لا تحتاج الضحية لشهادة جلادها لتتحقق من خسارتها، فهي لا بد تتحسس الندوب على جسدها ويكفيها نتوء الأسلاك الشائكة لتستدل على حدود حريتها المسلوبة، كما أنها تغفو عادة وهي تتهجى مكانها "المنقرض" عن ظهر قلب.

ومن طبائع الاستعمار الكولونيالي الحديث أن يقيم حياة على ركام أخرى ويجتهد في نزع شرعية ضحيته وإسكات روايته عن ماضيه وما تبقى من حاضره عبر آليات معدة مغلفة بتلفيق أخلاقي محكم.

وبالمقابل، يحتاج الانحياز إلى الضحية -من داخل المجتمع الكولونيالي- لشجاعة أخلاقية تستعد لخسارة الامتيازات كما يلزمه كفاءة معرفية تتيح الرؤية من خارج "كهف العماء".

وهذا ما يجعل رواية الكاتبين والمؤرخين الإسرائيليين إيتان برونشتاين أباريسيو وإلينور ميرزا برونشتاين، استثنائية في مهمة "تفكيك الاستعمار الإسرائيلي وتحقيق العدالة والحرية للشعب الفلسطيني الذي يشمل حق عودة اللاجئين".

وصدر حديثا ترجمة كتاب "النكبة بالعبرية- عن النضال اليهودي ضد الصهيونية في إسرائيل"، لكاتبيه الإسرائيليين المحلقين خارج السرب والعاملين -من خلال مؤسسة "ذاكرات" على مواجهة طمس النكبة"- عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، وترجمة مصعب بشير عن الإنجليزية في 352 صفحة.

كتاب "النكبة بالعبرية- عن النضال اليهودي ضد الصهيونية في إسرائيل" لمؤلفيه إيتان وإلينور برونشتاين (الجزيرة) نكبة لغوية

يواجه الكاتبان مجتمعهما "المستعمِر" بوقائع ثلاثية الاستعمار والاحتلال والفصل العنصري الذي يجرف التاريخ على جغرافيا فلسطين ويمحو وجود الفلسطينيين أناسي ومكانا وثقافة، في سردية مقابلة للقصة الإسرائيلية التي تحترف الجلد وتحتكر دور الضحية وتختطف تجربة يهود العرب والعالم وتدعى تمثيلهم بينما تحتقر لغاتهم وتراثهم وذاكرتهم في مجتمعاتهم الأصلية وتجند عبريتهم من أجل ارتكاب "نكبة لغوية".

ويقول الكاتبان -اللذان نكتشف بالصدفة في بداية الكتاب أنهما شريكا حياة وعمل ونضال، وكانا يعيشان في تل أبيب حتى أواخر 2019 قبل مغادرتها إلى بروكسل للنشاط من خارج أرض فلسطين- إنهما أصدرا الكتاب للمرة الأولى عام 2018 باللغة العبرية.

وأرجعا ذلك إلى سعيهما لتقديم حصيلة للنضال الذي بُذل لإدخال النكبة في الخطاب اليهودي في إسرائيل، من خلال ما قامت به مؤسسة "ذاكرات" التي أسسها إيتان عام 2001 ونشطت فيها إليونور التي قالت إنها تريد أن تترك قصة لابنهما هادريان "في مكان طافح بالنزعة القومية"، وجاء تأليف الكتاب بالعبرية أساسا لكي يقرأه الإسرائيليون.

وتقول إلينور -التي تصف نفسها بأنها ابنة ثنائي شيوعي يشمل أما يهودية وأبا مسلما- إنها تريد أن تخبر ابنها بأن أباه (إيتان) ساعدها على "عقد الصلح بين اليهودية ومعاداة الاستعمار، وإنه من الممكن أن نرى ذواتنا في حِل من كل الإملاءات والعباءات".

لكن الانتقال من العبرية إلى الترجمة العربية ليس مجرد ترجمة تقنية؛ فهناك توتر لغوي قائم يقول المؤلفان إنهما واعيان به، فمفهوم "العلو" أو "عليا" الذي يستخدمه الإسرائيليون للتعبير عن "هجرة اليهود إلى وطنهم إسرائيل" وفق التصور الصهيوني هو مفهوم أيديولوجي صهيوني وليس مجرد انتقال من بلد لآخر، وحتى استخدام "إسرائيل" للإشارة لفلسطين التاريخية يعد استخداما إشكاليا وجارحا خارج اللغة العبرية التي يقول المؤلفان إنها قد تكون "المنتج الصهيوني الأهم".

النكبة بمنظور إسرائيلي

ويستقصى الكتاب آراء الشعور الإسرائيلي تجاه النكبة وحق العودة الفلسطيني، مشيرا لما أسماه "إعادة كتابة التاريخ" في النقاش السياسي المعاصر، ففي 2015 مثلا لم يتردد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في القول بملء فيه إن أدولف هتلر لم ينو إبادة اليهود بل كان يعتزم طردهم إلا أن مفتي القدس أمين الحسيني هو من لقنه فكرة الحل النهائي.

ويعتبر أن أهم المؤرخين المتخصصين في فترة الحرب العالمية الثانية قد فندوا تلك الأقوال لكن مع ذلك لا يزال أثرها كبيرا في المجتمع الإسرائيلي؛ فقد حوّلت الفلسطينيين إلى نازيين جدد كما أدت إلى تطبيع العنصرية وشرعنة خطابها.

وفي هذا السياق المتوتر يأتي خطاب النكبة وحق العودة ضمن "قصة فلسطينية منعزلة وغير مرتبطة أبدا بتاريخ إسرائيل أو هويتها"، ويرصد الكتاب إخراج نقاش النكبة من عالم الأخبار والسياسة والنقاش العام.

