دراسة الواقع المصري.. الثورة الرابعة بتوقيت التغيير
تاريخ النشر: 26th, July 2024 GMT
مدخل يثير الاهتمامات والتساؤلات
في ذكرى ثورة يوليو 52، ثم 25 يناير، والانقلاب عليها بمذبحة رابعة، تمر علينا بعد أيام ذكرى القضاء على آخر اعتصامات الثورة الثالثة، نستذكر فيها تضحيات الشهداء، نحيي ثوار الأمس، ونجسد آمال الغد، ونفتح ملف الثورة الرابعة التي باتت بوادرها واضحة على أفق مصر، فهل حان وقت التغيير؟ أم ستظل مصر أسيرةً لقيود الاستبداد والقمع والتدمير؟
استهلال تاريخي.
. الثورات المصرية
في عمق الظلام الحالك، ومع ومضات بريق الأمل، ما لم يلفنا ظلام اليأس في كفن العدم، تتلألأ مسيرة شعب بأربع مسارات: الحرية، العدالة الاجتماعية، الكرامة الإنسانية، والمكانة الدولية، ليسطر الشعب المصري ثورة تاريخية بعد انقلاب عسكري، مما أدى إلى دوامة من الأزمات المعقدة التي تفتك بمختلف جوانب الحياة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، القانونية، والدبلوماسية، لذا ألزمتنا بقراءة ودراسة وفهم ومعايشة يوميات ما يواجهه الشعب المصري من ثورات عبر التاريخ رسمت مسار النضال من أجل الكرامة والعدالة السيادية، سياسية واقتصادية واجتماعية، فنبدأها بالثورة الأولى 1919، ثم الثورة الثانية 1952، والثالثة في 2011.
الثورة الأولى 1919
فثورة 1919 كانت دوافعها الاحتلال البريطاني، تردي الأوضاع الاقتصادية، وانعدام التمثيل السياسي، حيث اشتعلت أحداثها بمظاهرات واحتجاجات شعبية واسعة، ثم إضرابات ضخمة، ومواجهات مع قوات الاحتلال، فلقد حققت نتائجها بإعلان استقلال مصر، وتشكيل حكومة وطنية، واعتقال زعماء الثورة ونفيهم.
الثورة الثانية 1952
ثم جاءت ثورة 1952 بدوافعها الواضحة للجميع، حيث الهزيمة في حرب 1948، تردي الأوضاع الاقتصادية، الفساد المستشري، وغياب العدالة الاجتماعية، فكان الحدث انقلابًا عسكريًا بقيادة جمال عبد الناصر، لإسقاط الملكية وإعلان الجمهورية، فتأسست جمهورية مصر العربية، حكم الضباط البلاد قرابة الستين عامًا شهدت خلالها انهيارًا اقتصاديًا واجتماعيًا.
الثورة الثالثة 2011
فانطلقت الثورة الثالثة، ثورة 25 يناير 2011، بدوافع مشابهة لسابقاتها من الثورات، الفساد المستشري، البطالة المرتفعة، القمع السياسي، وانعدام الحرية والديمقراطية، حيث اشتعل الميدان بعد احتجاجات ومظاهرات شعبية ضخمة في جميع أنحاء الجمهورية، واعتصامات من ميادين الإسماعيلية والسويس والإسكندرية، ثم تمركزت وتمحورت في قلب القاهرة حيث ميدان التحرير، فبدأت بالمطالبة برحيل حسني مبارك والنظام الفاسد، وصولًا إلى إسقاط النظام، وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة د. عصام شرف، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، هي أولى خطوات الطريق نحو الديمقراطية المدنية والتحرر من الحكم العسكري.
