كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي التوليدي طريقة كتابة الأوراق العلمية؟
تاريخ النشر: 19th, July 2024 GMT
على مدى السنوات العشر الماضية، ظهرت مجموعة واسعة من الكلمات والعبارات من الغموض إلى الاستخدام الشائع في العلوم، وهي كلمات تعكس التغييرات التي يشهدها البحث العلمي والأحداث الأوسع داخل العلم والمجتمع.
تظهر هذه التغييرات التي يحدثها الذكاء الاصطناعي في الأوراق والمراجعات والمقالات التي ينتجها العلماء باستمرار، وهذا يثير سؤالاً مثيرا للاهتمام حول تأثير الذكاء الاصطناعي على العلوم.
منذ إصدار "شات جي بي تي" رسميا يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أثر على العديد من جوانب حياتنا، ولم تكن الكتابة الأكاديمية والبحوث العلمية محصنة.
وتمكن العلماء منذ ذلك الحين من استخدام نماذج اللغة الكبيرة "إل إل إم إس" (LLMs) -وهي أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على فهم وتوليد لغة بشرية من خلال معالجة كميات هائلة من البيانات النصية- لمراجعة جميع الأوراق العلمية التي ينتجونها وتحريرها وكتابتها أحيانًا من الصفر، ولكن مدى الاستخدام الفعلي لهذا النوع من الذكاء الاصطناعي لا يزال غير معروف.
في الواقع، استكشف عدد كبير من الأبحاث بالفعل مزايا وعيوب نماذج اللغات الكبيرة، وحاول العديد من الباحثين رسم خريطة لتطور العلوم من خلال التغييرات في اللغة التي ينتجونها.
آخر هذه المحاولات قام بها عالم الأبحاث ديمتري كوباك وزملاؤه في معهد هيرتي للذكاء الاصطناعي في مجال صحة الدماغ في توبنغن بألمانيا.
وجد كوباك وزملاؤه طريقة لقياس تأثير أنظمة الذكاء الاصطناعي على الأدبيات العلمية أو العلوم المبسطة منذ عام 2022، وقارنوها بتأثير الأحداث الرئيسية الأخرى في العلوم.
بدأ كوباك وزملاؤه بتنزيل الخلاصات من أكثر من 14 مليون ورقة بحثية منشورة على قاعدة بيانات الطب الحيوي "بابميد" (PubMed) منذ عام 2010، ثم أزالوا بعد ذلك الكلمات والعبارات الشائعة التي لا علاقة لها بكتابة المؤلفين من قاعدة البيانات، مثل "حقوق الطبع والنشر" أو "كيفية الاستشهاد بهذه المقالة".
بعد ذلك، حسبوا عدد المرات التي ظهرت فيها كل كلمة أطول من ثلاثة أحرف كل عام. وأخيرًا، نظروا إلى الكلمات الـ800 الأكثر شعبية، وكيف يتغير تواترها كل عام؟ وكيف تؤثر ليس على الطريقة التي يكتب بها العلماء فحسب، بل على الطريقة التي يتم بها إجراء العلوم؟
تغييرات مفاجئةكشفت النتائج على الفور عن بعض الاتجاهات الواضحة في العلوم. على سبيل المثال، بلغ تكرار كلمة "إيبولا" (مرض يصيب الإنسان بسبب عدوى فيروسية) ذروته في عام 2015، وكلمة "زيكا" (عدوى فيروسية تنتقل عن طريق البعوض) في عام 2017.
حدث أحد أكبر التغييرات في عام 2020 مع زيادة هائلة في استخدام كلمات مثل الإغلاق والوباء والجهاز التنفسي و"ريمديسيفير" (دواء جديد مضاد للفيروسات) أثناء تفشي جائحة كورونا، وهو حدث معروف على نطاق واسع أنه كان له أحد أكبر التأثيرات على النشر العلمي والمنشآت والمؤسسات البحثية في التاريخ.
وللمفاجأة، حدث تغيير أكبر في عام 2024 مع زيادة في كلمات مثل "حاسم ومهم ومحتمل". ومن الغريب أن هذه الكلمات ليست مرتبطة بالمحتوى العلمي للورقة البحثية، بل بأسلوب الكتابة.
في الواقع، يشير الباحثون إلى أن هذه هي بالضبط نوعية الكلمات التي تفضلها نماذج اللغة الكبيرة المدرَّبة مسبقًا على كميات هائلة من البيانات، والتي يقولون إنها "تغير الخطاب العلمي على نطاق غير مسبوق".