وبعد عملية مسح واستقصاء قام بها الباحثان وجدا أن نصف اليهود الإسرائيليين تقريبا لا يعرفون مصطلح "النكبة"، "وهو أمر مقلق إذ تعتبر النكبة الحدث الفاصل في تاريخنا والفصل الأكثر مأساوية في المشروع الاستعماري برمته فقد شكلت ذروة المد العنيف الذي طبع علاقتنا بالفلسطينيين"، كما يقول المؤلفان.

بدايات ساذجة

يقول المؤلفان إنه من المفاجئ حقا أن أول من استخدم كلمة نكبة للإشارة إلى الفاجعة الفلسطينية كان الجيش الإسرائيلي، ففهي شهر يوليو/تموز 1948 وزّع الجيش الإسرائيلي مناشير دعائية على أهالي "طيرة حيفا" الفلسطينية الذين كانوا يقاومون عملية طردهم من بلدتهم، وبلغة عربية جزلة دعا الجيش الأهالي للاستسلام كما يأتي "إن أردتم تفادي النكبة وتفادي المصيبة والخلاص من الهلاك المحتوم فاستسلموا".

وبعيد ذلك، في شهر أغسطس/آب كتب المفكر السوري قسطنطين زريق دراسة بعنوان "معنى النكبة" جاء فيها "ليست هزيمة العرب في فلسطين بالنكبة البسيطة، أو بالشهر الهين العابر. وإنما هي نكبة بكل ما في هذه الكلمة من معنى" وبعد ذلك ببضعة أشهر، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1948 نشرت قصيدة للشاعر (الإسرائيلي لاحقا) ناتان ألترمن يروي فيها وصف مجزرة تعرض لها فلسطينيون عزل على أيدي جنود إسرائيليين (غالبا في اللد).

ويقول الكتاب إنه في عام 1948 والأعوام التي تلته كان الخطاب الإسرائيلي المتعلق بالنكبة ساذجا نوعا ما؛ فلم تذكر كلمة "نكبة" لكن وصف الأحداث كان موجودا ببساطة، "ويشمل الوصف الفظائع التي اقترفها الجنود الصهاينة في حق الفلسطينيين دون غربة أو تبجيل سردياتي، أي نسخة خام من النكبة كتبت بعبرية جيدة"، وهو أمر لا يمكن تصوره في يومنا هذا.

انحسار ونسيان

ويقول المؤلفان إنه بعد سنوات قلائل من النكبة راحت ذكراها تخبو فقد كانت إسرائيل مشغولة بتوطين المهاجرين اليهود الجدد ومنع الفلسطينيين من العودة، فتخلت عن الوضوح والصراحة في التطرق للنكبة، وأصبح ينظر للاجئين كـ"متسللين" وأصبح الفلسطينيون -الذي نظر إليهم لفترة وجيزة باعتبارهم سكانا أصليين مطرودين- كـ"غرباء غير شرعيين وغير قانونيين" في الخطاب الإسرائيلي، قبل أن يتحولوا إلى "إرهابيين" في نهاية المطاف.

وأمست النكبة في تلك الحقبة (1952-1967) عنصرا داخل السردية الإسرائيلية يهدف لتبرير إنشاء "دولة إسرائيل بعد المحرقة" وأصبح اليهود بحكم معاناتهم التاريخية معفيين من ذنب أي جريمة يرتكبونها، وهنا ظهرت لأول مرة في إسرائيل سردية "لا خيار آخر" وفحواها "بعد كل ما أصابنا لم نجد خيارا آخر غير ما فعلناه في 1948".

ويقول الكاتب إنه لا يوجد شك في أن الكثير من القرى الفلسطينية أفرغت من سكانها وهجرت، إلا أنها لم تدمر، ومن الخطأ الجزم بتدمير القرى خلال حرب عام 1948 إذ إن المئات منها دمرت خلال الحملة المكثفة التي قامت بها إسرائيل لهدم البيوت الفلسطينية بين عام 1965 و1967.

لكن العقد الذي تلى النكبة شهد تسجيل حضور تلك القرى الخاوية في خرائطه، إذ إن الخرائط الموروثة عن الانتداب البريطاني حملت معها ما لا يمكن محوه (القرى الفلسطينية) وعمد رسامو الخرائط الإسرائيليون لإضافة كلمة "هروس" وتعني مدمرا، باللون البنفسجي تحت اسم كل قرية.

أولويات الاحتلال

في الحقبة التالية بعد عام 1967 ولمدة عقدين، ضمت إسرائيل أراضي أكبر بـ4 مرات مما كان لديها عندما رسم خط هدنة عام 1949 وشملت تلك الأراضي الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية، وفرض الحكم العسكري على سكان الأراضي المحتلة، وتولد في إسرائيل (بسبب الطفرة الاقتصادية والنشوة والغطرسة الناجمة عن الانتصار على الجيوش العربية في 6 أيام فقط) شعورا بالثقة بالنفس لكن النكبة وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين لم يكن لهما مكان في النقاش العام؛ إذ اختفت النكبة تماما بعد أن مسح الاحتلال والطرد الذي حدث عام 1948 من الذاكرة الجمعية وأصبحت كلمة "احتلال" مرتبطة حصرا بالتوسع الإسرائيلي في عام 1967، وأصبح هذا العام عاما صفريا، بعد مسح عقدين من الاحتلال الأول، ليبدأ احتلالا جديدا من هذا العام، كما يقول الكتاب.

وفي الفترة منذ منتصف الثمانينيات حتى 1993 صاغ المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس مصطلح "المؤرخين الجدد" لوصف الكُتاب الإسرائيليين الذين يقدمون مثله مراجعات نقدية للتأريخ الإسرائيلي، وقد شكّل كتاب موريس "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" نقطة تحول كبرى ومحاكمة للسردية الإسرائيلية واعترافا بالمعاناة الفلسطينية.

وشكلت اتفاقات أوسلو 1993 ضربة أخرى للاجئين الفلسطينيين، كما يفيد الكتاب، فقد نص الاتفاق على أن الخط الأخضر سيكون فاصلا بين أراضي دولة إسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية، أما نقاش اللاجئين فظل يرجى لأجل غير مسمى، وبعد عام 2000 ومع اندلاع الانتفاضة الثانية والعنف الذي واجهتها به قوات الأمن الإسرائيلية بدأ آلاف اليهود يقرؤون ويناقشون موضوع النكبة وجذور الصراع الدائر واستطلاع خيار الحل، ولكن الكاتبين يريان أن النظام الإسرائيلي يشن حربا مستميتة لمنع حدوث أي نقاش في هذا الموضوع ضمن محاولات "إسكات صوت النكبة".

حوارية ضد الاستعمار

وتعتبر إلينور أن يهوديتها تشكل قوة دافعة ومصدرا لشرعية إضافية لمحاربة الاستعمار الإسرائيلي؛ إذ "تسعى إسرائيل من خلال مشروعها الاستعماري الذي تعرف كانعتاق قومي إلى التصرف باسم جميع اليهود".

ويقول إيتان إنه خلال كتابتهما للكتاب زارا كيبوتس "باخان" فوجدا نصبا تذكاريا أقيم تخليدا لحرب 1967 التي عاشوها صغارا وتذكر المؤلف كيف كانوا يركضون نحو الملاجئ بينما القذائف تسقط وتنفجر، وتسأله إليونور إن كان الكيبوتس قد تم قصفه، فيجيب "ليس كثيرا، لقد جعلونا نعتقد آنئذ أن إسرائيل تتعرض لهجوم، لكني عرفت بعد مرور وقت طويل أن إسرائيل هي التي بدأت الحرب فكان ما سمعناه في الحقيقة قصف المدفعية الإسرائيلية للضفة الغربية التي كانت تحت الحكم الأردني، حيث استهدفت قرية "الشويكة" التي تبعد أقل من كيلومتر واحد عن باخان والواقعة على الجانب الآخر من الحدود".

ويكمل إيتان "تفاجأت للغاية وكذلك تفاجأ أبي، فقد ثبت على النصب مدفعا ولافتة كتب عليها وصفا لما دار على الجانب الإسرائيلي أثناء الحرب، وقد ذيل بصورة لـ3 جنود في خندق أحدهم هو والدي؛ شموئيل" ويردف "أشعر بعدم ارتياح ففي الصورة يبدو والدي كما لو أنه يصوب رشاشه على العدو لكني أعلم علم اليقين أن المشهد تمثيلي".

ويضيف "ففي الواقع لم يكونوا يقاتلون وأعلم أنهم لم يطلقوا ولو رصاصة واحدة، وأن الكيبوتس لم يتعرض لأي هجوم لا من الفلسطينيين ولا من الأردنيين، ويذهب أغلب الظن إلى أن المصور طلب منهم اتخاذ وضعيات للتصوير، وعندما سألت أبي قال لي إنه لا يتذكر شيئا عن ذلك اليوم".

ويستنكر إيتان "هذا التهويل وها الوهم المرتبط بالذاكرة الجمعية لهذه الحرب التوسعية"، وتعقب إليونور "لم تكن حربا توسعية وحسب، بل حربا استعمارية، فحرب 1967 استمرار منطقي لـ1948، إنها ببساطة مرحلة أخرى في المشروع الاستعماري الإسرائيلي المستمر".

وتقول إلينور إنها ممزقة بين عالمين "ففي يوم ما سيتعين علينا أن نخبر ابننا بأن جده فاروق طُرد من بيته خلال الحرب التي شارك فيها جده شموئيل"، وتروي القصة "ولد أبي فاروق في قرية المنصورة السورية الواقعة في هضبة الجولان عام 1934 وهي إحدى القرى الشركسية الـ12 التي أقيمت في هضبة الجولان في القرن الـ19 تحت الحكم العثماني بعد الإبادة التي تعرض لها الشعب الشركسي على يد روسيا القيصرية التي طردت الناجين من وطنهم في القوقاز.. إذن أبي سوري شركسي مسلم يعيش الآن مع أمي (اليهودية) في فرنسا".

منصورة الجولان

ويعقب إيتان: قرية المنصورة واحدة من 200 موضع دُمر بعد احتلال هضبة الجولان عام 1967″، فترد إليونور: "بل 195 موضعا للدقة وعلى عكس ما يعتقده الكثير من الإسرائيليين بأن هضبة الجولان "لم يكن فيها سوى بضع قواعد عسكرية" فقد طرد 130 ألف شخص تقريبا من أراضيهم خلال احتلال إسرائيل للجولان.

وقبل اندلاع الحرب بعامين، يقول إيتان، انتقل والدي للعيش في القُنيطرة التي دمرت على نطاق واسع أثناء الحرب. كنتُ أحمل عبء هذه الذكرى الصادمة منذ الطفولة فقد كنت أشعر بحاجة شديدة لمعرفة كل شيء عن هذا التاريخ قبل محوه لكن والدي كان يجد صعوبة في مشاركة قصته معي، ويبدو أنه كان علينا انتظار انضمامك إلى عائلتنا لكي يجد ما يدفعه لاستعادة قصصه الصادمة وروايتها.

ويقول إيتان: منذ التقيتكِ ودخلتِ حياتي صرت أرى الأشياء في ضوء مختلف، إذ جعلتني أنظر بشكل أوضح إلى المشروع الاستعماري الذي أنا جزء منه شئت أم أبيت، فأنا محتل ومستوطن. لقد أصبح ذلك كله واضحا عندي بعد أن التقيتك.

وعلى الرغم من أنك تعيشين في قلب تل أبيب فإن الدولة الإسرائيلية هي من طردت أباكِ، وجلبت والديّ إلى هنا كي "تزهر الصحراء"، الصحراء التي لا وجود لها إلا في مخيلة النظام الاستعماري الإسرائيلي الذي طرد والدك والكثير من الناس قبله وبعده.

