قليل مما يستوجب تحليلا معمقا وقراءات موازية من منطلق أن الفن السمعي البصري والسينمائي بشكل خاص هو فن ظاهري ومرئي ومحسوس أكثر من كونه فنا يعتمد على ما هو ذاتي وباطني.
من هنا وجدنا أن هذا النوع الفيلمي يتطلب من المخرج وفريقه ومن الممثل أداء متفوقا يستطيع من خلاله أن يستبطن دواخل الشخصية ويظهر مكنوناتها في شكل أفعال مجسدة ومرئية وخلال ذلك لابد من إدراك أهمية عامل الزمن في هذا المسار لجهة الموازنة في الأفعال بما يبقي الإيقاع الفيلمي على درجة معقولة من التوازن الذي يحول دون الوقوع في الرتابة والترهل.
من هنا يمكننا النظر إلى هذا الفيلم للمخرجة راتشيل لا مبرت فهي تقدم لنا بناء تعبيريا مختلفا عما هو سائد، متجهة نحو الدراما النفسية ولكن من دون أدنى تعقيد بل من خلال سرد فيلمي يبنى على الهامش واليومي وهي ميزة استثنائية تبدو متاحة كليا لكن العبرة تكمن في طريقة استخدامها.
فها هي فران -الممثلة ديسي ريدلي في يومها العادي في وسط ثلة من الموظفين وهم مجتمعون يقومون بأعمال روتينية إدارية وكل منهم يجلس وراء شاشة الحاسوب لكن براعة المخرجة تكمن في استثمار الحوارات الهامشية التي تقترب أحيانا من الثرثرة اليومية العادية وجعلها خلفية مؤثرة في مسار الشخصيات.
ولعل التحدي في هذا الأسلوب يكمن في مرور أكثر من 20 دقيقة من الفيلم من دون أن تتحدث الشخصية الرئيسية فران بكلمة وهذا لوحده يشكل تحديا ربما للمشاهد الذي قد لا يصمد على مثل هذا التنوع متن المعالجات الفيلمية.
على أن الإحالات المكانية وطبيعة حياة الشخصية تقودنا إلى نوع من الفردانية والعزلة اللتين ترسم الشخصية مساراتهما وهي تعيش في مدينة صغيرة شبه معزولة ولوحدها لا تعرف لها أسرة أو صديقات وحتى في أثناء العمل وفي وسط الثرثرة فلربما تكون هي الأقل كلاما، ومن هنا تكون المخرجة قد هيأتنا إلى الثيمة التي حملها الفيلم عنوانا له وهو مسألة التفكير في الموت فهذه الفتاة المنعزلة تعيش مرات عدة الإحساس بالموت في غابة معزولة في مشهد متكرر.
ولكي نكرس أكثر هذا الجانب المرتبط بالفردانية والعزلة وجدنا أن الشخصية في الغالب لا تجد من حولها ما تنتمي إليه مما تفصح عنه الثرثرة السائدة بين الموظفين، فالانشغالات اليومية الهامشية لا تتيح للشخصية المعزولة أن تتجذر في وسط المجموعة الاجتماعية وقد تمكنت المخرجة بشكل ملحوظ في إغراق الشخصية بما هو يومي من الروتين في تلك الدائرة الضيقة لتلك الثلة من الموظفين والموظفات.
وفي هذا الصدد يكتب الناقد السينمائي بنجامين لي في الغارديان البريطانية مقالا مسهبا عن الفيلم الذي يعده اختبارا للعرض الذي قد يبدو مملا للتفاصيل اليومية ومن ثم القدرة على التقاط تلك الرتابة والصعود بها إلى ما هو وجودي ومصيري بالنسبة للشخصية.
ويشير الناقد إلى الاستخدام المتميز للموسيقى التي وضعها «دابني موريس،» إلى جانب مهارات التصوير لداستن لين والذي يظهر جليا من خلال نوع شعري من الإحساس بالمكان الذي تفشل العديد من الأفلام الأخرى في بلوغه بسبب حساسية مسألة الإغراق في الواقعية وهوامشها الأكثر استهلاكا وتكرارا.
