ماذا بعد وثيقة العدل والإحسان السياسية؟
تاريخ النشر: 20th, June 2024 GMT
ماذا بعد وثيقة "العدل والإحسان" السياسية؟
لم يحمل المحور السياسي لوثيقة "العدل والإحسان" جديداً، بل حافظ على كل التراث القديم للجماعة في تعاطيها مع السلطة.
توزّعت الوثيقة السياسية، بعد التقديم، وتفاصيل تتعلق بالمنطلقات الكبرى للجماعة، إلى ثلاثة محاور كبرى: السياسة، والاقتصاد، والمجتمع.
نجحت المؤسّسة الرسمية بالمغرب في ترويض مارد الجماعات الدينية، على الأقل من ناحية التصورات الكبرى، إلى جانب تقزيم سقف توقعاتها وطموحها.
هل استطاعت الوثيقة السياسية التي أصدرتها، أخيرا، الدائرة السياسية للجماعة، أن تفاجئ توقّعات متابعي الشأن العام، وتكسر مناخ الصمت الجاثم على الواقع السياسي المغربي؟
صارت الدولة بالمغرب أكثر مغايرة للمتوقع من سقف الجماعات الإسلامية ولم يعد السؤال: كيف نتعامل مع المد الإسلامي ونواجهه؟ بل: ماذا يعني وجود الإسلاميين اليوم؟
"التمادي في التطبيع العسكري مع الكيان الصهيوني وتوسيعه ليشمل الأسلحة والاستخبارات والتدريبات العسكرية والمنظومة المعلوماتية؛ يهدّد الأمن القومي للمغرب ويشكّل خطراً على استقرار المنطقة".
* * *
قال عرّاب الإسلاميين في المغرب (حسب وصف بعضهم) وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق، الراحل عبد الكبير العلوي المدغري، في حوار أجرته معه يومية المساء، نشر في 1-11-2006،
"لو نجح ذلك الحوار في تقديري، لكنا اليوم قد انتهينا من هذا المشكل، ولكانت "العدل والإحسان" انخرطت في العمل السياسي، ولم يبق هناك مشكل قط".
ويقصد بالحوار الخطوة الطموح التي كان قد طرحها على الملك الراحل الحسن الثاني، وحصل على موافقته للشروع فيها في ذلك الوقت، وهي سلسلة مفاوضات جمعت الوزير صحبة لجنة رسمية سنة 1991 بمرشد الجماعة الراحل، الشيخ عبد السلام ياسين، وأعضاء هيئة الإرشاد فيها، من داخل سجن مدينة سلا.
وكان موضوعها الأساس، حسب تصريح آخر للوزير في حوار أجراه معه الباحث سليم حميمينات، في 25- 11- 2008، "موقف الجماعة من الملك والمؤسّسة الملكية"، وأفضت، في المحصلة، إلى انتزاع نتائج مهمة، في نظر الوزير.
وتلخّصت في موافقة الجماعة على الانخراط في العمل السياسي من داخل حزب سياسي، ووفق المشروعية الدستورية، والابتعاد عن العنف، والابتعاد كذلك عن التبعية لأي جهةٍ خارجية.
نتائج أكدتها وثيقة بخطّ شيخ الجماعة وتوقيعه، إلى جانب توقيع أعضاء هيئة الإرشاد.
وإذا كانت هذه الخطوة قد تمت تحت إشراف الوزير المدغري، فإنها كذلك، ليست إلا تعبيرا عن رؤية الحسن الثاني تجاه الجماعات الإسلامية، رغبة في احتوائها وتوجيه مسارها، ومنحها خصوصيّتها المغربية، حتى لا تتّسع دائرة تأثيرها خارج نفوذ السلطة، أو تتحوّل إلى مشكل لا يمكن التعامل معه.
فتوافقت رؤية الملك مع تطلعات المدغري، مؤلف كتاب "الحكومة الملتحية"، فوجدت طريقها إلى التجسد بعد ذلك. ورغم حديث باحثين كثيرين عن تدخل طرف ثالث لإفشال هذه الحوارات التي كانت قاب قوسين أو أدنى من ضمّ الجماعة لجناح الدولة، فإننا نرى أنها خلفت أثرا إيجابيا كبيرا على توجّهات الجماعة.
