موقع النيلين:
2025-08-01@11:30:18 GMT

مخطط حرب التجويع

تاريخ النشر: 9th, July 2024 GMT

عندما هزمت القيادات الإنجليزية التي استجلبها محمد علي باشا الخديوي، المارق على سلطة الباب العالي في اسطنبول العثمانية، لتقود جيوشه، إبان اضمحلال العثمانيين، فاستخدم المرتزقة الإنجليز من العسكريين، من أمثال غردون، وهكس، والنمساوي سلاطين وغيرهم، ليحكموا السودان بالوكالة، ويستذلوا أهله المسلمين، فبذروا الضغائن والشقاق والتردي الإداري في الحوكمة، وأورثوا السودان تركة التسلط العسكري، والحكم القهري.

فما نعيشه اليوم، ومنذ أبريل 2023م هو من استلهام شريعة فرض الحكم بالقوة القهرية.

ولما طال ظلام القهر بالسودانيين قيض الله لهم المهدية، التي أفلحت في حشد وتعبئة كافة أهل السودان، من الغرب، والشرق، والشمال، والوسط وحتى الجنوب، ممثلا في السلطان دينق ماجوك وغيره، من المجاهدين بإسم الحرية والوطن والعقيدة، فانتفضوا ضد الذل والاستعمار، والاستعباد الأجنبي المتعدد الأضلاع.

فلما قتل غردون عندما افتتح المجاهدون الخرطوم، واستمر في عناده بعدم الاستسلام للأمر الواقع، وهو مستعصم بالقصر الذي ظل يستذل فيه شعب السودان عدة سنوات، جاءه قدره المحتوم في 26 يناير 1885م، فدالت البلاد لحكم المهدية، والثورة الشعبية، فاتصلت السيادة الوطنية، المستلبة بالقهر والغزو الأجنبي، بما كان عليه الأمر منذ نشوء السلطنة الزرقاء عام 1504م، والتي تعززت على مدى ثلاثة قرون وتزيد، بإرادة السودانيين التوافقية، فأضفت على الدولة السودانية شخصيتها الحديثة، وأنتجت الإنسجام الوطني للهوية، التي اعتصمت منذئذ بمبدأ التحرر الذي زكته الروح الثورية، المتشربة بمدد وزخم العقيدة الإسلامية.

ولكن عندما وجدت انجلترا الاستعمارية أنها هزمت وكسرت جيوشا عرمرم، كانوا هم قادتها، وما سببه ذلك لهم من إحراج سياسي لسمعة الإمبراطورية، التي كان يشيعون على عالم ذلك الزمن، أنها لا تهزم، ولا تغيب عن أراضيها الشمس، بل ظلت على الدوام تهزم وتدهده الامبراطوريات العظمى؛ كما حدث مع الهند، والصين، وهولندا وإقصائها من سواحل الأطلسي وحتى رأس الرجاء الصالح وماليزيا.

ففكرت الإمبراطورية بدهائها العسكري الماكر، وصبرها الاستراتيجي في استرداد هيبتها والانتقام لسمعتها. وهذه المرة بتغيير التكتيك، فلجأت لسلاح التجويع. فتم تسخير العملاء، في الداخل والخارج وفي الجوار المحيط، وجر الخصم للإحتراب الداخلي، وشد أطرافه، بما في ذلك التعامل مع الطليان ليحتلوا كسلا. ثم إلهاء الدولة الحديثة، وقادتها قليلي الخبرة الإدارية، والدربة التنظيمية، بالمنازعات القبلية والمشاكسات الجهوية. وحيث لم تنتبه قيادة المهدية الخالفة لما يحاك بها، مضت تستنفر الجميع بحماس الانتصار الدافق، والانتصارات الميدانية الخاطفة، حتى أن المزارعين تركوا مزارعهم، والرعاة قطعانهم، فانخرطوا رجالا ونساءا وأطفالا في سلك الحرب، وتحت شعار: “أقبلوا على الله عرجى ومكاسير” .. وعلى نحو ما ذكره، العلامة بابكر بدري في سفره التاريخي الشهير : “أيام في حياتي”.. فما هي إلا سنوات معدودة، حتى حلت مجاعة سنة ستة، التي أخذت مسماها من تزامنها مع للعام الهجري 1306والموافق للعام 1889م، فضرب الجوع كافة أنحاء القطر، وتفاقمت ارقام ضحاياه، وقدره نعوم شقير، صاحب كتاب “تاريخ السودان” ونائب مدير استخبارات الجيش الانجليزي، بستة ملايين نفس.