ويشير الناقد إلى نقطة أخرى وهي أن بساطة النص وتمثيل ريدلي الدقيق والمحدد قد خلقا إحساسًا مألوفًا بالعزلة لدى الكثير منا، بكوننا قريبين جدًا من هواجسها ومواقفها، ومثال ذلك أن هناك مشهدا صغيرا لفران عندما تتوقف مؤقتًا عند ما ستكتبه في بطاقة تذكارية تم إعدادها لوداع زميلة لها، أنها تبدو مرعوبة من كتابة الرسائل والعبارات الحماسية التي تدعو إلى الحياة، بينما صديقتها التي تودعها وصلت إلى سن التقاعد وكان كل حلمها أن تذهب في رحلة كروز في ذلك النوع من الفنادق العائمة مع الزوج إلى جزيرة نائية لكن ذلك لن يتحقق بسبب جلطة يصاب بها الزوج تقعده تماما.
وهكذا سيكون هنالك رادع وجودي ووجداني يعصف بحياة الشخصية مما لا سيطرة لها عليه وفيه من التأثير ما لا تتمكن من تغييره.
من الجانب الآخر وجدنا أن محاولة فران دخول الحياة الاجتماعية وذلك من خلال علاقتها بزميلها روبرت -الممثل ديفيد ميرهيج، وهو رجل مولع بمشاهدة الأفلام السينمائية وليس شخصية وسيمة ولا استثنائية بالنسبة لفران ولهذا فإن دعوته لها لمشاهدة أحد أفلامه المفضلة سوف تنتهي إلى الفشل وهي ميزة تتميز بها فران في كونها لا تجامل وإنما تتداول ما تشعر به بشكل مباشر وتلقائي ولهذا لا تدوم تلك العلاقة طويلا، فالحوارات بينهما والتي تلامس الحياة الشخصية سوف تجعل فران تنفر نفورا شديدا متهمة روبرت بالفضول والتدخل فيما لا يعينه، ولهذا فهو فاشل في زواجين سابقين وبذلك يقع الافتراق بين الصديقين مباشرة بعد ذلك الحوار.
هذا الجانب ناقشته شيلا اوميلي في موقع روجر ايبيرت المتخصص بنقد وتحليل الأفلام إذ تقول، إن شخصية فران ملفتة للنظر في هذا الفيلم فهي على الرغم من كونها لا تتحدث إلا نادرا لكنها في الواقع ليست خجولة ومن الصعب إخراجها من حياتها الخيالية التي تتمنى فيها الموت لتتحدث فعليًا مع الشخص الذي أمامها مباشرة.
المضاد لشخصية فران هو روبرت الذي يبدو أنه رجل واقعي للغاية، لديه شعور إيجابي تجاه الناس، ويستمتع باللحظة التي يعيشها، ويتمتع بالهدوء والسلام النفسي، فما هو سبب انجذابه إلى امرأة صامتة في غالب الأوقات مثل فران؟ واقعيا يحجم الفيلم عن شرح أي من هذه التفاصيل بشكل مباشر وما يثير الإعجاب هو أن فران تخرج عن طورها الساكن وتعبر عن نفسها وترفض الاقتراب أكثر من دواخل شخصيتها وتفصيل حياتها وأفكارها وماضيها.
ومن هنا وجدنا أن هذا الفيلم ربما يكون نوعيا فهو ليس من الأنواع الفيلمية المعتادة التي تستقطب الجمهور مباشرة بل انه من نوع الأفلام الذي يثير التساؤلات أكثر مما يطرح الأجوبة، إنها برهة زمانية ساكنة من حياة أي واحد منا في عزلته وما يحاط به وحتى ذلك النوع من الحديث اليومي الأقرب للثرثرة هو من النوع المعتاد والمألوف الذي نعيشه دوما في حياتنا اليومية وفي أجواء العمل أيضا.
إخراج - راتشيل لا مبرت
تمثيل - ديسي ريدلي، دايف ميرهيج، ميغان ستالتير، بري ايلورد
مأخوذ عن رواية القتلة من تأليف كيفن اريمينتو
تقييمات/ أي ام بي دي: 7 من 10
روتين توماتو 81%
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من هنا فی هذا نوع من
إقرأ أيضاً:
باتمان.. من الظلال الإبداعية إلى عرش الشاشة السوداء
وحسب حلقة 2025/5/20 من برنامج "عن السينما" فإن كين قدم في البداية لشركة دي سي كوميكس عام 1939 بطلا بقناع صغير وزي أحمر وأجنحة يشبه سوبرمان.