ويختم إيتان الحوار الطويل قائلا: هذا جزء من تاريخك وتاريخي، وبالطبع لا يمتلك كل الإسرائيليين القدرة على الانتساب إليه. ولو حدثت قصتنا قبل عام 1948 أو قبل ظهور الصهيونية، لكانت قصة اعتيادية كغيرها من القصص الكثيرة التي تحدث كل يوم.

ويضيف "أما اليوم فنحن كزوجين نشذ عن القاعدة؛ فأنا كيبوتسي ولد في الأرجنتين وجندي احتلال سابق ومستوطن رغم أنفه، وأنتِ يهودية-مسلمة أنوثية جذرية لن تستخدم امتيازاتها كيهودية لتصبح مواطنة إسرائيلية حتى يتمكن كافة اللاجئين من ممارسة حق العودة.

ثمة أماكن كثيرة يمكن لقصتنا أن تكون فيها أقل خروجا عن المألوف، لكني أتمنى، يقول إيتان، أن تكون قصتنا يوما ما قصة حب عادية مألوفة. وإني لأتوق إلى اليوم الذي نخرج فيه من حمأة هذه الهوية الجمعية الاحتلالية الاستيطانية المستبدة بأراضي الآخرين ومصائرهم.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات هضبة الجولان فی إسرائیل عام 1948

إقرأ أيضاً:

إسرائيل وحزب الله.. هل يتدحرج التصعيد لحرب شاملة؟

إن تطورات الحرب في قطاع غزة بدأت تلقي بظلالها على الكثير من الملفات الداخلية والخارجية، خصوصًا مع تزايد العمليات العسكرية في الضفة الغربية التي تصاعدت بشكل كبير، ناهيك عن الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة على الجبهة الشمالية مع لبنان التي تشهد اشتعالًا خلال الساعات الماضية، حيث أطلق الحزب مئات الصواريخ على إسرائيل ردًا على الضربات التي قامت بها القوات الإسرائيلية للأراضي اللبنانية، والتي أخذت سياقًا متدرجًا في التصعيد المقيد ضمن قواعد اشتباك، ولكنها تطورت الآن بشكل نوعي وغير مسبوق، مما ينذر بالذهاب إلى مواجهة شاملة ومفتوحة.

وهذا التصعيد يأتي مع الهجمات التي تنفّذها جماعة الحوثي على السفن التابعة للكيان الصهيوني في البحر الأحمر وبحر العرب، وكذلك الضربات التي توجّهها الجماعات المسلحة في العراق لأهداف في الداخل الإسرائيلي، وهنا تجدر الإشارة للضربات التي وجهتها إيران في ليلة 13/ 14 أبريل/ نيسان الماضي، الأمر الذي جعل إسرائيل تشعر بأنها محاطة بأعداء وتهديدات خطيرة ومتعددة على المستويين: الأمني والعسكري.

وهذا يعني أنّ إسرائيل مجبرة على التعامل مع جبهات متعددة وساخنة في توقيت دقيق، مما يشكل خطرًا حقيقيًا وغير مسبوق على الأمن القومي الإسرائيلي أكثر من الجبهة الجنوبية في قطاع غزة، وسيبقى السؤال: هل تستطيع إسرائيل في ضوء التطورات الجارية الذهاب إلى حرب مفتوحة وشاملة مع حزب الله، وهي عالقة في غزة دون تحقيق الأهداف؟، وهل تمتلك القدرات العسكرية والاقتصادية والشرعية القانونية لتوسيع دائرة النار في هذه الجبهة؟، وهل إسرائيل معنية بدفع مقاتلي حزب الله إلى خلف نهر الليطاني؟، جميع هذه التساؤلات تحتاج إلى تفصيل لنخرج باستنتاجات حول ذلك.

تآكل منظومة الردع الإسرائيلي

يبدو أنّ نجاح منظومة الردع الإسرائيلي في إدارة الحروب النظامية طوال الفترة الماضية لم يدم كثيرًا، خصوصًا أنها كانت تدير حروبًا مع جيوش نظامية بإستراتيجية مباشرة، والتي كان آخرها حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، والتي تعتبر آخر الحروب النظامية للجيش الإسرائيلي في المنطقة، حيث ركّز جيش الاحتلال على تطوير إمكاناته وقدراته العسكرية والتقنية والتكنولوجية بشكل كبير، ومخيف لكل من يحاول التفكير في مواجهة الكيان، وخاصة تطوير القوة الجوية، ومنظومات الدفاع الجوي، ومنظومات التنصت والمراقبة، والطائرات المسيرة، مما جعل الاحتلال يتمتع بمنظومة ردع قوية ومتكاملة.

ولكن هذا التفوق العسكري الحاسم لم يستمر طويلًا مع تطور أجيال الحروب، وصولًا إلى الجيلَين: الرابع والخامس، حيث ظهرت جماعات مسلحة في بلدان متعددة تعمل على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بما تمتلك من قدرات بسيطة وبدائية، مثل: حزب الله في لبنان، وحماس في فلسطين، حيث طوّرت هذه الجماعات المسلحة قدراتها العسكرية بشكل يواكب التطور العسكري لجيش الاحتلال الإسرائيلي، بما فيها الاعتماد على التصنيع العسكري المحلي، حيث بدأت المواجهات العسكرية تتسع بين الجانبَين في حروب ومواجهات متعددة، وكان آخرها مع لبنان في عام 2006، ومع حماس في معركة "سيف القدس" في عام 2021، ومع سرايا القدس في معركة "الفجر الصادق" عام 2022.

