المُخدرات والصمت الاجتماعي
تاريخ النشر: 12th, May 2024 GMT
ماجد المرهون
majidomarmajid@outlook.com
بَدت حقائقُ الوقائع جليَّة البيان، ونبَّهت الألباب، وأيقظت الأذهان، ولم تعد خفيَّة مُبهمة تتلمَّس الإثبات والبرهان، ولا بُد لحل كل مُعضلة من الإقرار بوجودها كمبتدأ، وهي خطوة أولى واثقة على طريق تسويتها؛ فالاعتراف يهدم الاقتراف، شريطةَ إخلاص النية مع عزيمةٍ صادقةٍ لا تنثني للقرائن الندِّية كالثقافة السائدة والحس المشترك، ولا ريب أنَّ تفاؤل الإرادة يُبطل تشاؤم العقل.
ويُعد المجتمع غير المُحصَّن بيئةً مكشوفة وخصبة لازدهار المخدرات، واحتضان المروِّجين ومواصلة تفاعلهم وتطورهم بإيجاد سُبلٍ جديدة على الدوام للتسويق وإيصاله إلى كُل باحثٍ عن حَتْفِه، وكُنت قد أشرتُ سابقًا إلى هذا الموضوع بشيءٍ من التلميح والتوضيح على صفحات هذه الجريدة الغراء، إلّا أنَّ شأن المخدرات قديمٌ مُتجدِّد وحديث متعدِّد بسبب انصراف قنواته مباشرةً باتجاه المجتمعات ومحيطها لتلويثها.
سوف نُسلِّط الضوءَ على الزاوية المُعتِمة حتى نُعطيها حقَّها اللازم من الجلاء، فإهمالنا لها لاعتباراتٍ تنكرها الثقافة العامة للمجتمع لا يعني أنها غير موجودة، بل يجب علينا الاعتراف والإقرار بضرورة تنويرها؛ كونها أساسًا من الأسس التي يقوم عليها البناء المجتمعي؛ حيث إنَّ تجنُّب الحديث عن المخدرات وخطرها وكأنه عارٌ يُلقي بنوعٍ من الشبهات التي تؤدي لخدش السُّمعة، وبالتالي التأثير المباشر على المبتلى بهذه الآفة، وغير المباشر الذي ينعكس على العائلة والأسرة، والذي يعدُّ واحدًا من أهم العوامل المساعدة على استشراء بلاء المخدرات، وسوف تزداد تلك الزاوية عتامةً مع استمرار السكوت عنها، وقتامةً بالتستر عليها.
تتموضَعُ الشريحة الأكثر أهمية وحساسية من النسيج المجتمعي في هذه الزاوية، وهي الشباب من صغار السن الذين بدأوا تعلُّم قيادة السيارة والتواصل مع أصدقائهم عبر هواتفهم النقالة والخروج من منازلهم برفقتهم، وهي المرحلة الأكثر خُطورة لما يُصاحبها من نشاط وقوة وعنفوان ورغبات عارمة في تجربة كل جديد، ومن المعروف أنَّ هذه الفئة غالبًا ليس لديها المال الكثير أو حتى الكافي لخوض كل الممارسات والنشاطات أو التجارب باهظة الثمن؛ لذلك جاء المخدر المعروف باسم "الشبو" -وله مسميات أخرى- مُستهدفًا هذه الشريحة بثمنهِ البخس وأسعاره الزهيدة وفاعليته ذات التأثير السريع والمدمر؛ إذ إنَّ الجُرعة الواحدة منه تؤدي بمتعاطيها إلى الإدمان من المرة الأولى ليقع بعدها فريسةً سائغة في شَرَك الصديق المنقذ الذي سيمدُّه لاحقًا بحاجته اللازمة من المخدر، حتى يصل به في مرحلة من المراحل لتحويله إلى منفذ جديد من منافذ تسويقه. وبهذه الآلية يضمن المُدمن الجديد عدم الحرمان من جانب، ومن جانب آخر يزداد الانتشار وتتشعَّب نقاط البيع وتكثُر وتتفرَّع وتتعقد لتصل إلى أبعد المناطق وأضيق الأحياء السكنية.
قد يتباين سلوك المتعاطين لهذه المادة الكيميائية، ولكن سيتوجَّه مُعظمهم إلى تصرفاتٍ تتشابه وتتفق في مظاهرها العامة، ويتوجَّب على ولي الأمر معرفتها حتى تُمكنه من تمييز الشاب المُبتلى بهذه الآفة الفتاكة؛ ومن أهمها: الضعف غير المبرر على جسد المدمن، والذي قد يصل إلى الهُزال المصحوب بشحوب واضح للبشرة مع شبه انعدام لشهية الأكل والإكثار من تناول الحلويات والمشروبات الغازية، إضافة لكثرة السهر وقلة النوم التي قد تصل لأكثر من يومين متتاليين، ثم النوم المفاجئ في وضعيات غريبة، كما قد تظهر أعراض أخرى كالهالات السوداء حول العينين، وبقع أو تقرحات على الجسد، واصفرار واضح للأسنان، وإهمال للنظافة الشخصية، ويميل المدمن إلى الوحدة والانطواء، أو البقاء خارج المنزل لأطول فترة ممكنة، خصوصًا في أوقات الليل.
