الجزيرة:
2025-07-29@02:20:49 GMT

المأساة السودانية.. والنزوح إلى المدن المستحيلة

تاريخ النشر: 21st, July 2024 GMT

المأساة السودانية.. والنزوح إلى المدن المستحيلة

مثل العديد من السودانيين فقد رأيت الحرب كفاحًا، كان أولها كلامًا وشرارة تشظّت – بصورة سينمائية – لدرجة أنني بقيت محاصرًا داخل جزيرة توتي وسط الخرطوم، لعدة أشهر، دون ماء وكهرباء أو طعام كافٍ.

لم تكن تلك هي المشكلة الوحيدة، كان الرصاص يخترق النوافذ التي ظلت مغلقة على الدوام، ولذلك لم يكن ثمة مجال للنجاة من الموت سوى النزوح، وقطع مسافات ماراثونية؛ لأجل الوصول إلى أي مكانٍ آمن، وتقديم طلبات اللجوء.

العُقدة العصية

هذه سيرة مختصرة للحرب، ليس لي وحدي، ولكن لملايين النازحين، فعندما نشب القتال منتصف أبريل/ نيسان 2023، لم يكن أغلب السودانيين يتخيلون أنهم سوف يتم تهجيرهم من بيوتهم بالإكراه ليستوطنها الأغراب، وتتحول إلى ثُكنات عسكرية، لدرجة أن الخروج من الأعيان المدنية وبيوت المواطنين أصبحَ هو العقدة العصية أمام مفاوضات جدة.

أرقام المنظمة الدوليّة للهجرة تبدو مُفزعة، فهي تتحدّث عن أن 20% من سكّان السودان أصبحوا نازحين ولاجئين، وقد سجلت فرار أكثر من 10 ملايين شخص من منازلهم، منهم مليونان فروا خارج الحدود، وتطالب بتوفير 3 مليارات دولار أميركي؛ لمجابهة الاحتياجات الإنسانية الطارئة، وهي أرقام غير دقيقة، مقارنة بالواقع المُتغير؛ لأن القتال الآن يدور في أكثر من عشر ولايات، كلها مناطق أزمات، وبقية الولايات أصبحت محطات للعبور.

فبخلاف غلاء الإيجارات وأسعار المواد الغذائيّة التي لا تُطاق، ثمة مخاطر غير محسوبة، والأخطر من ذلك ما يحدث للاجئين السودانيين في غابة أولالا بإقليم أمهرة الإثيوبي، إذ يتعرّضون يوميًا إلى القتل والخطف بواسطة عصابات الشفتة، دون أي تحرّكات لحمايتهم.

في الوقت عينه فشلت الحكومة والمنظمات الدولية عمليًا في التخطيط لاستيعاب موجات النازحين بالداخل، ولم توفر لهم المأوى والمياه الصالحة للشرب، أو ما يقيم أودهم، وتركتهم عُرضة للجشع وتجّار الأزمات، أو ربما ليلحقوا بطوابير اللجوء الخارجي، وهذا أشبه بالتواطؤ الرسمي الذي يصعب تفسيره.

الطريق إلى المُدن المُستحيلة

أصبحت الهجرة إلى أوروبا أو دول الخليج حلم الجميع، وهي بالضرورة تتطلب التضحية بكل شيء، ومجاراة سماسرة السفارات والمضاربين في كل شيء، فذلك هو الطريق الوحيد للمُدن المُستحيلة.

أما السفر إلى مصر وليبيا بالتهريب، وركوب المخاطر، فهو الخيار الوحيد المتاح لبقية الأسر التي تعيش على الكفاف، ولذلك فقد تصدّر السودان قائمة الدول الأعلى تسجيلًا في مفوضية اللاجئين بمصر، هذا إضافة إلى قوائم المهاجرين بالنية، ممن ينتظرون الإشارة بالرحيل، أو من تقطعت بهم السُبل.