لقد بدأت منظومة الردع الإسرائيلية تتآكل بعد أن كُسر حاجز الخوف، وسقطت نظرية الجيش الذي لا يقهر، حيث خاضت المقاومة الكثير من الحروب والمواجهات العسكرية المباشرة على الساحتَين: اللبنانية والفلسطينية، وآخرها ما يجري اليوم من حرب ضروس في قطاع غزة، وعلى الجبهة اللبنانية، بعد أن فشلت هذه المنظومة بما تمتلكه من قوات وقدرات عسكرية هائلة وترسانة كبيرة تعد الأولى بين دول المنطقة في الدفاع عن نفسها، فضلًا عن قدرتها على ردع خصومها.

وقد ظهر ذلك جليًا في أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث تضررت سمعة الجيش الإسرائيلي عندما سيطرت حماس على المستوطنات المحيطة بقطاع غزة، والتي يقدر عددها بما يقارب من (22) مستوطنة، بالإضافة إلى مقر فرقة غزة العسكرية (143) أثناء عملية "طوفان الأقصى"، حيث فقد الكيان الصهيوني بشكل عام التوازن لمدة يومين، وهنا نسأل: أين منظومة الردع؟، وأين منظومة الدفاع؟، وأين النصر الحاسم؟

سوف أتطرّق إلى مواجهات محددة تبين كيف ضعفت منظومة الردع الإسرائيلية، وكيف فشلت في التصدي للضربات الإيرانية التي وجهت للكيان الصهيوني في يوم 14/13 أبريل/ نيسان الماضي، حيث ثبت فشل الجيش الصهيوني في مواجهة الهجوم الإيراني، الذي جاء ردًا على قصف القنصلية الإيرانية في سوريا يوم 1 أبريل/ نسيان الماضي والذي أدّى لمقتل 16 شخصًا بمن فيهم قيادات مهمة للحرس الثوري الإيراني، حيث قادت الولايات المتحدة الأميركية تحالفًا عسكريًا ضمّ كلًا من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا؛ لمساعدة إسرائيل في التصدّي للصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية والتي وصلت إلى أكثر من (300) صاروخ وطائرة مسيّرة، وهذا يطرح تساؤلات مهمة ومنها: أين منظومة الردع الإسرائيلية؟، وأين منظومة القبة الحديدية؟

ولكي نعرف كيف ضعفت منظومة الردع الإسرائيلية، إليك كيف ردت إسرائيل على هذا الهجوم الإيراني، وللإجابة عن هذه التساؤلات، نقول إن الرد الإسرائيلي الصاعق والرادع قد جاء بقصف رادار واحد في قاعدة جوية بمدينة أصفهان الإيرانية!، وهنا ترى الفرق الكبير بين الضربتَين!، سيل من الصواريخ والطائرات الإيرانية أمام تدمير رادار واحد في قاعدة جوية في أصفهان!

وهنا نقول إن منظومة الردع الإسرائيلية التي أخفقت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تجدّد فشلها مرة أخرى أمام الضربات الإيرانية التي كانت تحمل رسائل سياسية وعسكرية واضحة لقادة الكيان، مفادها أن تغيير قواعد الاشتباك سيضر بإسرائيل بشكل كبير، لا سيما أن منظومة الردع لم تستطع الدفاع عن مصالح الأمن القومي الإسرائيلي.

إن حدّة المواجهات بين حزب الله والجيش الإسرائيلي على الجبهة الشمالية التي تتصاعد تشكل تهديدًا خطيرًا للأمن القومي الإسرائيلي، علمًا بأن الجيش يقول إنه قد أنهى مناورات عسكرية برية تحاكي تطورات الوضع الحالي الذي ينذر بمواجهة شاملة قد تصل إلى عملية توغّل بري لدفع حزب الله إلى خلف نهر الليطاني، بعد أن فشلت منظومة الردع الإسرائيلية في التصدي لهذه الهجمات، وخاصة القبة الحديدية.

إن هذا يعني أن منظومة الردع الإسرائيلية تضررت بعد الهجوم الذي شنّته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي على الجيش الإسرائيلي في المنطقة الجنوبية، مع الأخذ في الحسبان أن الجيش الإسرائيلي فتح مقرات للدعم اللوجيستي ومستشفيات عسكرية في المنطقة الشمالية لمواجهة موجة التصعيد، خاصة بعد أن بدأت هذه الجبهة تضغط بشكل غير مسبوق على حكومة "نتنياهو"، إذ تم تهجير ما يقارب (100) ألف نازح من المستوطنات الشمالية من (28) بلدة حدودية مع لبنان، وهذا أمر مرفوض لدى قادة الاحتلال؛ لأنه يحمل الكيان تبعات اقتصادية كبيرة، إذ إن نصف سكان الشمال يعانون من اضطرابات نفسية لما بعد الصدمة، ولا يريدون العودة إلى مناطقهم؛ بسبب عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على توفير الحماية لهم.

حقائق مهمة

الحقيقة الأولى: هي أن الخيارات الإسرائيلية صعبة ومؤلمة ومحدودة؛ بسبب قلة القدرات العسكرية، وتعدد جبهات المواجهة والتصعيد، حيث تتصاعد العمليات العسكرية في الضفة الغربية بشكل غير مسبوق، ويمكن أن تتحول هذه المواجهات إلى انتفاضة عارمة في الفترة القادمة، خصوصًا إذا ما استمرّ التضييق والمداهمات والاعتقالات الأمنية والإدارية.

كما أن تصاعد الهجمات بالطائرات المسيّرة والقوة الصاروخية على الجبهة الشمالية مع لبنان في اللحظة الراهنة ينذر بالذهاب إلى مواجهة شاملة، ولكي نقف أمام الكثير من الحقائق للمناقشة والتحليل قبل أن نضع الخيارات لهذا التصعيد، نقول إن نظرية الجيش الذي لا يقهر أصبحت من الماضي، وكذلك سقطت نظرية التفوق العسكري الحاسم بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، هذا بالإضافة إلى وجود متغيرات دولية وإقليمية ومحلية يجب أن تؤخذ بالاعتبار؛ لأنها ستؤثر بشكل كبير على صانع القرار السياسي الإسرائيلي، والتي تقف كتحديات أمام اتخاذ أي قرار مهم ومصيري بمواجهة شاملة مع حزب الله، ومنها الانقسام الداخلي على قضية تجنيد الحريديم.

