النفط.. قاتِلُ العراق الصامت
تاريخ النشر: 2nd, July 2024 GMT
الاقتصاد نيوز — بغداد
تضم البصرة، ثاني أكبر مدينة في العراق والواقعة أقصى جنوبه، حوالي 2.9 مليون عراقي، إلا أن هذا الرقم الرسمييعتبر مُخلاً إذا ما قورن بعدد الساكنين الفعلي للمدينةحيث إن العديد من عمال المناطق الريفية المجاورة انتقلواإلى المدينة بحثاً عن وظائف في قطاع الصناعة النفطية، مما يصعب عملية التحقق من الأعداد الحقيقية.
وما ما يزال معدل البطالة مرتفعاً، رغم وجود شركات النفط الكبرى في البصرة، وهذا ما يدفع العراقيون للبحث عنفرص عمل في قطاعات أخرى. وأدى تجاهل تحسينالخدمات الصحية والتعليمية والعامة إلى اندلاع "حركة تشرين" في عام 2019، بحسب تقرير لموقع "The New Region".
ويمثل تلوث النفط في البصرة تهديداً كبيراً للسكان حيث تؤدي عمليات استخراج وتكرير النفط إلى انبعاثات مرتفعةتسهم في زيادة معدلات السرطان.
"السرطان يمشي معنا"
زارت "The New Region" قرية نهران عمر، والتي تبعد15 كم شمال البصرة، حيث بالإمكان لمس تأثير الصناعةالنفطية على السكان بشكل وثيق إذ يدفع العراقيون ثمنعيشهم بالقرب من حقول النفط. ومن بين هؤلاء، رغد كريم،ذو الـ 44 ربيعاً، الذي يكافح مرض سرطان القولون.
يقف رغد كريم متحدياً، بينما تخنق أعمدةُ الدخان الأسودالسماءَ من خلفه، وهو تذكير صارخ بالتهديد الصامت الذييطارد قريته منذ سنوات، قائلاً إن "هذا (في إشارة إلىالدخان) هو ما نتنفس منذ سنوات. إنها أزمة قد دمرت السكان، سرطانات من جميع الأنواع وأمراض تنتزعأنفاسك. والآن، لقد أصابتني أنا كذلك".
مضيفاً "في 2007، توفي أخي بالسرطان، واليوم، أناأكافح المرض، مما يجعل حياتي حرجة للغاية".
الصعوبات التي يواجهها رغد كريم تتجاوز مصيبة مرضهفحسب، فعندما تم تشخصيه بمرض سرطان القولون تغيرت حياته وانقلبت رأساً على عقب إذ أصبح يكافحلتحمل تكاليف الرعاية الطبية والعلاج الكيميائي الباهظ،والذي سافر إلى لبنان من أجله لأنه لم يكن متاحاً فيبلده، فبدون دعم من مؤسسة حكومية أو خيرية أُجبررغد كريم على تمويل علاجه بنفسه.
وتمكن رغد كريم، بفضل الديون ويد عون الأصدقاء، منإجراء عملية جراحية استطاع بها أن يزيل الورم. ومعذلك، فإن احتمالية عودة السرطان ما تزال مرتفعةً فهو بحاجة إلى أدوية واختبارات متابعة مستمرة لضمان التعافي الكامل من المرض، ولكن تكلفة الجراحة قد استنزفت موارده مما وضعه وعائلته تحت ضغط وتوتر كبير.
ويضيف كريم، إن "العديد من الناس الذين أعرفهم فيقرية نهران عمر يخشون زيارة الأطباء خوفاً من إخبارهمبأنهم مصابون بالسرطان. وهذه معركة نفسية يواجههاالجميع هنا يومياً. يمكنني القول إن السرطان في حيّنا مثلالأنفلونزا، منتشر بشكل صادم".
وفقًا لموقع World Meter، يمتلك العراق حوالي 143 ملياربرميل من احتياطي النفط المؤكد حتى عام 2016، ممايجعله في المرتبة الخامسة عالمياً، وهذا يمثل حوالي 8.7% من إجمالي احتياطيات النفط العالمية.
الخطر من حرق النفط ليس محدوداً بمنطقة نهران عمرفحسب، إذ إن التلوث يؤثر أيضاً على مناطق أخرى حولالبصرة، وأهمها الرميلة، التي تضم أحد أكبر حقول النفطفي العالم.
