محيت من الخريطة.. حجم الدمار يصدم العائدين إلى جباليا
تاريخ النشر: 1st, June 2024 GMT
في شوارع جباليا التي أصبح من الصعب معرفتها، يعود سكان نزحوا بسبب الحرب الإسرائيلية المستمرة، وسط أنقاض هذا المخيم الواقع شمالي قطاع غزة، "مصدومين" لرؤية مكان "أزيل من الخريطة".
يقول محمد النجار (33 عاما) من مخيم جباليا "فوجئت بحجم الدمار الحاصل بالعدوان الأخير على مخيم جباليا. لا معالم للدور. كلها متداخلة وعبارة عن ركام.
ويضيف "لا مقومات حياة في جباليا، لا مياه ولا طرق ولا خدمات، حتى المستشفيات تم تخريبها وتدمير مولداتها التي تعمل عليها في كمال عدوان".
في الأسابيع الأخيرة، نفذ الجيش الإسرائيلي عمليات قصف كثيفة على هذه المنطقة من قطاع غزة.
وشاهد مراسلو وكالة الصحافة الفرنسية، الأيام الأخيرة، تدفق عدد كبير من الفلسطينيين إلى هذا المخيم الواقع في شمال القطاع، الذي تفرض عليه إسرائيل حصارا مطبقا، في محاولة للعثور على منازلهم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
كان رجال ونساء وأطفال يسيرون وسط شارع تنتشر فيه أنقاض مبان مدمرة. بعض العائلات وضعت فُرشا وألواحا من الكرتون على عربات تجرها حمير، في حين حمل آخرون لوازمهم على أكتافهم.
لكن رغم الدمار الواسع النطاق، يقول محمد النجار إن السكان "مصرّون" على العودة إلى ديارهم.
ويوضح "لدى الناس إصرار على العودة إلى دورهم وإقامة خيام وعرائش فوق الركام وإعادة الحياة إلى جباليا. هناك خوف من عودة الاحتلال مرة ثانية وثالثة، لكن سنبقى في أرضنا ولن نغادرها".
وتشن إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول عدوانا مدمر على قطاع غزة يترافق مع عمليات برية، مما تسبب بسقوط 36 ألفا و379 شهيدا، معظمهم مدنيون، وفق وزارة الصحة بغزة.
العيش بسلام
والشهر الماضي، قال الجيش الإسرائيلي إن القتال في جباليا "ربما هو الأعنف" منذ بدء الحرب.
وعثر على جثث 7 أسرى محتجزين في المنطقة في مايو/أيار الماضي. وتجدد القتال عندما سيطر الجيش الإسرائيلي على الجانب الفلسطيني من معبر رفح الحدودي مع مصر.
والجمعة، أعلن الجيش الإسرائيلي أن جنوده "أنهوا مهمتهم" في شرق جباليا.
من جهته، يؤكّد محمد النجار أنه ما زال يسمع أصوات طلقات نارية ونيران المدفعية في الشرق قائلا "نسمع في كل وقت قصفا مدفعيا ورصاصا يطلق من شرق جباليا، الناس سيظلون في المخيم".
بدوره، يقول محمود عسلية (50 عاما) من جباليا "لم أر حجم الدمار الموجود في جباليا من قبل، فهو دمار ونسف منازل بالكامل في مربعات سكنية. في منطقة جباليا، كل بيت إما أحرق وإما قصف بالمدفعية والدبابات وصواريخ الطائرات أو نسف. ليس هناك بيت إلا تعرض لقصف جيش الاحتلال الإسرائيلي".
ويضيف "عدنا إلى البيت، فرأيناه هيكلا من أعمدة إسمنت مهشمة ومدمرة (…) رغم كل هذا سنبقى في جباليا".
ويتابع "المعارك بين المقاومة والجيش كانت عنيفة والجيش تعرض للأذى وهذا دفعه للانتقام من البيوت والناس العزل. لن نغادر جباليا مهما فعل الاحتلال الإسرائيلي".
من جهتها، تقول سعاد أبو صلاح (47 عاما) من مخيم جباليا "تعبنا من نزوح إلى نزوح. الحرب دمرت حياتنا وحياة أطفالنا. يكفي قصف وضرب وموت (…) جباليا تم محوها من الخريطة".