وكذلك على مستوى وزراء الحرب في الكابينت الإسرائيلي، وانسحاب البعض من حكومة الحرب، وكذلك الانتقادات اللاذعة التي وجهها "آيزنكوت" لحكومة "نتنياهو"، بالوقت الذي لا يزال فيه الجيش الإسرائيلي ينزف وبقوة على رمال مدينة غزة، حيث عاد إلى القتال في جميع المناطق التي توغل فيها سابقًا، والتي أنهى عملياته العسكرية الكبرى فيها، وخاصةً الشمالية في جباليا وبيت حانون والمنطقة الوسطى وخان يونس والتي أجبر جيش الاحتلال على الانسحاب منها؛ بسبب قلة القوات ونتيجة الخسائر الكبيرة.

لذا فالجيش متعب ومستنزف، والمجتمع الصهيوني أنهلك بسبب الحرب التي تدور رحاها في مدينة رفح التي وصف "نتنياهو" الدخول إليها بالنصر المطلق، والسؤال ماذا بعد رفح؟، خصوصًا إذا لم يتم التوصل إلى الأسرى أو القيادات العسكرية والسياسية لحماس!، وهذا يبين بشكل قاطع أنه لا توجد رؤية سياسية أو عسكرية لليوم التالي، مما يعكس حالة التخبط العملياتي والإستراتيجي التي يعيشها قادة الاحتلال على جميع المستويات.

الحقيقة الثانية: في كل حرب يجب أن تتوفر فيها شرعية قانونية لبدء هذه الحرب على جميع المستويات، وخاصةً الداخلية والإقليمية والدولية، كما يجب أن تتوفر للدولة قدرات عسكرية واقتصادية كافية لدعم هذه الحرب لحين تحقيق أهدافها، فعندما نتكلم عن حرب غزة نقول إنه كان هناك هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي، وما يجري هو جزء من ردّة الفعل على هذا الهجوم.

ولكن عندما نتكلّم عن لبنان نقول؛ إنّ قوات الاحتلال فاقدة لأي شرعية قانونية لبدء أي حرب مع لبنان، علمًا بأننا إذا سلمنا بالواقع الموجود في غزة، نقول إن الاحتلال فقد شرعية هذه الحرب؛ بسبب المجازر التي ارتكبها قادة الاحتلال في قطاع غزة من تطهير عرقي وسياسة التجويع والإبادة الجماعية، وتدمير البنى التحتية والمدارس والمستشفيات والممتلكات العامة والخاصة، وجميع هذه الجرائم كانت سببًا رئيسيًا في تغيّر المزاج الغربي من مؤيد لإسرائيل إلى رافض لهذه السياسات السادية في قتل الأطفال والمدنيين.

وما أصدرته محكمة العدل الدولية ضد قادة الاحتلال هو جزء من تغير هذه المواقف، كما أن جيش الاحتلال وُضع على قائمة العار "القائمة السوداء" في قتل الأطفال، وما رأيناه من عملية قتل جماعي في مخيم النصيرات لتخليص أربعة أسرى، يعطي دليلًا واضحًا على وحشية هذا الجيش الذي ارتكب عمليات تطهير عرقي وإبادة جماعية يندى لها جبين الإنسانية، ويبدو أنّ قرار القائمة السوداء، ستكون له تداعيات على الكيان من خلال حظر تصدير الأسلحة، وكذلك وضع قادة الجيش على قائمة مجرمي الحرب.

إنّ المظاهرات التي عمّت الجامعات الأميركية والغربية، تعكس بوضوح تغير المواقف الشعبية والدولية من هذه الحرب، كما أن اعتراف بعض الدول الأوروبية بدولة فلسطين ومنها إسبانيا، يعد جزءًا من ردود الفعل على ما يقوم به قادة الاحتلال من جرائم لا يرضاها الضمير الإنساني، وهذا يدعونا إلى السّؤال عن الشرعية القانونية لفتح جبهة الشمال مع لبنان؟

إن معظم الدول الأوروبية بما فيها فرنسا التي يتصاعد فيها الحراك الشعبي الرافض لما تقوم به إسرائيل من جرائم في غزة، وكذلك الحراك في بريطانيا، يرفع ذلك الغطاء السياسي عن هذا الكيان العنصري، وهنا نسأل: كيف ستسمح هذه الدول بمثل هذه الجرائم في لبنان بحرب جديدة؟، وقد صارت إسرائيل دولة معزولة، كما أن هناك ضغوطًا تمارس على ألمانيا لوقف تصدير الأسلحة إليها، وهناك شكوى في محكمة العدل الدولية، لذا لا أتوقع أن توسيع جبهة الشمال سيكون بهذه السهولة التي يتكلّم بها قادة الاحتلال.

كما أنّ استدعاء أكثر من (360) ألف جندي من الاحتياط عطل العجلة الاقتصادية للبلاد بما فيها قطاعا الزراعة والصناعة وغيرهما من مجالات الحياة الأخرى، إضافة إلى أن منع ما يقارب (200) ألف عامل فلسطيني من الدخول إلى الأراضي المحتلة للعمل بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول كان له تداعيات كبيرة على عجلة الاقتصاد، ولولا الدعم الأميركي الاقتصادي والعسكري والمالي والسياسي، لما استطاعت إسرائيل المضي بالحرب على غزة إلى يومنا هذا!، خصوصًا أن هناك نقصًا في القوة البشرية القتالية والمعدات والذخائر والأسلحة، لا سيما أن جيش الاحتلال اعتمد إستراتيجية بناء جيش صغير بتقنيات وقدرات عالية منذ عام 1992، ولكن هذه الإستراتيجية ثبت فشلها في هذه الحرب؛ بسبب قلة القوات وتعدد الجبهات والتهديدات.