وعندما أشرك فينجر، قام الأخير بتحويل التصميم جذريا، مختارا ألوانا داكنة "أكثر ملاءمة للعمل ليلا"، وموسعا القناع "لإخافة المجرمين"، ومضيفا آذانا مدببة، ومحولا الأجنحة إلى عباءة سوداء.
وابتكر فينجر شخصيات عالم باتمان بأكمله: بروس واين، روبن، الجوكر، كاتومان، ريدلر، المفوض جوردون، مدينة غوثام، لقب "فارس الظلام" والقصة المأساوية لطفولة البطل.
ورغم هذه الإسهامات الأساسية، حصد كين كل التقدير والمكاسب المالية، بينما مات فينجر وحيدا ومفلسا عام 1974، ولم تُكشف الحقيقة على نطاق واسع إلا في 2012 بفضل كتاب مارك تايلر نوبلمان "المبتكر السري لباتمان".
تحول سينمائي
وشهدت شخصية باتمان تطورا ملحوظا على الشاشة، فقد ظهر أول مرة تلفزيونيا عام 1943 كأداة دعائية خلال الحرب العالمية الثانية، يعمل مباشرة للحكومة الأميركية -مناقضا طبيعته السرية- ويواجه "الدكتور داكا" الياباني بدلا من الجوكر، مما يظهر التوظيف السياسي للفن.
وشكلت الثمانينيات نقطة تحول جذرية عندما قررت وارنر براذرز ودي سي إعادة اختراع الشخصية، في 1989، أخرج تيم بيرتون فيلم "باتمان" ببطولة مايكل كيتن، الذي يعتبره الكثيرون أفضل من جسد الشخصية.
إعلانورغم النجاح التجاري، وجد بيرتون فيلمه "مملا"، عازيا شعبيته لافتتان الجمهور برؤية أبطال الكوميكس على الشاشة، وبرز جاك نيكلسون بدور الجوكر، مانحا الشخصية شعبية غير مسبوقة.
بطل إنساني
هل باتمان حقا بطل خارق؟ هذا السؤال، المطروح أيضا في "جاستس ليج" عندما يسأله فلاش عن قواه الخارقة ليجيب ساخرا: "أنا ثري"، يعكس عبقرية فينجر في صنع بطل عادي بأدوات استثنائية، يميزه عن شخصيات أخرى بقوى خارقة.
وتظهر في عوالم السينما المعاصرة قضية أساسية: ما دور باتمان بدون قوى وسط العديد من الأبطال الخارقين؟ يجيب "جاستس ليج" بإظهاره كمخطط إستراتيجي للفريق، يضع الخطط ويشارك بشكل شرفي في المعارك بين الكائنات فائقة القوة.
ممثلون أيقونيون
وحلل برنامج عن السينما تطور الشخصية عبر مختلف مؤديها، من مايكل كيتن -الذي يعتبره الكثيرون لا يُضاهى- إلى الإصدارات الأحدث.
وسلط الضوء على تفسير زاك سنايدر، حيث يظهر باتمان في نهاية مسيرته المهنية بعد 20 عاما من حماية غوثام، متقدما في العمر، متصلبا، خائبا من البشرية و"غبيا أحيانا" بسبب كرهه غير المبرر لسوبرمان.
وفي 2022، أثار "ذا باتمان" توقعات كبيرة بسبب نهجه وأداء روبرت باتنسون، الذي أثار اختياره شكوكا بين المعجبين بسبب ماضيه في سلسلة "توايلايت"، واتفق النقاد على أن هذه النسخة كانت الأكثر قتامة وواقعية، متفوقة حتى على ثلاثية كريستوفر نولان.
وقدم البرنامج قصة مجموعة أصدقاء يشاركون في مسابقة لكتابة قصة باتمان "من منظور مختلف"، وبعد محاولات فاشلة متعددة، تلهمهم قصة بيل فينجر الحقيقية لإنشاء "باتمان وفريق نوبديج"، الفائزة بالجائزة الأولى.
وأكد البرنامج أهمية تطوير شخصيات شريرة معقدة في عالم باتمان، بينما يميل صناع السينما لتقديم أبطال كشخصيات مثالية "شجاعة، ذكية وجميلة" يجب أن يكون للخصوم عمق فلسفي: بينما يسعى "لإبادة البشرية لإفسادها الأرض ووجوب البدء من جديد"، في حين يرى الجوكر أن "كل البشر أشرار بالفطرة".
إعلان الصادق البديري20/5/2025