استدلال لدوافع ومنطلقات التغيير
العيش: المسار الاقتصادي
البطالة والتضخم
معدلات البطالة بين الشباب تجاوزت 30%، مما يزيد من الإحباط والتوتر الاجتماعي، فإن هذه الفئة المؤثرة تعاني من غياب الفرص الوظيفية، وهو ما يؤدي إلى يأس وإحباط كبيرين، فقد أدى التضخم المتزايد إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية مثل الغذاء والدواء، مما جعل الحياة اليومية صعبة للمواطنين، حيث زيادة أسعار الوقود والطاقة تضيف مزيدًا من الأعباء على الأسر الفقيرة والمتوسطة.
الديون الخارجية
تراكم الديون الخارجية لمصر حتى تجاوزت 130 مليار دولار، مما يثقل كاهل الاقتصاد الوطني ويحد من الاستثمارات في الخدمات الأساسية والبنية التحتية، فنسبة كبيرة من ميزانية الدولة تُستهلك في سداد فوائد الديون، مما يحد من قدرة الحكومة على تحسين الظروف المعيشية للمواطنين.
الفساد المالي والإداري وتبديد موارد الدولة
الفساد المتفشي في جميع مستويات الحكومة، من المحليات إلى الوزارات، يؤدي إلى إهدار الموارد وتدهور الخدمات، فقلة من الأفراد المقربين من السلطة يستحوذون على ثروات البلاد، مما يعمق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فقد تم بيع العديد من أصول الدولة وممتلكاتها بأسعار زهيدة لمقربين من النظام أو سداد لقروض تم تحويلها لغير مسارها أو تبديدها في مشروعات دون دراسات، مما أدى إلى فقدان البلاد لأصول استراتيجية وإضعاف الاقتصاد الوطني.
الحرية.. المسار السياسي
قمع الحريات
الآلاف من المعارضين السياسيين، الصحفيين، والنشطاء تم اعتقالهم دون محاكمات عادلة، حيث أصبح الإخفاء القسري وسيلة لإسكات المعارضة، تُفرض قيود شديدة على منظمات حقوق الإنسان والجمعيات الأهلية، بما في ذلك منع التبرع لها أو تمويلها وفرض قيود على أنشطتها.
الانتخابات الصورية
الانتخابات في مصر تفتقر إلى النزاهة، حيث يتم تزييف النتائج لصالح النظام العسكري الحاكم، فالمعارضة تُمنع من الترشح أو تُجبر على الانسحاب تحت الضغط، ثم يستهدف النظام الأحزاب المعارضة بالقمع أو بالاختراق والتوجيه، مما يضعف من قدرتها على المشاركة في الحياة السياسية.
تآكل مؤسسات الدولة
يقف الشعب المصري اليوم على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، في مواجهة أزمات متفاقمة عبر كافة المستويات الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، القانونية والدبلوماسية، فالأوضاع الحالية تهيئ الأرضية لثورة شعبية جديدة قد تكون هي الثورة الرابعة التي تحقق للشعب المصري ما يصبو إليه من عيش كريم، حرية، عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية،تسيس القضاء: القضاء لم يعد مستقلاً، بل أصبح أداة بيد السلطة التنفيذية لتصفية الحسابات السياسية، تسيس البرلمان، واستخدامه لتمرير قوانين تكرس القمع وتقييد الحريات، ومواد إعلامية للاستهلاك الإعلامي.
العدالة الاجتماعية.. المسار الاجتماعي
الفقر والتهميش
أكثر من 30% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، والسياسات الاقتصادية الفاشلة أدت إلى تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، حيث الفئات المختلفة في المجتمع تعاني من نقص في الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، مما يزيد من شعورهم بالتهميش والإقصاء.
تدهور الخدمات العامة
المستشفيات تعاني من نقص الأدوية والمعدات الطبية، مما يؤثر على جودة الرعاية الصحية، فالمدارس تعاني من نقص التمويل والمرافق، وهو ما يؤدي إلى تدهور جودة التعليم وزيادة معدلات التسرب.
الهجرة غير الشرعية
الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة دفعت العديد من الشباب لمحاولة الهجرة غير الشرعية بحثًا عن فرص عمل أفضل في الخارج، حيث يعكس حجم الأزمة الإنسانية.