فقد أذكت فيهم روح الخصوصية المغربية، وأشعرتهم بأنهم يتعاملون مع نظامٍ يختلف عن الأنظمة الأخرى، التي راكمت مشكلاتها مع المد الإسلامي، إلى درجة أصبح فيها وجود أحدهما مقترنا ضرورة بفناء الآخر.
وإذا كانت كل هذه التفاصيل جزءا من أرشيف الذاكرة السياسية المغربية، فإن لحظة الثورات الديمقراطية سنة 2011 في المنطقة جعلت الحديث عن موضوع الجماعة في المغرب، وأفق ما ينتظره كثيرون منها، يتّجه نحو الاختلاف والتطّلع إلى الإبداع، بعيدا عن كل حلقات الحوار والمفاوضات المفرغة السابقة، والتي كانت تعود دائما إلى نقطة البداية.
فهل استطاعت الوثيقة السياسية التي أصدرتها، أخيرا، الدائرة السياسية للجماعة، أن تفاجئ توقّعات متابعي الشأن العام، وتكسر مناخ الصمت الذي يجثم على الواقع السياسي المغربي؟
رغم إصدار الوثيقة في فبراير/ شباط الجاري، فإنها موثقة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتضم 198 صفحة، توزّعت، بعد التقديم، وتفاصيل تتعلق بالمنطلقات الكبرى للجماعة، إلى ثلاثة محاور كبرى: السياسة، والاقتصاد، والمجتمع.
ولعل أول حاجزٍ يقف أمام الاطلاع السلس عليها، حجمها الكبير، والذي نعتقد أنه سببٌ كافٍ لعدم التفاعل معها بالشكل المطلوب، إلى جانب الصياغة الجافّة، التي تقتفي أثر كتابة الخبراء في المجالات الثلاثة المذكورة.
فصارت أشبه بصياغة الوثائق التي تُصدرها الدولة، التي تغرق القارئ في كمٍّ مهول من المقترحات والحلول والمشكلات، فبدل أن تختزل له الصورة، وتزيل ما فيها من لبس، تزيد من فرط غموضها والتباسها!
وإذا أردنا التدقيق أكثر، لم يحمل المحور السياسي للوثيقة جديداً، بل حافظ على كل التراث القديم للجماعة في تعاطيها مع السلطة، ما وضعها في صورة مشوّشة، لا تميل إلى أيٍّ من الطرفين، سواء وجه الجماعة القديم، أو واقع العالم المتغيّر اليوم، وهو ارتباك في استشراف مستقبل الجماعة وأفقها السياسي.
ولعل الجماعة اتكأت على ملفّ قضية فلسطين التي توزّع الحديث عنها داخل الوثيقة، معلنة رفضها كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومصرّحة إن "التمادي في التطبيع العسكري مع الكيان الصهيوني وتوسيعه ليشمل الأسلحة والاستخبارات والتدريبات العسكرية والمنظومة المعلوماتية؛ ما يهدّد الأمن القومي للمغرب ويشكّل خطراً على استقرار المنطقة" (ص 74).
ورغم هذا التنديد، لم تنل قضية فلسطين حظّها المستحق داخل هذه الوثيقة السياسية، وهو أمرٌ شديد الغرابة، ويطرح استفهامات كثيرة، حول نجاعة الخبراء السياسيين الذين أشرفوا على تنسيق مواد هذه الوثيقة وتحريرها.
أما الجانب الاقتصادي والاجتماعي منها، فلم يختلف، من حيث الانتقادات والحلول المقترحة، عن بقية الوثائق التي تصدرها المندوبية السامية للتخطيط، أو مجلس المنافسة، أو المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وغيرهم من المؤسّسات الرسمية.
وربما كانت وثائق هذه المؤسّسات أكثر دقة، نظرا إلى تضمّنها نسبا وأرقاما للظواهر التي تعالجها، بعكس وثيقة الجماعة، التي برغم طولها، غلب عليها طابع تعميمي لا يتناسب مع حجمها الكبير، وإن صرح القيادي البارز فيها، فتح الله أرسلان، بأن ذلك متعمّد، حتى تتخذ أسلوبا وسطا بين الأفكار العامة وبرامج الأحزاب السياسية (جاء تصريحه في حوار معه نشرته هسبريس الإلكترونية في 18- 2- 2024).