الحقيقة الثالثة: أن ما ينطبق على حماس في قطاع غزة لا يمكن أن ينطبق على حزب الله في لبنان من نواحٍ كثيرة، ومنها: أن غزة محاصرة جوًا وبرًا وبحرًا، كما أن القدرات العسكرية والتسليحية لحماس قليلة وبسيطة، ويغلب عليها التصنيع المحلي، ومع ذلك فقد كانت مؤثرة وأثبتت أنها قادرة على مواجهة الآلة العسكرية الجبّارة لقوات الاحتلال الإسرائيلي.

أمّا حزب الله فهو يمتلك عمقًا كبيرًا باتجاه سوريا التي يتواجد فيها مقاتلوه بشكل كبير، بالإضافة إلى العراق، وإيران، كما أن الحزب غير محاصر وبإمكانه الحصول على الكثير من الأسلحة عند الحاجة، يضاف إلى ذلك أن هناك قدرات عسكرية وترسانة أسلحة تراكمية من ثمانينيات القرن الماضي، ولديه خبرات وقوات عالية التدريب والمستوى بإمكانها العمل في ظروف قاسية وخارج الحدود اللبنانية، كما يمتلك تجربة قتالية كبيرة في خوض الحروب غير المتناظرة والتي كان آخرها مع الكيان الصهيوني عام 2006، وكذلك مجريات الحرب في سوريا واليمن والعراق.

الحقيقة الرابعة: أن ترسانة الأسلحة التي يمتلكها حزب الله تتكوَّن من ترسانة صاروخية بمديات مختلفة وكبيرة تصل إلى جميع المدن الفلسطينية المحتلة، وكذلك الطائرات المسيرة بأنواع مختلفة، وهي قادرة على تنفيذ مهام تكتيكية قتالية واستطلاعية وانقضاضية، ويمكن استخدامها للرصد والمراقبة والتصوير، بالإضافة إلى وجود أسلحة دفاع جوي استطاعت أن تسقط الطائرة المسيرة (هيرمس900) بصاروخ أرض – جو في بداية شهر يونيو/ حزيران الجاري والتي تعتبر واحدة من أغلى وأكبر الطائرات المسيرة، كما يمتلك صواريخ مضادة للدبابات بما فيها الكورنيت الروسي، وصواريخ بحرية استخدمت في حرب عام 2006 في ضرب الفرقاطة الصهيونية "ساعر" في البحر المتوسط، وقد أثبتت هذه الأسلحة فاعليتها في تعطيل قدرة الردع الإسرائيلي طوال الفترة الماضية.

كما أن تهديد روسيا بدعم الجهات المعادية لأميركا وأوروبا بالسلاح سيشكل تحديًا جديدًا وكبيرًا في إمكانية تطور الصراع في المنطقة، خصوصًا إذا دخل حيز التنفيذ؛ للرد بالمثل على الإجراءات الأميركية التي سمحت لأوكرانيا باستخدام الأسلحة الأميركية والأوروبية؛ لضرب أهداف في العمق الروسي، مما سيؤدي إلى اختلال كبير في موازين القوى، لذا فهناك متغيرات دولية وإقليمية يجب أخذها بنظر الاعتبار في اتخاذ أي قرار يخصّ التوسع في جبهات جديدة مع لبنان التي يمكن أن تفتح جبهة سوريا، رغم التحديات في ذلك.

إن وجود هذه الترسانة العسكرية الضخمة لدى حزب الله، يعني أن المواجهة ستكون دامية ومدمرة لكلا الجانبين وعلى كافة المستويات وخاصة الاقتصادية والعسكرية منها، خصوصًا إذا تم استهداف مناطق وبنى تحتية وأهداف إستراتيجية حيوية ومهمة، مثل: الموانئ، ومحطات الطاقة، وحقول الغاز، ومحطات الكهرباء، والماء، والوزارات، ومواقع الاتصالات، والقواعد الجوية، ومخازن الأسلحة، والمقرات السيادية، ومراكز الثقل السياسي والعسكري، ومفاعل ديمونة، فهل تتحمل إسرائيل تدمير هذه المواقع المهمة؟، مع وجود صواريخ موجهة وطائرات مسيرة قادرة على تنفيذ مهام قتالية وتكتيكية دقيقة، وهذا لا يعني ألا تكون هناك ضربات من الجانب الإسرائيلي على لبنان.

لا شك أنه سيكون هناك تدمير في البنى التحتية والاقتصادية والعسكرية والمدنية، ولكني أقول إن إسرائيل غير قادرة على تحمل هذه التبعات في هذه الفترة الحرجة، خصوصًا مع تزايد الهجرة إلى خارج الأراضي المحتلة، وهذا يعني أن المواجهة ستكون مختلفة عما يجري في قطاع غزة، وستكون المعركة ضارية ومكلفة للكيان الصهيوني الذي يعتمد على الدعم الأميركي في أية مواجهة عسكرية، وهذا قد يجرّ إلى تدخل إيراني أيضًا في الصراع وهذا ما لا تريده واشنطن.

الحقيقة الخامسة: أن الرؤية الإستراتيجية الأميركية للصراع في المنطقة تعتمد على عدم توسعة الصراع ومنع أي أطراف أخرى من التدخل في هذه الحرب التي تجري في قطاع غزة، وقد حركت حاملتي طائرات وقوات من "دلتا فورس" لردع أي تدخل في الحرب، ولمساعدة إسرائيل في مواجهة القسام والفصائل الفلسطينية؛ لأن أي تدخل سيكون على حساب مصالح الإدارة الأميركية الحالية، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات الأميركية.