الكرامة الإنسانية.. المسار القانوني والسيادي
الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري
استخدام الإخفاء القسري كوسيلة لقمع المعارضة أصبح أمرًا مألوفًا، حيث يُحتجز الأفراد دون محاكمات عادلة، ومن يتم محاكمته منهم تكون المحاكمة أمام محاكم عسكرية يُحرمون فيها من حقوقهم الأساسية الإنسانية والمدنية، حيث يخلق الإخفاء القسري حالة من الخوف والرهبة بين أفراد المجتمع، مما يحد من النشاط السياسي والاجتماعي.
التعذيب في السجون
تقارير حقوقية تفيد باستخدام التعذيب كوسيلة للحصول على اعترافات قسرية، حيث يُستخدم التعذيب لمعاقبة المعارضين وكبح أي محاولات للتغيير والتصحيح في نظام عسكري يرفض كل ناصح، ويعتقل كل صالح مصلح، فقد تصاعدت حالات القتل خارج إطار القانون، بما في ذلك الإعدام الميداني للمتهمين دون محاكمات، أو بإهمال طبي داخل المعتقلات أو القتل أثناء الترحيلات.
التهجير القسري
التهجير القسري لسكان سيناء بذريعة مكافحة الإرهاب أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، حيث يُجبر السكان على مغادرة منازلهم وأراضيهم، فتهجير المواطنين من منازلهم وأراضيهم، ثم الاستيلاء عليها لحرمانهم من ممتلكاتهم وسبل العيش الكريم، يزيد من الاستياء والغضب.
انهيار الأمن المائي والزراعي والغذائي
تفاقمت أزمة المياه نتيجة لتراجع حصة مصر من مياه النيل وتأثير ذلك على القطاع الزراعي، حيث السياسات الزراعية الفاشلة والاعتماد على الواردات الغذائية جعلت مصر عرضة لأزمات غذائية حادة، فبنية الري التحتية تدهورت، وتلوثت مصادر المياه، مما أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي وزيادة الاعتماد على المنتجات المستوردة.
المكانة الدولية والجوار.. المسار الدبلوماسي
العلاقات مع الجوار
توتر العلاقات مع بعض الدول المجاورة بسبب القضايا الأمنية والسياسية، حيث القضايا الحدودية ومشكلات المياه تُعقد العلاقات الإقليمية، وغياب الدور الدبلوماسي والسياسي الفطن، والسياسات القمعية في الداخل تؤثر على العلاقات مع الجوار، فقد احتلت رفح وغزة والقطاع والضفة الغربية دون حراك تفرضه قيم العدالة وأخلاقيات العقائد والشرائع السماوية.
السياسة الدولية
يحاول النظام الحفاظ على دعم القوى الدولية من خلال الإعلان عن اتفاقيات دولية، محورها التفريط والبيع للأصول، وتبديد موارد البلاد، فقد بدأت بتيران وصنافير، ثم رأس الحكمة، وميناء السويس، والذي سبقه ميناء بورسعيد، وما تسمى الجلالة والعاصمة العسكرية الجديدة (الإدارية كما يطلق عليها الإعلام)، حيث تزايد الانتقادات الدولية لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، وتنامي القروض دون سداد، يعرض البلاد لعزلة دبلوماسية ويؤثر على العلاقات الخارجية.
التأثير الدبلوماسي
تدهور الأوضاع الداخلية أثر على القدرة والقوة الدبلوماسية لمصر، فلا يخلو تحرك من انتقادات لسوء إدارة وفشل اقتصادي وسياسي، محوره المصادرة والاستيلاء، وسجل حافل بانتهاكات حقوق الإنسان.