ورغم هذا التصريح، يؤكد الملاحظة السابقة تناول الوثيقة موضوع التنمية، والذي كان تكرارا تعميميا لمقترحاتٍ عديدة تقدمها مؤسّسات الدولة، وإن جاءت الوثيقة على مسألة عدم تفعيل هذه المقترحات، غير أنه كان منتظراً من وثيقة الجماعة أن ترفع سقف التوقّعات التنموية، والمبادرات المبدعة في هذا المجال، باعتبارها من التجمّعات السياسية في المغرب، التي تلتحف بصورة المعارضة وامتلاك الحلول، إلى جانب أنها بعيدة عن مزاولة الشأن العام، الأمر الذي قد يمنحها أريحيّة وفرصاً أكبر في القدرة على الابتكار والتفكير في مغرب المستقبل.
وأخيراً، ليس للمراقب غير أن يسجل أن المؤسّسة الرسمية في المغرب نجحت، إلى حد بعيد، في ترويض مارد الجماعات الدينية، على الأقل من ناحية التصورات الكبرى، إلى جانب تقزيم سقف توقعاتها وطموحها.
هذا إن لم نقل إن الدولة في المغرب صارت أكثر مغايرة للمتوقع من سقف الجماعات الإسلامية. وأمام واقع كهذا، لم يعد السؤال متجسّداً في القول: كيف نتعامل مع المد الإسلامي ونواجهه، بل في القول: ماذا يعني وجود الإسلاميين اليوم؟
*عبد الله هداري كاتب وباحث مغربي
المصدر | العربي الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: المغرب العمل السياسي عبد السلام ياسين الحسن الثاني الوثيقة السياسية جماعة العدل والإحسان وثيقة العدل والإحسان حزب سياسي الوثیقة السیاسیة العدل والإحسان فی المغرب إلى جانب
إقرأ أيضاً:
في الروحانية السياسية..كيف عايش فوكو الثورة الإيرانية ؟!
في صباح الأول من فبراير عام 1979م هبطت طائرة «آير فرانس» في مطار مهرآباد الدولي بطهران تقلّ الرجل السبعينيَّ الذي أنهكته المنافي الطويلة لتصطف الجماهير أمامه لا بصفته قائدًا عائدًا، بل نداءً تاريخيًّا خرج من طيّات الذاكرة ليحضر في قلب اللحظة. إنه الرجل الذي قرّر اختراق جدار الصمت وتحويل الانتظار إلى تمثيل حيث بات الآن هناك من ينوب عن الغائب ويجسّد حضور الإمام، لا كوظيفة دينية فحسب بل سلطة زمانية تعيد ترتيب العلاقة بين المجتمع والدولة. ذلك هو رُوحُ اللهِ بنُ مُصطَفَی بنِ أَحمَدَ المُوسَوِيّ الذي استقرّ في ذاكرة العالم والشعب باسم الإمام الخُمَينِيّ. ولقد كانت تلك اللحظة إعادةً لترتيب العلاقة بين السلطة والمقدّس في بلاد أردشير، وقبل نزول طائرته، كانت هناك طائرةٌ أخرى تقل الشاه محمد رضا بهلوي الذي غادر البلاد قبل ذلك بأسابيع في مشهدٍ يعلن عن انسحاب الشاهنشاهية وعودة العرفان السياسي إلى أرض الغزالي والسهروردي والطوسي. وبين الطائرتين تظهر فارس الجديدة لكن لا بوصفها قوة قومية بل إعلانًا لانتصار مظلومية ظلّت مؤجَّلة. وفي قلب هذا المشهد سَيطلّ فيلسوف التمرّد والحقائق المتوحشة ميشيل فوكو (1926-1984) ليكون شاهدًا على ثورة رآها بعثًا لقوة تُستمدّ من الطقوس لا لتُعيد الدين إلى السياسة، بل لتستبقيها عند طاعة النص والمرشد والقائد . وفوكو المُعبّأ بالكشف والتنقيب والمولع بتفكيك بُنى السلطة والمعرفة لم يكن مهتمًّا بإيران الدولة، بل بما شكّلته هذه اللحظة من كسرٍ لنموذج الحداثة التي طالما اعتبرها إحدى أعظم متاعب الوعي الغربي. وحين كان يراقب إيران قبيل الثورة وبعدها وقد بلغ نهاية الخمسينيات من عمره ووصل إلى ذروة نضجه وتحولت أدواته التحليلية إلى حالات من القلق بعد أن اكتشف أكذوبة العقل الغربي وتوسّله العقلانية لينتهي بها أداة للضبط والترسمل، وإحكام السيطرة، لذلك حين سمع عن شعبٍ يثور لا باسم البروليتاريا، بل باسم مجالس العزاء لم يستطع إلا أن يشدّ رحاله إلى طهران بحثًا عن جواب لأحد أكثر أسئلته تشرسا، وهو: من أين تأتي الإرادة حين لا تبقى أدوات للسياسة؟ وهنا رأى في هذا الحراك الديني ما لم يره في فرنسا، ووجد نفسه أمام لحظة طالما سنّ أدواته لمواجهتها حتى غدا الحدث الإيراني ولادةً لنمط جديد من المقاومة. ولذلك نراه يكتب عددًا من التقارير عن الثورة الإيرانية لا بوصفها احتجاجًا سياسيًا تقليديًا وإنما كتجلٍّ لروحٍ جديدة تنهض في وجه تابو العنف المقدس، وتعيد مساءلة السلطة من خارج أدواتها الصلبة. وعندما كان يسأل الناس عمّا يريدونه لم تكن مفردة «الثورة» هي الحاضرة بل الهتاف باسم «الحكومة الإسلامية» في إشارة إلى رغبة ضمنية في إعادة وصل السياسة بالعقيدة لا على نحو دعوي بل كبحث عن يقين جامع في مواجهة نظام فقد شرعيته، وتحفزت حواسه النقدية حين رأى نصف مليون شخص يواجهون الرصاص والدبابات باسم الإمام الخميني بوصفه مرشدًا يتجاوز اللحظة إلى تمثيلٍ روحي عميق. ويبدو أن ما دفع فوكو إلى عقد مقارنة بين تلك اللحظة وما تمخّض عن عصر النهضة في أوروبا هو طريقته في الكشف عن البنية الأعمق للحدث ليجد أن الفارق لا يكمن في طبيعة التطلعات بل في جوهرها؛ فالإنسان الأوروبي آنذاك كان يسعى إلى التحرر من طغيان المؤسسة بينما الإيراني في خضمّ ثورته وجد في العودة إلى الجماعة خلاصًا من ظلم الدولة الحديثة. وما كتبه فوكو نتج عن تتبّع دقيق لنمط من الفعل الجمعي رأى فيه تجاوزًا للمنطق السائد وتعبيرًا عن إرادة لم تُشكَّل داخل العقلانية الغربية. وهو الذي جاء إلى طهران مراسلا صحفيا لم يُعنَ برصد بنية الثورة أو مؤسساتها بل وجّه نظره الفلسفي إلى لحظتها إذ لم تكن الجموع تسعى إلى إصلاحٍ مرحلي بل كانت تتجه نحو خلاصٍ يتجاوز المألوف؛ وكان استدعاء المقدّس يتحوّل من ممارسة طقسية إلى صوتٍ حاضر في صلب الفعل السياسي، ومن هنا لم يتعامل مع المشهد في حدوده الدينية ليرى فيه حالة من الانشقاق عن منطق الدولة ذاتها، وأداة لإعادة بناء السياسة على أسس تمثيلية مغايرة، وقد لاحظ فوكو أن التديّن الشعبي لم يعد بالإمكان حشره في قُم أو مشهد لأنه قد تحوّل إلى طاقة اجتماعية تستثمر في الذاكرة الجمعية طمعًا في الانتقال من الحوزة إلى الدولة. ليجد في هذه اللحظة ما سمّاه لاحقًا «الروحانية السياسية» وهي تلك التي رأى ملامحها أيضًا في انتخاب يوحنا بولس الثاني في بولندا وفي تجديد البوذية في آسيا بوصفها تجلّيات لإرادة رفضٍ للعالم لا تنبع من انكفاء ديني، بل من نقدٍ جذري للحداثة التي نزعت عن السياسة أفقها المتعالي، وحوّلتها إلى إدارة بلا روح.