كما أن تصعيد المواجهة سيكون على حساب مصالح الأمن القومي الأميركي في هذه المنطقة، وعلى حساب مناطق أخرى، وخاصةً فيما يخص الصراع الذي يجري بين روسيا وأوكرانيا، لا سيما أن هناك تقدمًا عسكريًا روسيًا كبيرًا في المعارك على الأرض؛ بسبب تراجع الدعم الأميركي الذي تم تحويله من أوكرانيا إلى دعم إسرائيل في حربها على غزة.

وكذلك ستكون توسعة الصراع على حساب توسع النفوذ الصيني في آسيا الوسطى وبحر الصين الجنوبي، ناهيك عن التطور الكبير في الملف النووي الإيراني بعد أن زادت إيران من تخصيب اليورانيوم من (121) كيلو جرامًا إلى (142،1) كيلو جرامًا بنسبة (60%)، وهذا يعني أن الذهاب إلى نسبة (90%) لا تحتاج إلى جهد ووقت كبير لصناعة قنبلة نووية إيرانية.

وجميع هذه الملفات تضغط وتدفع الإدارة الأميركية العالقة مع إسرائيل في الحرب على غزة إلى إنهاء حرب غزة وليس الذهاب إلى فتح جبهة جديدة مع لبنان!، بما في ذلك احتمالية التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار والذي سيقود بدوره وقفًا لإطلاق النار في الشمال مع لبنان، حيث يقول مراسل القناة الإسرائيلية "عميحاي شتاين": إن مسؤولًا كبيرًا في الإدارة الأميركية أبلغه "إن واشنطن طلبت من إسرائيل عدم تصعيد الوضع مع حزب الله".

كما أبلغ الرئيس الفرنسي "ماكرون"، في وقت سابق رئيس حكومة الاحتلال "نتنياهو"، "بضرورة عدم تصعيد الوضع مع حزب الله"، لأن حلفاء إسرائيل اكتشفوا محدودية وقدرة الجيش الإسرائيلي على إنجاز وتحقيق أي من أهداف الحرب في غزة، فيكف سيكون ذلك في حرب مع حزب الله!؟، وهذا ما يجعلنا نقول إنه قد لا يتم توسيع هذه الجبهة من قبل الجيش الإسرائيلي بالوقت الحاضر لموازنات دولية وإقليميّة.

إن الخيارات الإسرائيلية صعبة وقليلة في التعامل مع الجبهة الشمالية مع حزب الله؛ لأن المواجهة الشاملة على هذه الجبهة ستكون ضارية وأشد خطرًا على الكيان الصهيوني من غزة، وبنفس الوقت سيكون تأجيلها  مع حزب الله أشد خطرًا على الكيان!، وقد يجلب كارثة أكبر من كارثة السابع من أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل!، وسيدفع ثمنًا باهظًا على ذلك التأخير.

كما أن بقاء الأوضاع على ما هي عليه الآن من تصعيد سيتسبب في خسائر كبيرة واستنزاف لجيش الاحتلال، لذا فحكومة نتنياهو أمام أيام صعبة توحي بعدم قدرة الاحتلال على توسيع الحرب في الجبهة الشمالية مع لبنان، علمًا بأن الكيان حاول من قبل أن يرسل الكثير من الوفود الفرنسية والأوروبية والأميركية إلى حزب الله لوقف التصعيد العسكري هناك، ولكنه فشل في ذلك.

ولكن مع كل هذه الحقائق التي سقناها نقول سيبقى خيار استخدام القوة واللجوء إلى الخيار العسكري البري في توسيع المواجهة مع لبنان قائمًا، ويجب أن يؤخذ في الحسابات العسكرية خصوصًا مع استدعاء (50) ألف جندي من الاحتياط!، والذي يمكن أن يكون جزءًا من الاستعداد القتالي لأي تصعيد مع لبنان، خصوصًا أن وزير الأمن القومي الإسرائيلي "بن غفير" يطالب بشن حرب شاملة على حزب الله، بينما طالب وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي "ميكي زوهار" في جلسة مجلس الوزراء بشن هجوم استباقي وقوي ضد إيران وحزب الله".

مشيرًا إلى أن تأجيل الحملة ضد إيران وتدمير قواتها النووية قد يؤدي إلى تدمير إسرائيل"، في تجاهل واضح للحقائق التي يمر بها الكيان، علمًا بأن إسرائيل غير قادرة على الدفاع عن نفسها، فضلًا على أن تقوم بشنّ حروب على جبهات متعددة، والحقيقة ما قالها "غانتس" عندما زار المناطق الشمالية: "إن عليهم الاستعداد لأيام أكثر صعوبة في الشمال"، كما نقلت القناة الـ12 الإسرائيلية عن "غانتس" قوله: إنّ عليهم ألا يشتكوا بشأن الحاضر، لأن المستقبل قد يكون أكثر إشكالية".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • معاريف: نتنياهو وغالانت وهاليفي إلى مزبلة التاريخ
  • جنرال إسرائيلي متقاعد: نتنياهو وغالانت وهاليفي إلى مزبلة التاريخ!
  • إسرائيل وحزب الله.. هل يتدحرج التصعيد لحرب شاملة؟
  • حماس ليست داعش
  • جامعة كولومبيا حاربت مقالا عن النكبة بكل قوتها.. النتيجة جاءت عكسية
  • الأردن يرحب بتبني مجلس الأمن قرارا يدعم التوصل لاتفاق لوقف شامل لإطلاق النار في غزة
  • عدم ثقة أغلبية الشعب الأمريكي في قدرة جو بايدن الذهينة
  • المراكز الصناعية الرئيسية في الشمال تنتقل بشكل متزايد إلى مناطق أخرى
  • إسرائيل تسعى لقطع خط إمداد أسلحة «حزب الله» من سوريا
  • حماس ليست المسألة