تُخالج كل مدمنٍ لحظات تأمُّل صادقة في الإقلاع والتخلُّص مما يعتريه، وهو يفكر كل يوم في ترك ما يقترفه، وهذه الرغبة العصبية في التملُّص من واقعه الذي وضع به نفسه ترافقة بصفة دائمة، ولكنَّ سطوة الإدمان بالطبع تكبح جماح كل الرغبات القويمة، ويصبح هنا واقعًا في أشد مراحله ضعفًا، ويحتاج مد يد العون له، وفي الوقت ذاته يشكل هاجسَ صدمة معرفة الأهل حائلًا كبيرًا ضد المواجهة، ليبقي شعوره في طيِّ الكتمان، وتستمر مشكلته تعاظمًا في السر، ومن الضروري جدًّا معرفة أهل متعاطي المخدرات للمؤشرات سالفة الذكر، واقتناص الملاحظات الطارئة ورصدها للتدخل في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان.
إنَّ مرحلة التعافي ليست بالأمر السهل، لكنها مُمكنة، مع الإرادة ورغبة الترك فلن تكون مستحيلة، بشرط تفهم الأهل للمشكلة واحتواء المدمن بالتفاهم والتعاطف واللين، باعتباره مريضًا يحتاج للمساعدة، وليس بالقسوة والشدة والإهانة واعتباره عدوًا مجرمًا وَجَبت عليه العقوبة؛ حيث إنَّ هذا التصرُّف سيفاقم من حجم المشكلة، ويحيد بمسار حلها إلى تعقيدات إضافية بالإمكان تجنبها، ولابد من الاستعانة بأهل الخبرة ومراكز العلاج المتخصصة والتغاضي -ولو مؤقتًا- عن ثقافة العيب والسمعة، والاطمئنان بأن سير كل هذه العمليات العلاجية والإصلاحية تتم بسرية شديدة ومطلقة، وسوف نُفْرِد في المستقبل مقالًا عن انسحابات الإقلاع وأسباب انتكاسات العودة.
لن يتحقَّق نجاح ثقافة التوعية لكل خطر أو آفة دخيلة على المجتمع إلّا بالاعتراف بوجودها، فقد اعترف سيدنا آدم بذنبه فكتب الله له النجاة، وأنكر إبليس فِعْلَته فغوى، وكما لمسنا تحولًا جيدًا في وعي المجتمع تجاه ظاهرة التنمر في المدارس ومعضلة الابتزاز والتصيُّد والاحتيال الإلكتروني نتيجة حملات التوعية، فإنَّنا نحتاج إلى حملات مشابهة ضد المخدرات ومخاطرها وأثرها ونتائجها بشراكة كل شرائح المجتمع وأطيافه وبشكل حثيث ودؤوب، ولا نُنكر جهود الجهات الأمنية والصحية والاجتماعية، إلّا أنَّ اليد الواحدة لا تُصفِّق، والخطر الداهم بكل بيت دون استثناء يقتضي تكاتف الجميع.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
جلسة حوارية حول البعد الاجتماعي في الإرشاد بولاية أدم
نُظّمت صباح اليوم بولاية أدم جلسة حوارية بعنوان «البعد الاجتماعي في الإرشاد» وذلك برعاية سعادة الدكتور محمد بن علي المهري والي أدم، في القاعة المتعددة الأغراض بمكتب الوالي، وبمشاركة نحو 53 أخصائية اجتماعية من مختلف المؤسسات التعليمية والاجتماعية بمحافظة الداخلية، ومدارس الولاية، حيث أشرفت على تنظيم الفعالية دائرة التنمية الاجتماعية بأدم.
هدفت الجلسة إلى تنمية المهارات المهنية للأخصائيين الاجتماعيين والباحثين العاملين في وزارة التنمية الاجتماعية والجهات ذات الصلة، وتعزيز معارفهم بأساليب الإرشاد والتوجيه الاجتماعي، بما يخدم الأداء الميداني في قطاع العمل الاجتماعي.
وقدّم الجلسة أحمد بن عبدالله الشبيبي مدرب معتمد ورئيس مركز «زلفى للإرشاد النفسي والاستشارات الأسرية»، حيث تناول عدة محاور رئيسة، من أبرزها التعريف بمفهوم وأهمية الأساليب المهنية في الخدمة الاجتماعية، والتمييز بين أساليب التوجيه والإرشاد المباشر وغير المباشر، وتطبيق الأساليب المهنية في مواقف عملية ميدانية، وتقييم فعالية الأساليب الإرشادية المستخدمة في التعامل مع الحالات المختلفة، وتعزيز مهارات التفكير النقدي والتأمل المهني لدى الأخصائيين الاجتماعيين.
وأكد سالم بن محمد المحروقي مدير دائرة التنمية الاجتماعية بولاية أدم في كلمته خلال الجلسة أن هذه الفعالية تأتي ضمن سلسلة من البرامج والأنشطة التدريبية والتوعوية التي تنفذها الدائرة لفئات المجتمع المختلفة، وخصوصًا الأخصائيين والباحثين الاجتماعيين، بهدف مواكبة المستجدات العلمية والمهنية في مجالات العمل الاجتماعي.
وأشار إلى أن دائرة التنمية الاجتماعية تحرص على تنظيم مثل هذه اللقاءات بشكل مستمر، وتنويع مضامينها بما يعزز جودة الخدمات المقدمة، ويرفع من كفاءة الكوادر البشرية العاملة في الحقل الاجتماعي.
وتأتي هذه الفعالية في إطار التأكيد على أهمية الخدمة الاجتماعية كـ«مهنة إنسانية» تسعى إلى دعم الأفراد والجماعات في تنمية قدراتهم، وحل مشكلاتهم، وتحقيق التوافق المجتمعي من خلال أساليب مهنية فعّالة تُسهم في تحقيق الأهداف الاجتماعية بكفاءة وجودة عالية.