وتختم "نريد أن نعيش مثل الناس في العالم. نحتاج إلى حل ووقف الحرب والعيش بسلام".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الجیش الإسرائیلی مخیم جبالیا فی جبالیا
إقرأ أيضاً:
عودة الجيش الأحمر
هل تكرهون الحروب مثلما تكرهون رجال السياسة الذين يعطون الضوء الأخضر باندلاعها، أو بالأحرى يفعلون ما بوسعهم فـي كثير من الأحيان كي تستعر نيرانها؟ هل ثمة بينكم من يشعر بالأسف على هذا المسار الذي يسلكه عالمنا، والذي يبدو «فـي العمق» وكأنه تطبيق حرفـي للكثير من خطابات بعض القادة العسكريين، الذين ينظرون إلى العالم من خلال فوهة المدافع، لا أكثر؟ إن كنتم كذلك فعلا، فما عليكم إلا أن تقرأوا كتاب «مغامرات فـي الجيش الأحمر» للكاتب التشيكي ياروسلاف هاسيك، الذي أعادت نشره مؤخرا دار «لا باكونيير» الفرنسية مع رسوم للمؤلف.
كتاب طريف ومفـيد وصغير الحجم، ينتهي فـي جلسة واحدة (88 صفحة)، على الرغم من أنه قد يبدو للوهلة الأولى وكأنه صار جزءا من تاريخ إنسانية مضى، وبدءا من عنوانه الذي يستعيد «الجيش الأحمر» الذي لم يعد موجودا عمليا. لكن وكما يقال، لا حاضر أو مستقبل من دون تاريخ. فمن لا يعرف الماضي، قد لا يجد حاضرا أمامه. أضف إلى ذلك كلّه، أنه كتاب يبدو، عمليا، بمثابة «تخطيط أولي» لرواية الكاتب الشهيرة «الجندي الطيب شفـيك وما جرى له فـي الحرب العالمية الأولى» (التي لا بدّ وأن قرأتموها فـي ترجمتها العربية). بيد أن «الزمان» و«المكان»، هنا، يختلفان قليلا، إذ يروي هاسيك ذكرياته الشخصية فـي الجيش الأحمر، خلال الحرب الأهلية (الروسية) العام 1918، وهو فـي «بوغولما» (التي تقع اليوم فـي تتارستان شرق روسيا) حيث كان يتواجه مع القوزاق.
كان ياروسلاف هاسيك (1883-1923)، الصحفـي الساخر من براغ، شاربًا كبيرًا (كالكثير من التشيكيين) ومتحدثا دائما فـي الملاهي الليلية، ومُجنّدًا فـي البداية فـي الجيش النمساوي. إلا أنه انضم لاحقا إلى البلاشفة عام 1918. أي انضم إلى جيش تروتسكي. لكن ما إن وصل إلى سيمبيرك حتى عُيّن حاكمًا عسكريًّا لمدينة بوغولما فـي أكتوبر 1918. وكانت أولى كلماته السؤال التالي: «هل أنت متأكد أن المدينة فـي أيدينا»؟ لا نعلم. أين تقع هذه المدينة؟ «ألا تعتقد حقًا أن لديّ ما أفعله سوى البحث عن مكان مثل بوغولما»؟ يجيب رئيس السوفـييت العسكري الثوري لـ«مجموعة الضفة اليسرى». جملة تحدد نبرة هذه الذكريات، مثلما تحدّد الفوضى التي سادت روسيا بعد عام من الثورة. لم يكن هاسيك ينتمي إلى شاعرية «الحرس الأبيض» المأساوية مثلما نجدها عند ميخائيل بولغاكوف (كما فـي روايته المدهشة «المعلم ومرغريتا» وغيرها بالطبع)، ولا إلى تلك الواقعية الباروكية التي عرفناها فـي رواية اسحق بابل «الفرسان الحمر». كلّ ما يفعله هنا، يقتصر على المحن التي تُروى كقصص الثكنات. لذا يبدو الأمر لا يُقاوم فـي معرفة ماذا كان يدور هناك بين العسكر.