استشراف ثورة منتظرة من قلب الأزمات المصرية المتراكمة
يقف الشعب المصري اليوم على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، في مواجهة أزمات متفاقمة عبر كافة المستويات الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، القانونية والدبلوماسية، فالأوضاع الحالية تهيئ الأرضية لثورة شعبية جديدة قد تكون هي الثورة الرابعة التي تحقق للشعب المصري ما يصبو إليه من عيش كريم، حرية، عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية، حيث إن التحديات كبيرة، ولكن الأمل في التغيير يظل مشتعلاً في قلوب وعقول المصريين، مؤكدين أن الغد لناظره قريب.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه مصر الأوضاع السياسة مصر سياسة رأي أوضاع مدونات مدونات مدونات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الثورة الرابعة الشعب المصری تعانی من أدى إلى
إقرأ أيضاً:
بين الاستجابة الإحيائية والانبعاث الحضاري.. مشاتل التغيير (25)
هذا المقال يقع في قلب مشاتل التغيير حينما نستلهم مفاهيم قرآنية آن الأوان أن نتعلم منها وعليها؛ والتأكيد على دروس فيها ومنها. ففي آية الإحياء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" (الأنفال: 24)؛ الخطاب للذين آمنوا، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا"، ومن ثم فهو خطاب الإيمان ومقتضاه والمترتبات عليه ولوازمه، إنها العقيدة الدافعة، ونقطة البدء الدافعة (عروة وثقى لا انفصام لها).
"اسْتَجِيبُوا".. نداء قرآني شامل يحمل معاني الاستجابة الواعية بالقول الداعية إلى الفعل..
الاستجابة عمل شامل متكامل يفهم شروطها ويعين ساحاتها ويقدر تأثيراتها ومآلاتها.. الاستجابة هي عنوان الفعل والتفعيل والفاعلية والتأثير.. الاستجابة حالة تغيير ومدخل إصلاح وتقويم.. الاستجابة إجابة شافية وافية مكافئة كافية، إجابة عن سؤال الإيمان ومقتضياته.. الاستجابة فكر ونظر، وفعل سعي وتدبر، وقدرة عمل فاعلة وحركة ناشطة مؤثرة؛ لا تعرف كللا ولا مللا، وتؤكد على الكد والنصب؛ "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ" (الانشقاق: 6)، "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ" (الشرح: 7).. إنها مواصلة مستمرة للإنجاز والإنتاج؛ والاعتبار والاستثمار، إنها حالة من المراجعة والمداومة.
إن فعل الاستجابة يقوم على الاتصال الفاعل لا الانفصال المانع؛ الاستجابة صلة حقيقية بمصادر التأسيس المرجعية؛ صلة وتواصل؛ اتصال ووصول بلوغا للمقاصد والأهداف الكبرى، هي الطلب المتواصل والفعل المستدام. ولا يحسبن أحد أن فعل الاستجابة قد يقتصر على فعل التحدي وفقا لنظرية أرنولد توينبي في "التحدي والاستجابة"؛ بل هي استجابة مبدئية عقدية وبما تؤول له من فعل الإحياء.
"لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ"؛ لحقيقة التوحيد الكبرى وآثارها في الحياة ومرضاة لله، "رضي الله عنهم ورضوا عنه"، وللرسول والرسالة التي حملها وأودعها خلقه خاصة من آمنوا بها فحملوا الأمانة وأعطوا العهد لها واستمسكوا بمنهاجها ونهجها، إنها مقتضى شهادة التوحيد الأصيل لهذا الميثاق الغليظ (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)، فتتأكد الصلة بين رسالة التوحيد والرسول الحامل للأمانة المبلغ للرسالة؛ إنه شأن المرجعية التي ينعقد بها نهج الإيمان ومواصلة حمل الأمانة، وحينما تقترن المرجعية بمعاني الاستجابة الواعية والداعية والساعية إلى فعل وقول الحق والاستمساك به.
"إِذَا دَعَاكُمْ".. الدعوة والدعاء.. حقائق الصلة والاتصال بين الداعي والمدعو، "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي" (البقرة: 186). والدعوة فعل الإيمان الذي يرتبط بالمؤمن فيحرك طاقاته وفاعلياته: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النجل: 125)، إنها معاني الدعوة الدائمة والحركة الدائبة؛ فماذا بعد دعوة الله والرسول إلا الاستجابة الحقة الدافعة والرافعة.. الدعوة فعل نهوض واستنهاض؛ وسعي حضور وشهود؛ والاستجابة هي فعل الجواب الناهض والفاعل.