ويقول كوباك وزملاؤه إن الزيادة غير المسبوقة في الكلمات النمطية الزائدة في عام 2024 تسمح باستخدامها دلالة على استخدام "شات جي بي تي"، ويشيرون إلى أن وتيرة تكرار مئات الكلمات زادت بشكل مفاجئ بعد أن أصبح "شات جي بي تي" متاحًا ومستخدمًا على نطاق واسع جدًا حيث وصل إلى 100 مليون مستخدم نشط غير مسبوق بعد 3 أشهر من إصداره، ويعتبر أحد المعالم الرئيسية لنماذج اللغة إلى جانب "جي بي تي-4".
أوراق بحثية بالذكاء الاصطناعيوضع كوباك وزملاؤه حدًا أدنى لعدد الأوراق البحثية التي تأثرت بنماذج اللغة الكبيرة. تشير البيانات إلى أن ما لا يقل عن 10% من الأوراق البحثية المنشورة على موقع "بابميد" الطبي للأبحاث في عام 2024 قد تأثرت بهذه الطريقة.
وخلص الباحثون إلى أنه "مع فهرسة 1.5 مليون ورقة بحثية حاليًا في موقع بابميد سنويًا، فإن هذا يعني أن نماذج اللغة الكبيرة تساعد في كتابة ما لا يقل عن 150 ألف ورقة بحثية سنويًا".
لاحظ الفريق أن مساعدة الذكاء الاصطناعي كانت أكثر شيوعًا في الأبحاث المقدمة من البلدان التي لم تكن اللغة الإنجليزية هي لغتها الأولى، والتي غالبًا ما تتم معاقبة باحثيها لأن أوراقهم تبدو أقل احترافية من أقرانهم الذين يكتبون بالإنجليزية.
قد يشير ذلك إلى أن غير المتحدثين بالإنجليزية يستخدمون أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي لتحقيق تكافؤ الفرص في الكتابة العلمية، أو أن المتحدثين باللغة الإنجليزية يستخدمونها بالقدر نفسه لكنهم أكثر مهارة في إزالة تأثيرها من أوراقهم البحثية قبل النشر، وفي كلتا الحالتين، يبدو أن استخدام نماذج اللغة الكبيرة منتشر على نطاق واسع.
وإذا كان النشر العلمي يؤخذ مثالا على تأثير الذكاء الاصطناعي، فمن المحتمل أن تواجه مجالات النشر الأخرى القائمة على العلوم الاجتماعية والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات تحديات أيضًا، ويكون لها نتائج مماثلة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الذکاء الاصطناعی على نطاق جی بی تی فی عام إلى أن
إقرأ أيضاً:
هل يهدد الذكاء الاصطناعي التعليم والجامعات ؟
وقع نظري مؤخرًا على مقال نشره كاتب أمريكي يُدعى «رونالد بروسر»، وهو أستاذ إدارة الأعمال بجامعة «سان فرانسيسكو».
نُشر المقال في مجلة «Current Affairs»، وهي مجلة سياسية ثقافية تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في 1 ديسمبر 2025.
تحدّث الكاتبُ في هذا المقال عن أزمة التعليم في ظل وجود الذكاء الاصطناعي، ويرى أن الجامعات الأمريكية عقدت الكثير من الشراكات مع شركات الذكاء الاصطناعي مثل شركة OpenAI، وأن هذا التوجّه يمثّل تهديدًا للتعليم ومستقبله، ويسهم في تفريغه من مضمونه الرئيس؛ بحيث يتحوّل التعليم إلى ما يشبه مسرحية شكلية فارغة من التفكير وصناعة الفكر والمعرفة الحقيقية.
يرى «بروسر» أن هناك تحوّلا يدفع الطلبة إلى استعمال الذكاء الاصطناعي بشكل مكثّف وغير منضبط في إنجاز الواجبات والأعمال المنوطة إليهم، وكذلك يدفع كثيرا من الأساتذة إلى الاعتماد المفرط عليه في إعداد المحاضرات وعمليات التقويم والتصحيح، وتدفع الجامعات ـ كما يذكر «بروسر» ـ ملايين الدولارات في إطار هذه الشراكات مع شركات الذكاء الاصطناعي مثل OpenAI؛ لتوفير النُّسخ التوليدية التعليمية وتسخيرها للطلبة والأكاديميين.