نعود فـي كتابه هذا لنجد تلك النبرة التي عرفناها فـي مغامرات «الجندي الشجاع شفـيك...»، تلك النبرة التي تناساها العالم، للأسف، وهو يحتفل مؤخرا بذكرى إحياء الحرب العالمية الأولى. المأساة موجودة، لكنها مخفـية فـي حكايات هزلية. فـي إحدى المرات، حُكم عليه بالإعدام من قِبَل محكمة ثورية، بناءً على برقية من خصمه يتهمه فـيها بالخيانة. حكمٌ واجب النفاذ فورًا. لم يعرض رئيس المحكمة سوى إحضار السماور وفنجان شاي قبل الشروع فـي العمل. انتهز المحكوم عليه الفرصة لطلب جلسة استماع مع كاتب البرقية، فقد اعتُبرت غير ضرورية. سُمع الرجل وقال: «يا رفاقي، البرقية، كنتُ ثملًا عندما أرسلتها». وانقلبت الأدوار. اتُهم كاتب البرقية بدوره. ليلة من المداولات مع رئيس المحكمة. فـي النهاية، لم يُطلق النار على أحد؛ وُجّه تحذير للسكير المتهم. أشار هاسيك: «خلال مداولاتنا، كان الشخص المعني، من جانبه، نائمًا نومًا عميقًا».
هكذا تفشل الطموحات الشخصية! يُسخر من الشكوك العسكرية وصراعات السلطة فـي سلسلة من التقلبات الطريفة. إنها أيضًا وسيلة للتعبير عن مخاوف السكان المدنيين المتضررين من الحرب. ربما يعود ذلك إلى صياغة معينة، مثل اليوم الذي يستعد فـيه هاسيك، بصفته الحاكم الجديد لبوغولما، لاستقبال سلاح الفرسان البطل والبارع من «فوج تفـير الثوري». أرسل أمر استيلاء إلى «رئيسة دير السيدة العذراء مريم»: «ضعي خمسين راهبة عذراء فورًا تحت تصرف فوج فرسان بتروغراد. يُرجى إرسال العذارى مباشرةً إلى الثكنات». ساد الذعر الدير والمدينة، واستنفرت الكنيسة الأرثوذكسية، وخرجت المواكب والتجمعات مع هتافات «المسيح حي، المسيح يحكم، المسيح منتصر!». سألته رئيسة الدير أخيرًا: «بحق الله، ماذا سنفعل هناك؟... لا تُدمر روحك»! فأجاب الحشد: «سنغسل الأرضيات وننظف الثكنات بأكملها حتى يشعر فوج فرسان بتروغراد بالراحة هناك. هيا بنا»! وتبعه الجميع. لاحقًا، أعطته «راهبة شابة وجميلة» أيقونة صغيرة لشكره...
وراء هذه الحكايات المتفرقة -التي قد تبدو عادية من حيث الظاهر، لكنها الحاملة فـي طياتها كل «فوضى الثورة»- نرى عنف السلطة السوفـييتية وتعسفها فـي إرساء دعائمها، ووحشية الأوامر وظلمها. وهكذا، أمرت هذه البرقية الصادرة من «الجبهة الشرقية السوفـييتية الثورية»، عندما خُطط لإخلاء المدينة، بتدمير كل ما خلفها وانتظار النجدة. يكتب هاسيك: «سقطت البرقية من يدي».
عاد ياروسلاف هاسيك إلى براغ عام 1920. كان يومها فرانتز كافكا قد أصدر «طبيب الريف»، بينما «رمى» هاسيك فـي حانات براغ (كما فـي قرى تشيكيا) تلك الشخصية الساخرة والساحرة: الجندي شفـيك، وهي الشخصية التي لم تتوقف لغاية اليوم، وبعد مرور أكثر من قرن، عن إثارة القراء فـي مختلف أرجاء العالم. بدأ بنشر مذكراته فـي الصحافة التشيكية العام 1921. ليستأنف كتابة مغامرات «الجندي الشجاع شفـيك» (كان من المقرر نشر ستة مجلدات، لكن لم يصدر منها سوى ثلاثة)، وتبنّى الناس شخصيته المناهضة للبطل، وازدادت شعبيته. فما فعله هاسيك مع بطله الفريد هذا، ليس سردًا دقيقًا لانهيار إمبراطورية، بل كما تمنى لورانس داريل، عملٌ من أعمال العرافة. بثقةٍ هادئة، نجح هاسيك فـي نقل تاريخ الحرب خارج نطاق 1914-1918، وجعله يخدم مصالحه. إن رؤية الكائنات والأشياء التي ينسبها إلى الجندي الشجاع، هذا الساذج الماكر، تُزعزع الصور المألوفة للنساء والرجال الذين يلتقيهم، كما نحن، بالطبع.
فـي أي حال، وبسبب إدمانه الكحول ونكساته الشخصية، تُوفـي هاسيك عن عمر يناهز 39 عامًا، فـي يناير 1923، وحيدًا وفقيرًا، تاركا وراءه تحفة أدبية، لن ينساها العالم أبدا.