"لِمَا يُحْيِيكُمْ".. إنها دعوة الإحياء بالحق وعلى الحق وللحق؛ هي دعوة مقتضى أن تكون حيا بحق؛ فاعلا مؤثرا بحق، إنها حياة الكرامة والعزة وفق مقتضى القانون الإلهي في التكريم، "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (الإسراء: 70)، مقتضى التكريم الذي لا يذل فيه الإنسان فيخضع ويخنع؛ ولا يتجبر ويتكبر فيستغني ويطغى. وللإحياء أوعية كثيرة تطال كل مساحات الحياة ومناحيها، ولعل معاني الإحياء الحضاري وشمولها؛ وكمالها واكتمالها؛ لا تقتصر على باب مشهور من مثل إحياء التراث بالتحقيق والتدقيق، فهو باب صلة المسلمين بتراثهم وهو لعمري مهمة عظيمة وجليلة، ولكن الإحياء للتراث لا يتوقف عند أبواب التحقيق والتدقيق بل إنه يتواصل ضمن أبواب الاستثمار والتوظيف، والإحياء الحضاري لا يتوقف عند باب التراث على قيمته، بل هو يتطرق إلى كافة مستويات الإحياء الشامل والمتكامل والمستدام لكل ما يقيم حياة الناس ويسهم في إحيائهم فكرا وحركة وعيا وسعيا قدرة وفاعلية.
وفي آية الخروج والانبعاث: "وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُو مَعَ الْقَاعِدِينَ" (التوبة: 46) كما هي آية الإحياء؛ مدركات ومعان وقف عليها الدكتور محمود النفار في رؤية حضارية شاملة ومتكاملة في بحث "الإمداد الفكري والإعداد الحضاري في ضوء معركة الطوفان: آفاق وأدوار"؛ ألقاه في ندوة توقف الباحث برؤية عميقة ودقيقة في مدارسة تدبرية لمعاني هذه الآية الكريمة، حيث تكشف الآية عن مفهوم جامع نسميه بالانبعاث الحضاري، وهو ثمرة أربعة مفاهيم فرعية: الوعي، فالإرادة، فالإعداد، فالخروج. فالإرادة ثمرة الوعي، والإعداد ثمرة الوعي والإرادة، والخروج ثمرة الوعي والإرادة والإعداد. يقابل الانبعاث مفهوم سلبي يعبر عنه القرآن بالقعود، وهو يشير إلى أربع اختلالات كذلك: اختلال الوعي، واختلال الإرادة، واختلال الإعداد، واختلال الخروج. إن الانبعاث والقعود بحسب الآية رؤيتان، أو فلسفتان، أو نموذجان متقابلان، أو هما نمطا حياة يستوعبان الفكر والحركة في النشاط الإنساني.
في مفتتح هذه الآية ستطل علينا كلمة "وَلَوْ"، وهذه الكلمة في سياق الآية لم تكن إلا تنبيها بحقيقة الوعي والتدبر والفهم والالتفات إلى حقائق الخروج من وضع إلى وضع وتفترض حالة الوعي بمكونات ذلك الخروج، ونقطة البداية فيه. إن مبتدأ المشاريع الجادة الوعي، وإليه الإشارة بقول الله تعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ" (محمد: 19)، فبدأ بالعلم. ونريد بالوعي الحضاري هنا: الإدراك الكلي بوصفه شرطا من شروط البناء المقاوم".
"أَرَادُوا" التي تشير إلى الضلع الثاني يتعلق بالإرادة الحضارية: مجموع البواعث التي تدعو النفس لتحويل العلوم والمعارف إلى نزوع نحو العمل بمقتضى ذلك العلم. إن حظ المقاوم من هذه المعرفة تحولها إلى إرادة، فيما حظ مخالفيها البحث في هذه المعارف لتسويغ التقاعد والتخاذل، وإعلان الهزيمة والاستسلام.