ما لا يعوضه المال.. فقدان الأب
في أبريل من العام الماضي، فقد علي حسين جلود، شابمن البصرة، معركته مع سرطان اللوكيميا عن عمر يناهز 21 ربيعاً. تعتقد عائلة علي، التي تعيش بالقرب من حقل نفطيكبير تابع لشركة BP البريطانية في الرميلة، أن الاحتراقالمستمر للغاز ساهم في إصابته بالمرض ووفاته في النهاية.
تم تشخيص علي بالمرض عندما كان في الخامسة عشرةمن عمره، وشمل علاجه عدة جولات من العلاج الكيميائيوزرع نخاع العظم والعلاج الإشعاعي داخل وخارج العراق.
كان علي ماهراً في كرة القدم وحَلُمَ بأن يصبح لاعباً محترفاً، كما أنه كان يمتلك متجراً صغيراً لبيع الهواتفالمحمولة وملحقاتها في قريته.
ويهدد والد علي، السيد حسين جلود، بمقاضاة شركة BP بعد وفاة ابنه.
يقول جلود، وهو في الخمسينات من عمره، لـ "The New Region"، إن "فقدان ابني علي لا يمكن تعويضه. لا يمكن للمال أن يعيده إلي، لكن علاجه كلَّفَ مبلغاً كبيراً. بعت مجوهرات زوجتي واستدنت الأموال بكثرة حتى أني اضطررت لبيع الأثاث لدفع تكاليف العلاج داخل العراق وخارجه. أنفقت أكثر من 180 مليون دينار عراقي (حوالي137,000 دولار أمريكي) على علاج علي، لكن للأسف، لمأتمكن من إنقاذه"
ويضيف جلود، أن "العشرات، وربما حتى المئات، في منطقة الرميلة ماتوا أو أصيبوا بالمرض نتيجة لانبعاثات الغاز السامة."
إن الاحتراق الغازي هو حرق الغاز الزائد، ويعتبر ممارسة شائعة أثناء عملية استخراج النفط. هذه العملية تطلق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون والميثان والخام الأسود، مما يشكل أخطار على الصحة والبيئة.
يقول جلود، إن كلاً من "شركة BP أو الحكومة لم تتواصلامعي بعد أن تم الكشف عن هذه المشكلة في وثائقيBBC"
يعتبر حقل الرميلة النفطي، والذي يقع في جنوب العراق على بعد 50 كم غرب البصرة والذي يستخرج يومياً 1.5 مليون برميل وممثلاً ثلث إمدادات النفط في البلاد وثالث أكثر الحقول إنتاجية في العالم، شريان الحياة لاقتصاد العراق.
تعرضت عائلة علي وسكان آخرون في الرميلة للغاز المحترق على بعد أقل من 2000 متر من منازلهم. وهذا يتعارض بشكل صارخ مع القانون العراقي، الذي ينص على أن تكون المناطق السكنية ومواقع الاحتراق على الأقل على بعد10 كم.
يضيف جلود بأن "عائلتي تعيش في الرميلة، حيث كان هناك إنتاج نفط قليل قبل وصول شركة BP. لكن منذ أنبدأت هذه الشركة في العمل، زاد الإنتاج بشكل كبير. وللأسف، تزامن هذا التطور مع زيادة في انبعاثات الغاز السامة، التي يُعتقد أنها مرتبطة بالعديد من الأمراض التيتصيب المنطقة، بما في ذلك السرطان الذي قتل ابني".
"كل صباح في طريقي إلى الصلاة، أستطيع شمَّ الغازالقاتل وأرى سحباً كثيفة من الدخان الأسود في السماء. عائلتي وصحتي في خطر دائم. فقدتُ علياً وأخشى علىبقية أفراد عائلتي من ذات المصير".
وأكمل جلود "أنا أقترح بناء مستشفى متخصص لعلاج السرطان في الرميلة ونقل السكان إلى مناطق أكثر أماناً. كما يجب على الجميع الخضوع للفحص لضمان صحتهم. فمنذ عدة أيام، تم تشخصي جار لي، كبير بالعمر، بمرض السرطان. ونتيجةً لذلك، يجب اتخاذ إجراءات فورية. فنحن نحتاج إلى علاج المرضى وتعويض الأشخاص، سواء في الرميلة أو في المناطق الأخرى المنتجة للنفط، الذين فقدواأحبائهم أو الذين يعانون من السرطان بأنفسهم".
فريقالـ BBC.. متجاوزاً التلوث ودرجة الحرارة الحارقة
تحمل طاقم الـ BBC الحرارة الحارقة والمواد الكيميائيةالخطرة لتصوير الفيلم الوثائقي "تحت السماء المسمومة/ Under Poisoned Skies"، الذي أظهر ممارسة شركاتالنفط الأجنبية، لا سيما شركة BP البريطانية، حرق الغازالزائد بالقرب من المناطق السكنية.
ووفقاً للفيلم، تطلق عملية استخراج النفط العديد من الموادالمسرطنة، مما يرتبط بزيادة مثيرة للقلق في حالات الإصابة بسرطان اللوكيميا، لاسيما بين الشباب.
بعد تحقيق الـ BBC، تم اكتشاف تركيزات عالية خطيرة من البنزين، والمعروف بأنه مادة مسرطنة، في الهواء وتتجاوز الحدود المقبولة بكثير. ومن اللافت للنظر أن اختبارات البول للأطفال الذين يعيشون بالقرب من مواقع الحرق أظهرت أن 70% منهم لديهم مستويات عالية من النفثالين، وهو من المواد الكيميائية المسرطنة.
يشارك أوين بينيل، منتج فيلم "تحت السماء المسمومة"،نتائج الفيلم مع "The New Region"، قائلاً إن "الفيلم كشف دور شركات النفط الدولية بما في ذلك BP في حرق الغاز السام على بعد مئات الأمتار فقط من المناطق السكنية في العراق. صحافتنا تطرح أسئلة صعبة وتحمل كل من الشركات والحكومة العراقية المسؤولية عن الحرقالعشوائي للغاز، الذي له عواقب بيئية وصحية خطيرة."
وأوضح بينيل، أن "الشركات النفطية الدولية والحكومة العراقية لا تنشر بيانات عن مستويات المواد الكيميائيةالسامة المنبعثة من حرق الغاز. لذلك، أجرينا اختبارات ووجدنا أن هناك مستويات عالية من المواد الكيميائية المسرطنة في الهواء وفي عينات بول الأطفال الذين يعيشون بالقرب".
ويسلط فيلم الـ BBC الضوء على قضية بيئية حاسمة:حرق الغاز ليس فقط غير ضروري ومهدور، ولكنه أيضاً يمكن منعه بالاستثمار المناسب من كل من الشركات والحكومات.
وأكمل قائلاً "تم إبلاغنا عن أن عائلة علي بدأت قضية قانونية ضد BP بشأن حرق الغاز في العراق، وأنها تستخدم بعض الأدلة المقدمة في الفيلم كأساس لهذه القضية".
"كان من الصعب تصوير المجتمعات القريبة من مواقعالحرق، حيث تعرضنا بشدة للتلوث. وفي إحدى المناسبات،هبَّت الرياح جالبةً دخان الغاز المحترق باتجاهنا. جهاز مراقبة التلوث المحمول الخاص بنا أطلق تحذيراً من مستويات البنزين الخطرة، ولكن كان من الواضح منالرائحة في الهواء أن التنفس لم يعد آمناً. لحسن الحظبالنسبة لنا، تمكنا من مغادرة المنطقة، ولكن العائلات التيتعيش هناك مجبرةٌ على استنشاق هذا الهواء السام يوماً بعد يوم".
ويكمل بينيل القول بأن "رحلتنا الأولى لتصوير الفيلم إلىالبصرة كانت في أغسطس، عندما تجاوزت درجات الحرارة بانتظام 50 درجة. وكان من الصعب جداً عليَّ وعلى المخرجة جيس كيلي التصوير في ظل درجات الحرارة الشديدة هذه، حيث توقفت الكاميرات عن العمل بشك لمتكرر بسبب الحرارة المرتفعة. وهذا أظهر لنا التحديات التي يواجهها العراق ككل، كواحدة من أكثر الدول عرضةً للتأثر بالتغير المناخي في العالم".
مضيفاً، أنه "في جميع المناطق التي أجرينا فيها مراقبة التلوث، وجدنا تركيزات عالية من البنزين المسرطن، تصلإلى 9.7 ميكروغرام لكل متر مكعب. ومن الجدير بالذكر أن هذا هو متوسط لمدة أسبوعين، لذا في بعض الأيام قد تكو نمستويات البنزين أعلى بكثير".
أكد البروفيسور فرانك كيلي، الخبير العالمي في تلو ثالهواء، لفريق الـ BBC، أن منظمة الصحة العالمية تعتبر مستوى البنزين "الآمن" صفر، بينما النتائج التي تمالحصول عليها من العراق وُصفت بأنها "مقلقة" من حيث تأثيرها على صحة الناس.
آثار كيميائية موجودة في البول
يقول بينيل، إنه "بالنسبة لعينات البول، نظرنا في مادة كيميائية مسرطنة أخرى، وهي النفثالين. النتائج أظهرت أن70% من الأطفال الذين أخذنا عينات منهم لديهم مستويات عالية من النفثالين في البول، مما يشير إلى فرصة أكبر لحدوث تشوهات يمكن أن تؤدي إلى السرطان".
وأكمل قائلاً، "قصة علي أصبحت جزءاً مهماً من فيلمناحيث إن مذكراته المصورة أعطتنا نظرة حميمة على الحياة في الرميلة، وهي بلدة داخل حدود أكبر حقل نفطي في العراق والممنوعة من دخول الصحفيين إليها".
تواصلت "The New Region" مع وسن جزراوي، شريك في شركة Hausfeld & Co. LLP، محامو السيد جلود،الذين قالوا إن "تأثير حرق الغاز على البيئة وعلى صحة المجتمعات المحلية في العراق صادم. يجب أن تكون هذه الدعوى ضد BP بمثابة نداء استيقاظ: يجب على هذه الشركات الوفاء بالتزاماتها، تعويض من عانى، واتخاذخطوات جادة للحد من الأضرار المستمرة والمستقبليةالناتجة عن عملياتها".
تواصلت "The New Region" مع BP عبر البريدالإلكتروني الرسمي للحصول على رد، لكن الأسئلة بقيتدون إجابة حتى وقت النشر.
رغم ثروة العراق وموارده الوفيرة، يواجه نظامه الصحي تحديات كبيرة تتمثل بنقص الأدوية والرعاية الصحيةالأساسية في القطاع الصحي الحكومي، والتي دفعت العديد من العراقيين للبحث عن العلاج في الخارج. إن الوضع سيء بشكل خاص نظراً لمعدلات البطالة العاليةوالصعوبات الاقتصادية التي يواجهها الملايين من العراقيين.
المصدر: وكالة الإقتصاد نيوز
كلمات دلالية: كل الأخبار كل الأخبار آخر الأخـبـار
إقرأ أيضاً:
فاروق القاسم.. العقل العراقي وراء السياسات النفطية بالنرويج
فاروق القاسم خبير جيولوجي عراقي مختص في النفط ولد عام 1936، كان له دور محوري في تطوير إدارة النفط النرويجية منذ أواخر ستينيات القرن الـ20، كان ضمن أول بعثة طلابية عراقية إلى الخارج بهدف تكوين نخبة وطنية لإدارة شؤون النفط ضمن خطة واسعة لتأميم ذلك القطاع الذي كان تحت سيطرة الأجانب، خاصة البريطانيين.
ساهم القاسم منذ عام 1957 في وضع اللبنات الأولى لسياسة بلاده في تأميم القطاع، ولظروف عائلية اضطر عام 1968 إلى مغادرة العراق متوجها إلى النرويج التي كانت حينئذ تتلمس طريقها في التنقيب على النفط، وهناك ساهم في إدارة وتثمين الثروة النفطية بشكل جعل البلاد رائدة في هذا المجال.
تعددت التوصيفات التي خصته بها وسائل الإعلام الدولية، منها "أمير النفط" و"عراب النفط النرويجي"، و"منقذ النرويج بالنفط"، لكنه يميل إلى اعتبار نفسه "مهندس النموذج النرويجي" في مجال إدارة الثروة النفطية.
المولد والنشأةوُلد فاروق القاسم عام 1936 في مدينة البصرة جنوبي العراق، كان والده عبد العزيز معلما وأصبح لاحقا مدير مدرسة، وكان معيلا رئيسيا لعدد من أقاربه، والدته هي وفيقة ياسين.
الدراسة والتكوينأظهر القاسم نبوغا مبكرا، إذ تعلم مبادئ القراءة والحساب قبل بلوغه السن الرسمية للدراسة بفضل قربه الكبير من والده، واصل تعليمه الابتدائي في مدرسة عمومية بمدينة البصرة وتميز بتفوقه.
وعندما بلغ سن الـ11 غادر البصرة إلى العاصمة بغداد، والتحق بما كان تُعرف حينئذ بـ"كلية الملك فيصل"، وهي مدرسة ثانوية تعتمد منهجا دراسيا باللغة الإنجليزية، وتهدف إلى إعداد نخبة من الطلاب لمتابعة دراستهم الجامعية في الخارج.
لكن تلك التجربة استمرت 3 أشهر فقط بسبب اضطرابات سياسية أدت إلى إغلاق الكلية بعد أن هاجمها محسوبون على "التيار القومي" بذريعة أنها "تحتضن منتسبين إلى التيار الشيوعي"، فكان القاسم مجبرا على العودة إلى البصرة ومتابعة التكوين نفسه، لكن باللغة العربية.
بعد حصوله على الثانوية العامة عام 1953 اُبتعث القاسم إلى بريطانيا ضمن مجموعة تضم نحو 200 طالب -بتمويل من شركة نفط العراق- للدراسة في مجال النفط، وذلك في إطار خطة حكومية تهدف إلى تأميم القطاع الذي كان تحت سيطرة الأجانب، خاصة البريطانيين.
إعلاندرس القاسم جيولوجيا النفط في المدرسة الملكية للمناجم بكلية لندن الإمبراطورية، وفي بريطانيا تزوج فتاة نرويجية اسمها ميك سولفريد، وكانت تعمل في لندن مربية للأطفال، وعادت معه إلى العراق عام 1957 بعد أن أكمل دراسته الجامعية.
عاش القاسم وزوجته في البصرة وأنجبا 3 أطفال هم فريد ونادية ورائد الذي وُلد عام 1966 مصابا بشلل دماغي، وكان في حاجة إلى رعاية طبية خاصة لم تكن متاحة حينئذ في العراق، وهو ما دفع العائلة إلى السفر إلى النرويج عام 1968 والاستقرار هناك.
انتهت العلاقة بين القاسم وزوجته النرويجية بالطلاق، وبعدها تزوج بسيدة عراقية تُدعى أمل كنعان محمد.
التجربة المهنية في العراقبعد عودته من بريطانيا إلى مسقط رأسه في البصرة عام 1957 انضم القاسم إلى شركة نفط العراق التي كانت آنذاك تمر بمرحلة انتقالية نحو الاعتماد على الكوادر العراقية والتخلي التدريجي عن الكوادر الأجنبية، ولا سيما البريطانيين والأميركيين.
بدأ القاسم مشواره المهني بصفة جيولوجي مقيم، وفي فترة 10 سنوات تدرج وظيفيا في هياكل المؤسسة إلى أن أصبح الرقم "5" في هيكلة الشركة وأعلى مسؤول عراقي في الدرجة الوظيفية.
إلى النرويجفي عام 1968 اضطر القاسم وزوجته للسفر إلى النرويج والعيش هناك بعد أن تبين لهما أن ذلك البلد يوفر الرعاية الطبية التي يحتاجها ابنهما رائد الذي كان يحتاج إلى معالجة طبية تستمر 5 سنوات مع عملية جراحية.
في بداية الرحلة انتقلت الزوجة والأطفال إلى النرويج، ولاحقا غادر القاسم العراق متوجها إلى بريطانيا التي كانت فيها مقرات الشركات الغربية المسيطرة على معظم إنتاج النفط في بلاد الرافدين.
كان القاسم يخطط للعمل هناك والبقاء قريبا نسبيا من زوجته وأطفاله، لكن تعذر عليه الحصول على وظيفة تناسب خبراته ومؤهلاته، فقرر التوجه إلى النرويج في مايو/أيار 1968.
لم يكن القاسم على علم بما يجري في قطاع النفط في ذلك البلد الإسكندنافي، وكان مستعدا للعمل في محطة بنزين أو حتى سائق تاكسي لكي يعيل زوجته وأطفاله.
وبالصدفة زار مقر وزارة الصناعة في العاصمة أوسلو للاستفسار عن فرص العمل بمجال النفط، وذلك في وقت كانت النرويج في أولى مراحل التنقيب عنه في بحر الشمال.
عندما التقى القاسم بمسؤولي الوزارة تحول اللقاء من مجرد فرصة استكشافية إلى ما يشبه مقابلة توظيف بعد أن لفتت خبراته المهنية في مجال النفط وخلفيته الأكاديمية انتباههم، باعتباره نموذجا لما كانت البلاد بحاجة إليه في تلك المرحلة، وبناء على ذلك تقرر تعيينه مستشارا، واستمر في تلك المهمة 3 أشهر قبل أن يثبّت رسميا في منصبه.
كانت مهمة القاسم هي تحليل نتائج استكشاف النفط، والتي كانت تجريها شركات أجنبية في الشق النرويجي من بحر الشمال، وكان ذلك مقابل راتب أعلى بقليل من راتب رئيس الوزراء.
كان عدد المسؤولين في إدارة النفط النرويجية حينئذ 3 فقط، جميعهم في الثلاثينيات من العمر، وكانوا جميعا يتعلمون ميدانيا أثناء عملهم، وأصبح القاسم رابعهم، وكان متحمسا للنتائج الواعدة التي أظهرها تحليل البيانات الواردة من آبار استكشاف بحرية مختلفة.
إعلانفي عام 1969 حققت النرويج قفزة كبرى باكتشاف حقل "إيكوفيسك" الضخم، وكان للقاسم دور حاسم في ذلك، مما أهله للاضطلاع عام 1971 إلى جانب خبير نرويجي بصياغة تشريع عُرف فيما بعد بـ"الوصايا النفطية العشر" للبلاد، واعتمده البرلمان.
شكلت تلك الوصايا الأرضية الأساسية التي تدير النرويج بموجبها مواردها النفطية، وبموجب تلك الرؤية أنشئت مديرية البترول النرويجية، وهي الجهة المنظمة لصناعة النفط في البلاد، إضافة إلى شركة "ستات أويل" للنفط.
وفي عام 1972 عُيّن القاسم أول مدير لإدارة الموارد في مديرية البترول النرويجية.
لم يكتف بإدارة شؤون النفط، بل اقترح على سلطات البلاد إنشاء صندوق ثروة سيادي لإدارة إيرادات النفط بشكل سليم ومستقل عن الحكومة، وبشكل ينمّيها ويحفظ حقوق الأجيال المقبلة منها، وهو ما تحقق عام 1990 بإطلاق "صندوق التقاعد الحكومي العالمي" الذي يُعد من أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم.
بقي القاسم في منصبه حتى يناير/كانون الثاني 1991، ثم عمل مستشارا مستقلا، واستعانت به السلطات النرويجية دليلا للمجموعات الدولية التي تأتي إلى النرويج للتعرف على النموذج النفطي النرويجي، كما عمل مستشارا لدول أخرى منتجة للنفط.
العراق مجدداعاد القاسم إلى العراق مرة واحدة فقط في أواخر سبعينيات القرن الـ20 ضمن وفد نرويجي رسمي، وبعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين عام 2003 إثر الغزو الأميركي للعراق قدّم فاروق القاسم مشروع قانون لصناعة النفط في بغداد، مستلهما نجاح "النموذج النرويجي" الذي ساهم في بنائه، لكن الخلافات السياسية التي سادت آنذاك حالت دون اعتماد تلك المسودة.
تكريم ووساميصف ويلي أولسن المدير السابق لشركة النفط النرويجية "ستات أويل" المهندس القاسم بأنه "أعظم صانع للقيمة في تاريخ النرويج".
وفي 24 سبتمبر/أيلول 2012 منحه ملك النرويج وسام فارس من الدرجة الأولى مكافأة له على الخدمات التي قدمها للشعب النرويجي في مجال صناعة النفط.