في مقالته «طهران: الإيمان في مواجهة الشاه»، دوّن فوكو انطباعاته عن العاصمة الإيرانية عقب أحداث «الجمعة السوداء» التي قُتل فيها آلاف المتظاهرين برصاص الجيش، قائلاً إن المدينة لم تبدُ خاضعة بل أشبه بجسدٍ متحفّز. وقد كان واضحًا أن هذا الانضباط الظاهري ألهمه القول إن لا نجاة لهذا القمع أمام هذه الإرادة. فالهتافات التي رافقت الحشود لم تكن مجرد تعبيرات احتجاجية، بل كانت تحمل طابعًا شعائريًا أكثر منه أيديولوجيًا: «الإسلام، الإسلام، خميني، سنتبعك»، بل حتى «خميني ملكًا»؛ وهي عبارات لم تمرّ عليه كصدى لحظي، بل قرأ فيها تحوّلًا من منطق التمثيل السياسي إلى منطق الشرعية الرمزية، حيث تُستبدل صورة الحاكم الزمنية بصورة «القدّيس» الذي لا يُحكم باسمه، بل يُستدعى مرجعًا أخلاقيًا جامعًا. لقد كان الرجل مشغولًا بما يتجاوز السياسة، لذلك عندما كتب مقاله الشهير «عمّاذا يحلم الإيرانيون؟» في مجلة لو نوفيل أوبسرفاتور (16-22 أكتوبر 1978م)، لم يكن يفتش عن تفكيك بنية السلطة، بل كان منصرفًا إلى الإنصات لما لم تُفلح أدوات التحليل السياسي في التقاطه، إذ فاجأه أن تكون اللغة المتداولة في الشارع لا تطلب بوضوح ولا ترفع شعارات أيديولوجية، بل تُفصح عن توقٍ جماعي يتجه نحو أفق غير معرّف بعد.
وحين سُئل عن مفهوم «الروحانية السياسية»، أوضح فوكو أنه لا يعني بها تدينًا مؤسسيًا، بل تلك الإرادة التي تنبع من الداخل وتمنح الجماعة قدرة على مواجهة القمع، ولهذا رأى في الثورة الإيرانية إمكانًا لبعث سؤال الحرية خارج ثنائية الليبرالية والاشتراكية، وتجسيدًا لخطاب روحي لا يستدعي الماضي، بل يفتح ثغرة في جدار الحداثة المغلق. لكن انجذاب فوكو لم يرافقه موقف نقدي واضح من مسار الثورة لاحقًا، ما عرّضه لهجوم واسع، إذ اتّهمه ماكسيم رودنسون بالوقوع في أسر افتتان غيبي بكاريزما الشرق، بينما رأت بعض الناشطات الإيرانيات في صمته تواطؤًا مع بنية ذكورية أقصتهن سريعًا من المشهد، وطرحن عليه سؤالًا حادًّا: كيف لفيلسوف أن يحتفي بثورة تُقصي أضعف من فيها؟ وقد جاء رد فوكو هادئًا لكنه كاشف، إذ قال إن ما استوقفه لم يكن المشروع السياسي، وإنما تلك اللحظة التي استطاعت فيها الروح الجماعية أن تستعيد صوتها خارج المؤسسة. لذلك، فإن الثورة في نظره لم تكن إلا تجربة روحية في قلب السياسة.
إننا حين نستعيد فوكو اليوم فإن دافعنا هو مساءلة انفعاله الفلسفي أمام حدث لم يكتمل في عينيه. فقد قرأ الثورة الإيرانية من موقع مَن افتُتن لكنه لم يذهب بعيدًا بما يكفي في نقد البنية التي حملت هذا المعنى ولم يسمح لنفسه بمساءلة حدود اللحظة التي رآها استثنائية، ونحن إذ نعيد قراءة «فوكو في طهران» اليوم في ظل احتدام الصراع السياسي الراهن لا نستدعيه كشاهد على زمن مضى، بل نراه كشافًا فلسفيًا يرى أن الطقوس حين تُفعّل قد تعيد تنظيم العلاقة بين الجماعة والسيادة. وهكذا فإن الطقوس التي رآها محرّكات للسيادة قد تصبح في غياب النقد والمساءلة أدوات لإدامة الانقياد. لذا فإن العودة إلى فوكو لا تعني الاصطفاف خلف رؤيته، بل اختبارها حيث يتشابك العزاء بالسياسة والطقس بالسلطة والحقيقة بما لم يُقَل، وأيضا مسعانا لربط التحليل بالبنى الاجتماعية من أجل بلوغ رؤية أعمق تتجاوز السطح، وهذا ما يعلمنا محمد عابد الجابري حين يشدد على ضرورة قراءة الحدث داخل شبكة العلاقات، ودون التأثر بالرغبات وذلك لاستخلاص المعرفة من المعرفة ذاتها.
غسان علي عثمان كاتب سوداني