القضية الأولى: اختلال الإرادة هذا ثمرة اختلال الإدراك أو توهم الإدراك: "ابْعَثْ لَنَا مَلِكا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا" (البقرة: 246). وكذلك اختبار الإرادة والعزم وانكشاف الوفاء بالعهد والميثاق: "منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" (الأحزاب: 23)، "الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ" (الرعد: 20).
القضية الثانية: فاعلية الإرادة وإرادة الفاعلية؛ فهذه الإرادة ليست ممكنة فحسب، بل إنها فاعلة وتحقق مكاسب وتثمر إنجازات، وهكذا يدفع الفعل المقاوم المؤمن بالقضاء والقدر والمستجيب للتكليف الإلهي؛ عقيدة الجبرية الذين ينفون إرادة الإنسان، ويستهولون قدرة البشر، ويرون أن الاستعمار والاحتلال قدر لا بد منه.
إن هذه الإرادة ضرب من الغرور في نظر فاقدي الإرادة بسبب اختلال وعيهم أولا، ثم اختلال إرادتهم، وهم باسم الواقعية يسلبون نفوسهم وجيوشهم وشعوبهم إرادتها، بل ويجهدون في أهم ثروة لأي أمة: الإرادة. إن إرادة القتال أعظم أثرا من حمل السلاح، فلا قيمة لسلاح لا إرادة معه، لأنه سيتحول في هذه الحالة كما هو الحال في اللحظة الراهنة إلى سلاح مكدس، كما تحولت المعرفة في المحور الأول إلى معرفة تفضي إلى الاستسلام والبحث عن مسوغاته ومستنداته في النظريات والتجارب والخبرات الإنسانية، "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (الحج: 46).
القضية الثالثة: انتصار الإرادة وإرادة الانتصار. وهنا يترقى الرواد ليؤمنوا بأن هذه الإرادة يمكن الانتصار بها، فهي ليست ممكنة ولا فاعلة فقط، بل يتحقق معها الانتصار، "قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" (الشعراء: 62). هذه الإرادة تحولت إلى عصا موسى عليه السلام وعصا "السنوار". إن فعل الإرادة الحضارية فعل مركب ومعقد تتعدد فيه المشاهد والشواهد؛ تتساند فيه العناصر والمستويات وتتضافر فيه إرادة الإمكان واختبار الإرادة والعزم؛ وإرادة الفاعلية والتأثير.
"الْخُرُوجَ" ليس مجرد كلمة؛ الخروج عمليات كبرى ومشروع استراتيجي وفعل حضاري ممتد يستحضر الإعداد والاستمداد والإمداد وحالة الاستعداد الحضاري الناهض بترجمة النداء القرآني الواسع والممتد، "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ" (الأنفال: 60)؛ إنها ممهدات عملية الخروج والإشارة إلى إمكاناته ومكناته؛ إلى صناعة المكانة على طريق التمكين والتزاماته. الخروج خريطة طريق في مسار التغيير تحدد بداياته كما تعين مقدماته وتشكل مقاصده وغاياته، إنه استحضار لاستراتيجية البناء على الموجود النافع المفعم بالخير، ومحاولة إيجاد المفقود الذي نفتقر إلى وجوده رغم أهمية بل وضرورات حضوره؛ وصولا للمنشود في غاياته القريبة والمنظورة التي تحرك الراكد صوب ارتياد كل مسلك الفاعلية والتجديد؛ بلوغا للمقصود في إقامة دين الله بمقتضى مناهج وطرائق الانبعاث الحضاري.