بناء على ذلك، تذهب هذه الملايين إلى هذه النظم التوليدية الذكية وشركاتها التقنية، في حين استقطعت الأموال من موازنات الجامعات؛ فأدى إلى إغلاق برامج أكاديمية في تخصصات مثل الفلسفة والاقتصاد والفيزياء والعلوم السياسية، وكذلك إلى الاستغناء عن عدد من أعضاء هيئة التدريس.
يكشف الكاتبُ في نهاية المطاف أن الجامعات بدأت تتحول من الاستثمار في التعليم ذاته إلى تسليم النظام التعليمي ومنهجيته وعملية التعلّم إلى منصات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يقلّص الاعتماد على الكوادر البشرية وعلى المنهجيات النقدية والتفكيرية.
كذلك يُظهر الكاتبُ الوجهَ المظلم للذكاء الاصطناعي والاستغلال الذي قامت به شركات الذكاء الاصطناعي بالتعاون مع بعض الجامعات ومؤسسات البحث العلمي، ويرتبط هذا الوجه المظلم بعملية فلترة المحتوى الذي يُضخّ في نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية؛ حيث تُكلَّف فئات من البشر ـ في الغالب من الدول الأفريقية الفقيرة ـ بمراجعة هذا المحتوى وتصنيفه وحذف غير الملائم منه، مقابل أجور زهيدة جدا، وذلك بغية صناعة واجهة «آمنة» لهذه النماذج، وتقتضي هذه العملية في الوقت نفسه استهلاك كميات هائلة من الطاقة والمياه لتشغيل مراكز البيانات التي تقوم عليها هذه الأنظمة.
كما يكشف وجها آخر للاستغلال الرقمي، ضحاياه الطلبة في بعض الجامعات الأمريكية ـ خصوصا المنتمين إلى الطبقات العاملة ـ عبر استغلالهم لصالح مختبرات شركات وادي السيليكون؛ إذ تُبرَم صفقات بملايين الدولارات بين هذه الشركات وبعض الجامعات، دون استشارة الطلبة أو أساتذتهم، في حين لا يحصل الطلبة إلا على الفتات، ويُعامَلون كأنهم فئران تجارب ضمن منظومة رأسمالية غير عادلة.
أتفقُ مع كثير من النقاط التي جاء بها «رونالد بروسر» في مقاله الذي استعرضنا بعض حيثياته، وأرى أننا نعيش فعلا أزمة حقيقية تُهدِّد التعليم والجامعات، ونحتاج لفهم هذه الأزمة إلى معادلة بسيطة معنية بهذه التحديات مفادها أننا الآن في مرحلة المقاومة، والتي يمكن اعتبارها مرحلة شديدة الأهمية، لأنها ستُفضي في النهاية إما إلى انتصار التقنية أو انتصار الإنسان.
مع ذلك، لا أعتقد أن هذه المعركة تحتاج إلى كل هذا القدر من التهويل أو الشحن العاطفي، ولا أن نُسبغ عليها طابعا دراميًا مبالغًا فيه.
كل ما نحتاجه هو أن نفهم طبيعة العلاقة بيننا وبين التقنية، وألا نسمح لهذه العلاقة أن تتحول إلى معركة سنخسرها بكل تأكيد، نظرا إلى عدة عوامل، من بينها أننا نفقد قدرتنا على التكيّف الواعي مع المنتجات التقنية، ولا نحسن توظيفها لصالحنا العلمي والتعليمي؛ فنحوّلها ـ عن قصد أو بدون قصد ـ إلى خصم ضار غير نافع.
نعود بالزمن قليلا إلى الوراء ـ تحديدا تسعينيات القرن العشرين ـ
لنتذكّر المواجهة التي حدثت بين المنظومة التعليمية ـ من جامعات وأساتذة وباحثين ومهتمّين بالمعرفة ـ وبين موجة التهديدات الجديدة التي تزّعمها الإنترنت ومحركاته البحثية، وكان أحد أبرز هذه التهديدات ظهور ما يمكن تسميته بثقافة البحث السريع؛ حيث ابتعد الطالب والباحث عن الطرق التقليدية في البحث مثل استعمال الكتب والقراءة المطوّلة والعميقة، ولجأ إلى الإنترنت والبحث عن المعلومات في غضون ساعات قليلة، والاكتفاء بتلخيص الدراسات والكتب.