وقد سجلت السلطات السودانية في المعابر ومطار بورتسودان مغادرة أكثر من 13 ألف مواطن البلادَ خلال أسبوعين فقط، وهذا يعني أن السودان، في حال لم تتوقف الحرب، سوف يصبح دولة خالية من سكانها، ليس من أجل الرفاهية، ولكن تحت وطأة حرب تستهدف الإنسان في المقام الأول، وحتى من بقي في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع فقد أثقلت كاهله بالجبايات، ولذلك يتحدث العالم عن السودان كنموذج لأكبر أزمة نزوح، دون أن يقدم المساعدات الكافية والمطلوبة للحدّ من هذه الكارثة، وأهمّها التدخل بفاعلية لوقف الحرب.

صناعة المجاعة

إذا كان السودان دولة زراعية، فهنالك ما يهدد ذلك النشاط، ويعمل على احتلال مناطق إنتاج الغذاء، وترويع الفلاحين، وغلق قنوات الري ونهب التقاوي الزراعية، وهذا ما جعل وزارة الخارجية السودانية تتهم الدعم السريع بتعمد تعطيل النشاط الزراعي في مناطق إنتاج الغذاء؛ لإحداث مجاعة في السودان، والهدف النهائي من ذلك هو إفراغ مناطق الإنتاج من أهلها واستبدالهم بـ "عناصر الدعم السريع ومرتزقتها الأجانب"، على حدّ وصف البيان.

لكن ماذا فعلت السُلطة القائمة لمنع ذلك المُخطط، وما هي رؤيتها للتعامل مع سيناريوهات التهجير القسري؟ وكيف سمح الجيش لقوات التمرد بالتوغل داخل القرى والمدن المأهولة بالسكان؟ فواجبه الدستوري يحتم عليه الدفاع عن المدنيين، على الأقل، وحماية المشروعات الزراعية في الجزيرة وسنار، وخلق مناطق آمنة تستوعب آلاف النازحين الفارين، دون مضايقات، حتى لا يعين الأعداء على فرض مخططهم الشرير، وصناعة المجاعة؛ للقتل بطريقة بطيئة ومؤلمة.

هبوط أقدار الناس

نحن تقريبًا إزاء سلسلة متواصلة من المعاناة، ليس في مواجهة الواقع المرير فحسب، ولكن في كيفية تخيُّل تلك الأسئلة، والإجابات المروعة التي جعلت شعبًا كاملًا في حيرة من أمره؛ لأن القوات المسلحة التي منحها ثقته المطلقة لم تدافع عنه في الوقت المناسب، وتركته في مواجهة عناصر متوحشة من الجنجويد تجيد القتل والاغتصاب.

هل ثمة حقيقة لهبوط أقدار الناس أكثر من ذلك؟ فاللاجئ السوداني اليوم منبوذ، مضطهد، وغير مُرحب به في أي دولة، كما لو أنه يحمل جرثومة الحرب في أنفاسه!

قيمة السودانيين أصبحت – لسببٍ ما – مرتبطة بقيمة عملتهم المحلية، أي الجنيه السوداني، وهو في تراجع مستمر أمام العملات الأجنبية، وهذا يعني أن الحرب الاقتصادية جاءت لتقضي على الموارد الشخصية أيضًا، فهي حرب على الإنسان بهدف إفقاره، بعد أن فقد كل مصادر الدخل وذهبت الوظائف مع الريح، وأصبح الشعب السوداني النازح كذلك عاطلًا عن العمل، ويحتاج إلى من يعينه، وهو الذي كان يؤوي النازحين من دول الجوار، ويغيث الملهوف ويطعم الطير، والمرشح كسلة لغذاء العالم!

من المهم أيضًا، – بما أن هذه الحرب استهدفت المواطن السوداني- طرح الأسئلة الحرجة، مع يقيني المطلق، أنه لا يوجد أكثر تضررًا من الناس الذين لا يعبأ بهم أحد، ولا تصطحبهم المؤتمرات الخارجية ولا المفاوضات في جولاتها، فهل سوف يسدد قائد الدعم السريع، أو من استأجر بندقيته، فاتورة ما تم نهبه وتدميره؟

أو بالأحرى، كيف ستعوضنا الدول التي تمول هذه الحرب، بما ألحقت بنا من أذى وخسائر، أم ستكتفي بالإغاثة المُهينة وخيم الإيواء، والأدوية التي لا تشفي الجروح؟

الرصاصة الأخيرة

لم يعد مهمًا البحث عمن أطلق الرصاصة الأولى، فنحن في أتون المعركة فعليًا، وإنما ثمة حاجة مُلحة لنزع فتيل الأزمة، ومنع الرصاصة الأخيرة من إزهاق الأرواح في بلاد النيلين، ولا شك أن كثيرًا من الدول الطامعة في خيرات السودان ليس من مصلحتها توقف العنف، هذا إذا افترضنا أن المركز الاستعماري لا يمول الحرب حرفيًا، ولكنه كما قال ليوناردو دى كابريو في فيلم (الماس والدم) إنهم في الغرب "يخلقون الظروف التي تجعل الحرب تستمر".

عمومًا فإن المأساة السودانية مستمرة، وهي تحتاج إلى صحوة الضمير العالمي؛ لأنها مأساة ترتبط بالإنسان السوداني، العالق ضمنيًا في المسافة ما بين معنى النزوح واللجوء، وفي الخاطر رسالة الروائي السوداني الراحل الطيب صالح إلى عزيزته إيلين، والتي وقع عليها بتلك العبارة: " آهٍ منك يا زمن النزوح".

إذ إنّ "صالح" كان في الحقيقة يعبّر عن معاناته مع تاريخ الحرب السودانية، دون أن يقتصر ذلك الألم عليه وحده؛ لأنّ نزوحه وأبناء جيله كان اختياريًا، أو لدوافع سياسيّة، بخلاف ما يحدث اليوم من تهجير غير مسبوق للسودانيين، يتفرج عليه العالم كما لو أن الأمر لا يعنيه، وأحيانًا يكتفي بالتعبير عن قلقه، في أقصى ردة فعل ساخرة اشتهر بها الأمين العام للأمم المتحدة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الدعم السریع أکثر من

إقرأ أيضاً:

غزة - الكشف عن عدد شاحنات المساعدات التي دخلت القطاع اليوم

كشف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة ، مساء الأحد 27 يوليو / تموز 2025 ، عدد شاحنات المساعدات التي دخلت إلى القطاع اليوم ، مبينا أن عمليات الإنزال الجوي سقطت في مناطق قتال خطرة.

 بيان صحفي رقم (908) صادر عن المكتب الإعلامي الحكومي:

 المجاعة تزداد شراسة والاحتلال يواصل جرائم الإبادة: 73 شاحنة فقط دخلت اليوم وعمليات الإنزال سقطت في مناطق قتال خطرة

يعاني قطاع غزة من مجاعة شرسة تتوسع وتتفاقم بشكل غير مسبوق وتطال 2.4 مليون إنسان، بينهم 1.1 مليون طفل، وقد قضى حتى الآن 133 شهيداً بسبب الجوع، بينهم 87 طفلاً، وسط صمت عربي ودولي مريب.

في اليومين الأخيرين، تداولت وسائل إعلام أنباء عن نية عدة دول وجهات بإدخال مئات الشاحنات لكسر المجاعة في قطاع غزة، لكن الواقع فاضح: دخلت فقط 73 شاحنة في شمال وجنوب قطاع غزة، وقد تعرّض معظمها للنهب والسّرقة تحت أنظار الاحتلال وطائراته المُسيّرة، في ظل حرصه الواضح على منع وصولها إلى مستودعات التوزيع، ضمن سياسة هندسة الفوضى والتجويع.

شهدنا ثلاث عمليات إنزال جوي لم تعادل في مجموعها سوى شاحنتين من المساعدات، وقد سقطت حمولتها في مناطق قتال حمراء -وفق خرائط الاحتلال- يُمنع على المدنيين الوصول إليها، ما يجعلها بلا أي جدوى إنسانية.

إن ما يجري هو مسرحية هزلية يتواطأ فيها المجتمع الدولي ضد المُجوّعين في قطاع غزة، عبر وعود زائفة أو معلومات مضللة تصدر عن دول كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها حيث فقدت الحد الأدنى من المصداقية.

إن الحل الجذري يتمثل فقط ب فتح المعابر بشكل عاجل وبدون شروط، وكسر الحصار الظالم، وإدخال الغذاء وحليب الأطفال فوراً قبل فوات الأوان، فالعالم أمام مسؤولية تاريخية.

بكل إدانة واستنكار، نعبّر عن رفضنا الشديد لصمت المجتمع الدولي وتعامله المتواطئ واللامبالي مع المجاعة المتفاقمة وسياسة التجويع الممنهجة والجرائم التي يرتكبها الاحتلال بحق المدنيين المُجوّعين في قطاع غزة. ونُحمّل الاحتلال "الإسرائيلي" وشركاءه في هذه الجريمة، وفي مقدّمتهم الدول المنخرطة بشكل مباشر في جريمة الإبادة الجماعية – الولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا – المسؤولية الكاملة عن تفاقم المجاعة واتساع رقعة الكارثة الإنسانية التي تزداد خطورة ودموية مع كل يوم.

نطالب الدول العربية والإسلامية وكل دول العالم لفتح المعابر فوراً، وندعو وسائل الإعلام إلى التوقف عن ترويج الشائعات والمعلومات الزائفة، فالمجاعة ما زالت مستمرة بل وتتسع وتتفاقم وتزداد خطورة وتوحّش، في ظل هذه المؤامرة الفظيعة ضد السكان المدنيين.

المصدر : وكالة سوا اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين حماس : لا معنى لاستمرار المفاوضات تحت الحصار والإبادة والتجويع الأغذية العالمي: وقف النار هو السبيل الوحيد لوصول المساعدات لغزة السعودية: مؤتمر "تنفيذ حل الدولتين" يأتي استنادا إلى موقف المملكة الأكثر قراءة تقارير إسرائيلية : حماس سترد بإيجابية على المقترح الجديد مفوض الأونروا : التقاعس عن إدخال المساعدات إلى غزة تواطؤ فتوح: غزة تواجه كارثة إنسانية غير مسبوقة الرئيس عباس يباشر حملة اتصالات دولية لوقف التجويع كسلاح إبادة في غزة عاجل

جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025

مقالات مشابهة

  • رئيس الجالية السودانية بمصر: نشكر أرض الكنانة على استضافتنا وتسهيل إجراءات عودتنا
  • رغم أنف الحرب.. زراعة مليون فدان في مشروع الجزيرة
  • رئيس الوزراء السوداني يعين 5 وزراء جدد في حكومته
  • شاهد بالفيديو.. التيكتوكر السودانية الحسناء “صفاء” تسخر من حكومة تأسيس: (مبروك يا القحاتة ومبروك يا راجل تسابيح ومبرك يا خالد سفة وحكومة ستحكم الشعب السوداني أون لاين)
  • رفض قاطع.. وتوعد بإحباط المشروع.. الجيش السوداني يصف الحكومة الموازية بـ«المؤامرة»
  • لن نفرط.. وزير “المعادن” السوداني يعلن الحرب على مهربي الذهب
  • غزة - الكشف عن عدد شاحنات المساعدات التي دخلت القطاع اليوم
  • بينهم ضابطان.. محاكمة قتلة عضو “المؤتمر السوداني” تختبر إرادة العدالة السودانية
  • انفصال فعلي".. حميدتي يعلن حكومة ومجلسا رئاسياً من قلب دارفور ويصعّد التحدي للجيش السوداني!
  • حسن شاه حسيني: الحفاظ على الأمن والسلام والاستقلال وسيادة الأراضي السودانية يمثّل قوة لكل العالم الإسلامي