وبنجاح ذلك المخطط الماكر، كان أمام الانجليز 9 سنوات فقط، ليجهزوا على دولة المهدية في كرري في 1898م والتي كانت جيوشها تعاني من نقص في المؤن، وليس من قلة العنصر المجند ولا القادة الأشاوس. فتحقق لكتشنر وكرومر ما خططا له، وتمت إبادة المهدية في كرري بمدفع المكسيم، الذي جرب فيهم لأول مرة، بينا كان غالب سلاحهم الحراب والسيوف، فاستشهد الخليفة عبدالله وكل القيادة السياسية معه في أم دبيكرات، وبانتقام حاقد من الضابط الانجليزي ريجنالد وينجيت، الذي لم يحترم قانون الحرب، ولا شرف الجندية، فذبحهم بدم بارد، وهم جالسون على الأرض، يفترشون فروات الصلاة، كعادة أهل السودان وفوارسها في الحروب التي يخسرونها ميدانيا، فلا يهربون من المعركة إذا انكسرت جيوشهم، بل يلاقون الموت بصدور مفتوحة؛ وكان من مأثور أخلاقهم في فقه الحرب، حرمة الفارس الذي يجلس على الأرض، وعدم قتله، لإنعدام الكفاءة، ولا يعد قتله في ذلك الوضع من الرجولة، وذلك بإمتثال قوله تعالى:

” فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا” الآية 90- سورة النساء..

ولكن هذا خلق، وتلكم قيم، لا يرتقي إليها وينجيت، ولا من يقتل بإسمهم وتحت راياتهم. فهذا درس معلم في تاريخنا، يتعين أن يستوعبه السودانيون وقادتهم في استراتيجية النصر والهزيمة، وفي مبادئ أسس التعامل مع الخصوم، فهو من شيم الحق وكريم المعتقد.

ومن تلقاء ما نحن بصدده تلكم المؤتمرات اللاهية، التي تنعقد في عواصم الشتات، بدعاوى إجماع أهل السودان، دون شورى ولا تفويض منهم، ولا أخذ رأيهم الغالب. فتلك ملهاة عابثة، قصد بها إفشال الموسم الزراعي الذي يستعد فيه السودانيون في مناطق الزراعة الآلية لإنتاج قوتهم وغذائهم. وهي تكرار لاستراتيجية كرومر، القصد منها تجويع السودانيين، بعد احتلال منازلهم، ليخرجوا من البلاد جملة، ثم تفرض الحلول الخارجية عليهم، لأن البطون الخاوية لا تقاتل.
ومن هذا تسليط المرتزقة على مناطق الإنتاج، في الجزيرة وسنار والدالي والمزموم والقضارف.

ولذا فقد وجب الحذر.. ففي الحرب جاء التوجيه الإلهي للمسلمين: ” يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا” الآية 71- النساء.

ومن تلقاء ذلكم فعلى الدولة، نفض غشاوات الأوهام والتقاعس المتردد، الذي صاحب سياساتها السالفة. إذ يتعين على كافة الولايات وحكامها الانتباه لهذه المهزلة الخادعة، والإلهاء الماكر لما يحاك ببلادهم وحولهم لإستئصالهم.

ولذا فيتعين وجوبا، وبصورة فورية، تشكيل فرق حماية مسلحة، سريعة الحركة والانتشار، تضم قوة ضاربة من الجيش، وبإسناد من المقاومين والمستنفرين والمزارعين، لإنجاز هذه المهمة الوطنية الاستراتيجية، التي لا تقل عن مهام وشرف وواجب ساحات القتال، بل بفشلها ستخسر البلاد كل الحرب.

ففضلا عن توفير الغذاء، فإن تأمين الموسم الزراعي سيوفر فرص العمل الشريف لكل النازحين، ليسهموا في الإنتاج المحلي الإجمالي، وحماية الوطن وتأمين سيادته بشعار:
“بالإنتاج لن نحتاج..
” ومن لا يملك قوته لا يملك قراره..”

فعلى مجلس السيادة أن يأخذ هذا الأمر بالحسم المستحق، كواجب سيادي، ويهتم به كأولوية قصوى، لحساسية الوقت، ومحدودية المدى الزمني، وبتوفير كافة المدخلات.

وعلى الفريق أول البرهان ألا يترك هذا الواجب للآخرين، دون متابعته الشخصية واليومية، حتى لا تتكرر أخطاء مجاعة سنة ستة تحت بصره. وهذا من أقدس موجباته، وسيحاسبه ومن معه التاريخ والشعب السوداني، وكل الأجيال القادمة والتي في أرحامها، على أي تردد أو تقاعس – لا سمح الله – ولذا فيتعين عمل ما ينبغي، وعمل ما لا بد مما ليس منه بد.

ما حدث في القاهرة وغيرها، وما سيحدث بعدها، يندرج في سلاسل المسرحيات المكرورة، سيئة الإخراج، وقميئة المونتاج، التي سبقته، والتي يقصد بها إضفاء مسوح زائف، لمكياج بايخ، قصد به خداع الرأي العام محليا وعالميا، لتزييف الحقائق، وصرف الأنظار عن إدانة وتجريم من يقف وراء النهب والقتل والاغتصاب. ثم لا يشعر من خلع شرف الوطنية، وباع العرض، بأي خجل، ولا يتوارى حياء، وبأنه يقف في الجانب الخطأ من الشرف، والتاريخ، وضد التيار الهام والرأي العام.

الشعب السوداني قرر تحرير نفسه بنفسه، وحمل السلاح للدفاع عن شرفه لئلا ينتهك ويمرغ، بل عاهد نفسه أن يسقط شهيدا، إذا ما لزم الأمر، دون سقوط شرفه؛ ولن يرهن أهل السودان مصيرهم لكائن من كان، ولن يمضى أي أمر عليهم، إلا برضاهم ومشورتهم واستشارتهم؛ فهم لم يفوضوا أحدا، لينصب نفسه زورا وتدليسا ناطقا بإسمهم. ولن يلتفت الشعب السوداني لأية دعاوى للتخذيل، من أبواق التجمعات الماكرة والملغومة، والطوائف المأجورة، والمتماهية بالتآمر الخارجي، وبالمال المنهوب، والغصب الحرام، فيطلب من أهله الركوع لأجندة الوافدين الغرباء، والاستذلال لأجندتهم، والجثو المهين بين أيديهم، بينا هم مشردون في الملاجئ، ومنبوذون في الصحارى والأحراش، وممتلكاتهم منهوبة، ومساكنهم محتلة بالمرتزقة، وشذاذ الآفاق والشتات.

فمن يريد السلم يجنح لمستحقاته، ومن أبسط مستحقاته، كف يد المجرم الصائل وإلقاء سلاحه.
فمن يمكر يمكر الله به..
ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
“يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون” الآية 9 سورة البقرة..

دكتور حسن عيسى الطالب

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: أهل السودان

إقرأ أيضاً:

إزالة “741” مقذوفا من مخلفات الحرب بولاية في وسط السودان

سنار- متابعات تاق برس- أعلنت منظمة الوحدات الوطنية لمكافحة الألغام والتنمية (NUMAD) عن إزالة وتدمير 741 جسمًا خطيرًا من الذخائر غير المنفجرة ومخلفات الحرب في محليات سنجة، السوكي، والدندر بولاية سنار. وهدفت هذه الجهود إلى حماية المواطنين من الأخطار المترتبة والناجمة عن مخلفات الحرب.

 

وأوضح المهندس ماهر رمضان إبراهيم المدير العام للمنظمة في تصريح لـ (سونا) اليوم الخميس بأن المشروع تم تنفيذه بواسطة فريق NTS+1 التابع للمنظمة، والذي يعمل في ولاية سنار منذ فبراير 2025.

 

وأشار إلى أن جهود المنظمة قد تركزت على ثلاثة محاور رئيسية في التوعية، الإزالة ، والتدمير.

 

وأضاف رمضان انه في الجانب التوعوي بمخاطر مخلفات الحرب نفذت المنظمة برنامج توعوي غطى 3975 مواطنًا بمخاطر الألغام والذخائر غير المنفجرة في المحليات المذكورة.

 

وفي تحذير مهم للمواطنين، دعت منظمة NUMAD أي شخص يعثر على جسم خطير من الذخائر أو مخلفات الحرب إلى عدم الاقتراب منه أو لمسه مطلقًا. وشددت على ضرورة الإبلاغ الفوري عبر الرقم المجاني 60666 .

 

وأفاد المهندس رمضان بأن ولاية سنار لا تزال ملوثة بمخلفات الحرب في عدد من المناطق، منها جبل مويا، ومصنع سكر سنار، والدالي والمزموم، بالإضافة إلى سنجة، السوكي، والدندر. وأكد على حاجة هذه المناطق الماسة لتدخل فرق التوعية والإزالة لضمان سلامة السكان.

 

وأشار المدير العام إلى أن المنظمة لديها فريق يعمل بأجهزة حساسة ودقيقة لاكتشاف الأجسام الخطرة فوق وتحت سطح الأرض. ويتم نقل المخلفات الحربية التي يتم العثور عليها بطريقة آمنة إلى منطقة مخصصة للتدمير في جبل قريريصة جنوب محلية سنجة، مع الالتزام بارتداء الملابس الواقية لضمان سلامة الفريق.

سنارمكافحة مخلفات الحرب

مقالات مشابهة

  • إزالة “741” مقذوفا من مخلفات الحرب بولاية في وسط السودان
  • خبير أمني: الحملات التي تستهدف تشويه مصر في ملف غزة مخطط متكامل
  • حين يصبح الغذاء سلاح إبادة..مأساة ضحايا التجويع تكشف خيانة العالم لغزة
  • خطوات تنظيم أمريكية للتعامل مع قضية الحرب في السودان
  • هل الخيار المتطرف الذي تبحثه إسرائيل في غزة قابل للتنفيذ؟
  • الرفض الاقليمي والدولي لإعلان جنرالات الحرب
  • كيف يفكر الوحش الذي يستخدم التجويع لإخضاع الشعوب؟
  • بعد زلزال روسيا والتسونامي الذي ضرب عدداً من البلدان... هذا ما كشفه خبير جيولوجي عن لبنان
  • الخارجية الفلسطينية: إسرائيل تستخدم التجويع كأداة للضغط بهدف التهجير القسري
  • الشرطة الفرنسية تُحقّق في مزاعم محامي نتنياهو بشأن مخطط من حزب الله لاستهدافه