إن علم الخروج الحضاري هو في مواجهة أزمة أو استجابة لتحدي، أو استشراف لعملية بناء في الحال والاستقبال. الخروج أيضا حالة عقلية جمعية تتبادر من معنى مخاطبة الجميع والجمع والمجتمع والقوم المتعلق بواو الجماعة في "أَرَادُوا"؛ العقلية الكاشفة، العقلية الفارقة، العقلية الناقدة المراجعة، العقلية الإيجابية البانية التي تنصهر لتأسيس عقلية فرقانية ناظمة جامعة رافعة دافعة.
"لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة".. نريد بالإعداد الحضاري والاستعداد الحضاري مجموع الجاهزيات التي تتخذها أمة من الأمم على ثغورها المختلفة بقصد مواجهة التحديات وصد الأخطار على مستوى الوعي والسعي، وفي جميع المجالات الحيوية للأمة والدولة، بما يحفظها ويستبقيها فاعلة وناهضة في العالم. وهي تقوم على ثلاث قضايا:
إن للانبعاث الحضاري شروطا لا ينبغي أن تهمل أو تغفل؛ من العمل الحضاري والفعل الذي يقرن بتسديد الوعي وترشيد السعي، وفعل الإحياء الحضاري وأصول الانبعاث الحضاري هي مشتل التغيير في مسيرة التغيير الحضاري المنشود والمقصود
القضية الأولى: سعة الإعداد مفهوما ونوعا ومجالا وأفقا. الإعداد في سياقه الحضاري لا يقف عند إلقاء المعارف، ولا خلق الإرادات، كما أنه لا ينحصر في بذل الجهد أي جهد، وصرف الطاقة أي طاقة، وجمع الأنصار أي جمع، بل هو تصريف للطاقة وتدبير للموارد وترتيب للعمل بمنهجيات تستوعب طاقة الأمة وإبداعاتها. الإعداد المنشود في السياق الفكري يعني بناء الأطر الفكرية الجامعة، ومأسسة المعرفة المتعلقة بدراسة الاحتلال ومنظومته الداعمة وقراءة في عقلهم الإستراتيجي بعقل إستراتيجي مقابل ومضاد. إن تعيين ثغور المرابطة المعرفية مهم للغاية من خلال تخصصات متنوعة وسياقات مختلفة ومتآزرة تصدر عن عقل استراتيجي.
القضية الثانية: محاضن مجتمعية ناهضة وعلى رأسها الأسرة بوصفها مستودعا ومستوى من مستويات الإعداد.
القضية الثالثة: التكافؤ في الإعداد، فالأنشطة لا تكفي في مواجهة مشروع، بل لا بد أن نحدث لكل فجور جهادا خاصا (تحدث للناس أقضية بمقدار ما أحدثوا من فجور)، ولا بد أن يفي الإعداد المنشود لسقف المقاومة، ولسقف الجريمة في الجهة الأخرى، ولسقف التحديات المختلفة. تلك الإضاءات التدبرية للدكتور النفار مع تصرف يسير حول آية الانبعاث، وكذا خواطرنا حول آية الإحياء تشكل مدخلا مهما في التعرف على معاني الإحياء الحضاري ومغازي الانبعاث الحضاري.
إنها عملية الخروج وثمرتها القائمة على العلم الممزوج بالعمل؛ العلم النافع هو الذي يتحول إلى عمل نافع مثمر، أما العلم الضار فلا يتحول إلا إلى عمل خبيث، "لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالا" (التوبة: 47). وكذلك الثبات هو انعكاس للاستراتيجية، إن الثبات رغم التحديات هو ثمرة إيمان عميقة واستراتيجية راسخة.
إن للانبعاث الحضاري شروطا لا ينبغي أن تهمل أو تغفل؛ من العمل الحضاري والفعل الذي يقرن بتسديد الوعي وترشيد السعي، وفعل الإحياء الحضاري وأصول الانبعاث الحضاري هي مشتل التغيير في مسيرة التغيير الحضاري المنشود والمقصود؛ هذا ما تعلمنا الآيات القرآنية التي كانت مجال اهتمام هذا المقال، ولعلنا نتبعه بمزيد من تدبر حول الإحياء والانبعاث.
x.com/Saif_abdelfatah