ولّد هذا التحوّل مشكلات أخرى، من بينها تفشّي ظاهرة الانتحال العلمي والسرقات الفكرية، ولكن، لم تستمر هذه المشكلة لفترة طويلة؛ فحُلّت تدريجيا بعد سنوات، وتحديدا مع ظهور أدوات قادرة على كشف حالات الانتحال والسرقة العلمية، وظهور أنظمة تأقلمية ومعايير وقوانين تعليمية وأكاديمية عملت على إعادة تموضع الإنترنت داخل المنظومة التعليمية، وهكذا خرج النظام التعليمي والجامعات من تلك المواجهة رابحًا في بعض أجزائه وخاسرًا في أجزاء أخرى.
لا أتصور أن مشكلتنا الحالية مع الذكاء الاصطناعي تشبه تماما المشكلة السابقة التي أحدثها ظهور الإنترنت ومحركات البحث؛ فكانت التحديات السابقة -نسبيا- أسهل، وكان من الممكن التعامل معها واحتواؤها في غضون سنوات قصيرة. أما المشكلة الراهنة مع الذكاء الاصطناعي، فتكمن في سرعته التطورية الهائلة التي لا نستطيع حتى أن نتحقق من مداها أو نتنبّأ بوتيرة قدراتها الإبداعية؛ فنجد، مثلا ، أنه في غضون سنتين أو ثلاث فقط انتقل الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل«ChatGPT» من مرحلته البدائية إلى مرحلته المتقدمة الحالية، تجاوز فيها في بعض الزوايا قدرات الإنسان العادي في المهارات اللغوية، وأصبح يشكّل تحديًا حقيقيًا كما أشرنا في مقالات سابقة.
فيما يتعلّق بالتعليم والجامعات، وكما أشار الكاتب في المقال الذي استعرضناه؛ فنحن أمام مشكلة حقيقية تحتاج إلى فهم عميق وإعادة ترتيب لأولوياتنا التعليمية.
نقترح أولا ألا نتجاوز الحد المسموح والمقبول في استعمال الذكاء الاصطناعي في التعليم؛ فيجب أن تكون هناك حالة توازن واعية في التعامل مع أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية في الجامعات، وكذلك المدارس.
وبصفتي أكاديميًا، أرى من الضروري أن نقنن استعمال الذكاء الاصطناعي داخل الجامعات عبر وضع معايير وقوانين واضحة، والسعي في الوقت ذاته إلى تطوير أدوات قادرة على كشف حالات الانتحال والسرقات العلمية المرتبطة باستعمال هذه التقنيات والنماذج الذكية، رغم صعوبة ذلك في المرحلة الحالية، ولكن من المرجّح أن يصبح الأمر أكثر يسرا في المستقبل القريب.
رغم ذلك، فلا يعني أنه ينبغي أن نمنع استعمال الذكاء الاصطناعي منعًا تامًا؛ فجلّ ما نحتاجه أن نُشرف عليه ونوجّهه ضمن حدود معيّنة؛ لتكون في حدود تعين على صناعة الإبداع البشري؛ فيمكننا أن نوجّه الذكاءَ الاصطناعي في تنمية مهارات الحوار والتفكير والتحليل لدى الطلبة إذا استُعملَ بطريقة تربوية صحيحة.
ولكن في المقابل يجب أن تُشدَّد القوانين والعقوبات المتصلة بحالات الانتحال والاعتماد الكلّي على النماذج التوليدية سواء في مخرجات العملية التعليمية أو في البحوث العلمية.
كذلك من الضروري أن نُعيد التوازن إلى دور أعضاء هيئة التدريس في الجامعات؛ فمن غير المعقول أن نترك صناعة المحتوى التعليمي مرهونة بالكامل للذكاء الاصطناعي، في حين يتراجع دور الأكاديمي وإبداعه الذي يمارس التفكير والنقد والإضافة المعرفية من عنده.
على صعيد آخر، أظهرت دراسات حديثة التأثير السلبي للاستعمال المفرط للذكاء الاصطناعي والاعتماد عليه على الدماغ البشري بشكل فسيولوجي مباشر؛ فيمكن أن يدخله في حالة من الضمور الوظيفي مع الزمن، خصوصا حال تخلّى الإنسان عن ممارسة التفكير لصالح الخوارزمية.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني