12 عاما من الانقلاب | لماذا خفت صوت المصريين بالخارج.. هل انتهى حلم التغيير؟
تاريخ النشر: 2nd, July 2025 GMT
بعد 12 عامًا من الانقلاب العسكري الذي قاده رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي في تموز / يوليو 2013، مغيرا لوجه الدولة سياسيا واجتماعيا وأمنيا، أصبحت مصر في قبضة أمنية صارمة أوقف مسيرة الحريات، واعتقل الآلاف من المعارضين السياسيين، ما ترك أثرا عميقا على المشهد السياسي داخل مصر وخارجها.
على خلاف السنوات الأولى التي تلت الانقلاب، شهدت فيها الجاليات المصرية في الخارج نشاطا متواصلا واحتجاجات مستمرة ضد سلطة الانقلاب مطالبة بإسقاطه وخروج المعتقلين، ما أثر في الرأي العام الدولي، بدأ الحراك المعارض بالخارج يعاني من عزوف ملحوظ في السنوات الأخيرة، وانشغل المعارضون بالقضايا الإقليمية، أو تأثروا بالخلافات الداخلية.
وقد يعزى هذا العزوف إلى عدة أسباب، أولها إحساس عدد من المعارضين بأن الجهود المبذولة لم تثمر تغييرات فعلية في الداخل، خاصة مع استمرار القمع والتشديد الأمني، بالإضافة إلى ذلك، أدت التطورات الإقليمية على رأسها سوريا وغزة إلى تحويل أنظار كثيرين من المعارضين المصريين نحو هذه القضايا.
كما شهد المشهد السياسي في الخارج حالة من الانقسام بين رفقاء الدرب سواء كانت خلافات إدارية أو اختلاف الأسلوب فمنهم يصر على الاستمرار في الحراك وبين من أصابه اليأس، ما أدى إلى ضعف التنسيق وصعوبة تنظيم فعاليات مؤثرة بشكل مستمر كما كان من قبل.
ملف المعتقلين السياسيين.. قصة القمع المستمر
رغم تراجع الحراك في الخارج، يبقى ملف المعتقلين السياسيين في مصر هدف وبصلة للمعارضين بالخارج حيث يعد من أكثر الملفات إيلاما ووضوحا على حجم القمع الذي تمارسه النظام فعشرات الآلاف من الشباب، الناشطين، والصحفيين، يقبعون في السجون المصرية تحت ظروف اعتقال قاسية، مع غياب أي مسار واضح للعدالة أو الإفراج عنهم.
دور السياسيين وتحديات المعارضة
في ظل هذا الواقع، يتباين دور السياسيين والنواب البرلمان في عهد الثورة والمعارضين بالخارج بين من يحاولون إعادة إحياء الحراك وتجديد الخطاب السياسي، ومن انشغلوا بأمور أخرى إضافة إلى عدم وجود قيادة موحدة وموارد كافية، أثر على قوة المعارضة الخارجية.
شرعية مرسي أم إسقاط الانقلاب؟
ومن جانبه أكد عضو البرلمان المصري السابق النائب طارق مرسي، أن تراجع زخم دعم الشرعية في الخارج خلال السنوات الماضية يعود إلى أسباب متعددة ومتداخلة، موضحا في تصريحات خاص لـ "عربي21" أن تفكك ما كان يعرف باتحاد دعم الشرعية في السنة الأولى للانقلاب كان من أبرز العوامل التي أثرت سلبا على تنظيم الحراك وتنسيقه بين مكوناته.
وأشار مرسي إلى أن التوصيف الحالي للمشهد السياسي أصبح مختلفا بين الفرقاء والنخبة الرافضة للانقلاب، حيث تجاوز الكثيرون منهم قضية الشرعية بعد استشهاد الرئيس المصري الراحل محمد مرسي في سجنه، وأصبحت القضية تعتبر بين الرئيس والعسكر فقط، وليس صراعا من أجل الديمقراطية وحرية الشعب واختياره.
وأوضح النائب البرلماني السابق أن الشباب والمكون الشعبي الرافض للانقلاب هم الأكثر تمسكا بمفهوم الشرعية مقارنة بالنخبة السياسية التي تحاول التأقلم مع النظام العسكري وتقبل دور المعارضة ضمن المساحات المحدودة التي يفرضها الانقلاب.
أسباب العزوف عن الحراك
وفيما يتعلق بالعزوف الظاهر من قطاعات واسعة من المصريين في الخارج عن التفاعل مع قضية إسقاط الانقلاب، أكد مرسي أن ذلك لا يمكن اعتباره عزوفًا بالمعنى الحرفي، وإنما يعود إلى أسباب منها ضعف الحراك الداخلي، الذي أثر بشكل مباشر على نشاط الخارج، إلى جانب الضغوط الحياتية المتزايدة التي يعاني منها المصريون بالخارج، مثل تحمل نفقات الأسر، ورسوم المحامين، ومصاريف الزيارات، بالإضافة إلى مشاكل فقدان جوازات السفر ورفض النظام تجديدها، مما زاد من معاناة المهاجرين.
وحول تأثير الخلافات والانقسامات بين الكيانات السياسية بالخارج على ضعف الحراك، أكد مرسي أن أداء النخبة السياسية تسبب في إحباط الكثيرين، مشيرا إلى غياب بعض الأطراف عن المشهد أو قبولها بالأمر الواقع، ما ساهم في ضعف المشروع السياسي الوطني، مضيفا أن حالة الانقسام والتراشق بالاتهامات بين مكونات المعارضة زادت من إضعاف دورها، مؤكدًا أن مصر تعاني من ضعف رموزها السياسية والتيارات المؤثرة التي يمكنها إدارة العمل السياسي في ظروف الأزمة الراهنة.
وبالحديث عن "حالة اليأس" في صفوف المصريين بالخارج، استدرك مرسي بأنه لا يفضل وصف الوضع بهذا المصطلح، لكنه لا ينكر وجود الغضب بسبب مواقف بعض الدول والمنظمات التي تدعي دعم الحرية وحقوق الإنسان لكنها تستقبل السيسي بحفاوة وتقدم الدعم المالي لنظام الانقلاب، وكذلك الكيانات والسياسيين في الخارج مما يقلل من ثقة المعارضين في المجتمع الدولي.
غزة جذب اهتمام المصريين
من ناحية أخري أثرت الأحداث الإقليمية، خاصة العدوان على غزة، على أولويات المصريين بالخارج، حيث أكد مرسي أن انتصارات المقاومة الفلسطينية تركت أثرا إيجابيا وأملا في قادة المقاومة، لكنها أيضا حولت اهتمام المصريين بالخارج نحو دعم غزة، مما أدى إلى تهميش قضية الانقلاب في مصر.
وأشار مرسي إلى أن مصر في عهد السيسي فقدت دورها الإقليمي الفاعل وأصبحت تابعة لأجندات دول مثل السعودية والإمارات، ومرتبطة بالأوامر الإسرائيلية والولايات المتحدة، مشيرًا إلى أن هذا الواقع أثر هو الآخر على المشهد السياسي الداخلي والخارجي، كما أن التفاؤل الذي أعقب نجاح الثورة السورية كان نشوة مؤقتة، حيث أن الظروف المعقدة للصراع السوري مختلفة كليا عن الملف المصري، مما جعل الأمل في إسقاط النظام السيسي أقل واقعية.
المعارضة المصرية بحاجة لتجاوز الخلافات
وفي السياق ذاته أكدت عضو المجلس الثوري المصري، الدكتورة نهال أبو سيف، في تصريحات خاصة لـ"عربي21" أن جزءا كبيرا من المعارضين المصريين في الخارج تأثروا بالخلافات بين النخب السياسية، وهو ما انعكس سلبا على تماسك الحراك المعارض وفعاليته خلال السنوات الماضية.
وقالت إن كثيرًا من النشطاء، خاصة ممن يقيمون في لندن، كانوا يتحركون بقوة في الفترة الأولى بعد مغادرتهم لمصر، لا سيما أثناء تقديمهم طلبات اللجوء، في محاولة لإثبات أنهم معارضون سياسيون، ولكن بعد حصولهم على اللجوء، انشغل عدد كبير منهم بتأمين سبل العيش أو تقنين أوضاعهم القانونية والاجتماعية في البلدان المضيفة، في ظل غياب أوراق ثبوتية أو جوازات سفر، وضغوط متزايدة تمارسها بعض الدول.
ورأت أن هذه العوامل أدت إلى تراجع في النشاط السياسي لكثير من المعارضين، إلى أن جاءت أحداث غزة التي أعادت الشغف والحماسة لدى شرائح واسعة من المصريين، خاصة أن حل أزمة غزة يبدأ بإسقاط النظام المصري المشارك في حصار القطاع، بحسب تعبيرها.
أما فيما يتعلق بالساحة السورية، فأشارت أبو سيف إلى أن التفاؤل بعد الثورة السورية تراجع بعد مواقف الرئيس السوري أحمد الشرع، لا سيما بعد توليه المنصب رسميا، حيث بدا أنه يسعى للتموضع داخل النظام الدولي عبر البوابة الأمريكية، وظهر ذلك في رد فعله على انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي.
وأضافت: "ربما يبرر ذلك بأن سوريا تعاني أزمة خانقة وتحتاج للانفتاح، لكن النتيجة كانت تأثيرا سلبيا على طموحات كثير من المعارضين في مصر والوطن العربي بشأن التغيير وفرص انطلاق التغير وإسقاط الأنظمة الديكتاتورية من بوابة سوريا ".
وختمت بالتأكيد على ضرورة نبذ الخلافات بين مكونات المعارضة المصرية، وعلى الرغم من مشاركة عدد من النواب والسياسيين بالحراك إلا أن عدد كبير منهم غير متفاعل والقضية تحتاج لمزيد من الجهد السياسي الدبلوماسي والحراك على أرض الواقع.
أشارت إلى أن الحراك يحتاج إلى العمل على توحيد الصفوف وإحياء القضية في نفوس الناس من جديد، مؤكدا إن المجلس الثوري المصري يبذل جهودًا في هذا السياق من خلال تنظيم فعاليات وفتح قنوات تواصل بين التيارات المختلفة، كما شددت على أن قضية المعتقلين يجب أن تبقى حيّة في الوجدان، وألا يتم التخلي عنها تحت أي ظرف.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية الانقلاب العسكري المصري السيسي المصريين في الخارج مصر السيسي الانقلاب العسكري المصريين في الخارج المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المصریین بالخارج من المعارضین فی الخارج إلى أن
إقرأ أيضاً:
بين الاستجابة الإحيائية والانبعاث الحضاري.. مشاتل التغيير (25)
هذا المقال يقع في قلب مشاتل التغيير حينما نستلهم مفاهيم قرآنية آن الأوان أن نتعلم منها وعليها؛ والتأكيد على دروس فيها ومنها. ففي آية الإحياء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" (الأنفال: 24)؛ الخطاب للذين آمنوا، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا"، ومن ثم فهو خطاب الإيمان ومقتضاه والمترتبات عليه ولوازمه، إنها العقيدة الدافعة، ونقطة البدء الدافعة (عروة وثقى لا انفصام لها).
"اسْتَجِيبُوا".. نداء قرآني شامل يحمل معاني الاستجابة الواعية بالقول الداعية إلى الفعل..
الاستجابة عمل شامل متكامل يفهم شروطها ويعين ساحاتها ويقدر تأثيراتها ومآلاتها.. الاستجابة هي عنوان الفعل والتفعيل والفاعلية والتأثير.. الاستجابة حالة تغيير ومدخل إصلاح وتقويم.. الاستجابة إجابة شافية وافية مكافئة كافية، إجابة عن سؤال الإيمان ومقتضياته.. الاستجابة فكر ونظر، وفعل سعي وتدبر، وقدرة عمل فاعلة وحركة ناشطة مؤثرة؛ لا تعرف كللا ولا مللا، وتؤكد على الكد والنصب؛ "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ" (الانشقاق: 6)، "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ" (الشرح: 7).. إنها مواصلة مستمرة للإنجاز والإنتاج؛ والاعتبار والاستثمار، إنها حالة من المراجعة والمداومة.
إن فعل الاستجابة يقوم على الاتصال الفاعل لا الانفصال المانع؛ الاستجابة صلة حقيقية بمصادر التأسيس المرجعية؛ صلة وتواصل؛ اتصال ووصول بلوغا للمقاصد والأهداف الكبرى، هي الطلب المتواصل والفعل المستدام. ولا يحسبن أحد أن فعل الاستجابة قد يقتصر على فعل التحدي وفقا لنظرية أرنولد توينبي في "التحدي والاستجابة"؛ بل هي استجابة مبدئية عقدية وبما تؤول له من فعل الإحياء.
"لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ"؛ لحقيقة التوحيد الكبرى وآثارها في الحياة ومرضاة لله، "رضي الله عنهم ورضوا عنه"، وللرسول والرسالة التي حملها وأودعها خلقه خاصة من آمنوا بها فحملوا الأمانة وأعطوا العهد لها واستمسكوا بمنهاجها ونهجها، إنها مقتضى شهادة التوحيد الأصيل لهذا الميثاق الغليظ (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)، فتتأكد الصلة بين رسالة التوحيد والرسول الحامل للأمانة المبلغ للرسالة؛ إنه شأن المرجعية التي ينعقد بها نهج الإيمان ومواصلة حمل الأمانة، وحينما تقترن المرجعية بمعاني الاستجابة الواعية والداعية والساعية إلى فعل وقول الحق والاستمساك به.
"إِذَا دَعَاكُمْ".. الدعوة والدعاء.. حقائق الصلة والاتصال بين الداعي والمدعو، "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي" (البقرة: 186). والدعوة فعل الإيمان الذي يرتبط بالمؤمن فيحرك طاقاته وفاعلياته: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النجل: 125)، إنها معاني الدعوة الدائمة والحركة الدائبة؛ فماذا بعد دعوة الله والرسول إلا الاستجابة الحقة الدافعة والرافعة.. الدعوة فعل نهوض واستنهاض؛ وسعي حضور وشهود؛ والاستجابة هي فعل الجواب الناهض والفاعل.
"لِمَا يُحْيِيكُمْ".. إنها دعوة الإحياء بالحق وعلى الحق وللحق؛ هي دعوة مقتضى أن تكون حيا بحق؛ فاعلا مؤثرا بحق، إنها حياة الكرامة والعزة وفق مقتضى القانون الإلهي في التكريم، "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (الإسراء: 70)، مقتضى التكريم الذي لا يذل فيه الإنسان فيخضع ويخنع؛ ولا يتجبر ويتكبر فيستغني ويطغى. وللإحياء أوعية كثيرة تطال كل مساحات الحياة ومناحيها، ولعل معاني الإحياء الحضاري وشمولها؛ وكمالها واكتمالها؛ لا تقتصر على باب مشهور من مثل إحياء التراث بالتحقيق والتدقيق، فهو باب صلة المسلمين بتراثهم وهو لعمري مهمة عظيمة وجليلة، ولكن الإحياء للتراث لا يتوقف عند أبواب التحقيق والتدقيق بل إنه يتواصل ضمن أبواب الاستثمار والتوظيف، والإحياء الحضاري لا يتوقف عند باب التراث على قيمته، بل هو يتطرق إلى كافة مستويات الإحياء الشامل والمتكامل والمستدام لكل ما يقيم حياة الناس ويسهم في إحيائهم فكرا وحركة وعيا وسعيا قدرة وفاعلية.
وفي آية الخروج والانبعاث: "وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُو مَعَ الْقَاعِدِينَ" (التوبة: 46) كما هي آية الإحياء؛ مدركات ومعان وقف عليها الدكتور محمود النفار في رؤية حضارية شاملة ومتكاملة في بحث "الإمداد الفكري والإعداد الحضاري في ضوء معركة الطوفان: آفاق وأدوار"؛ ألقاه في ندوة توقف الباحث برؤية عميقة ودقيقة في مدارسة تدبرية لمعاني هذه الآية الكريمة، حيث تكشف الآية عن مفهوم جامع نسميه بالانبعاث الحضاري، وهو ثمرة أربعة مفاهيم فرعية: الوعي، فالإرادة، فالإعداد، فالخروج. فالإرادة ثمرة الوعي، والإعداد ثمرة الوعي والإرادة، والخروج ثمرة الوعي والإرادة والإعداد. يقابل الانبعاث مفهوم سلبي يعبر عنه القرآن بالقعود، وهو يشير إلى أربع اختلالات كذلك: اختلال الوعي، واختلال الإرادة، واختلال الإعداد، واختلال الخروج. إن الانبعاث والقعود بحسب الآية رؤيتان، أو فلسفتان، أو نموذجان متقابلان، أو هما نمطا حياة يستوعبان الفكر والحركة في النشاط الإنساني.
في مفتتح هذه الآية ستطل علينا كلمة "وَلَوْ"، وهذه الكلمة في سياق الآية لم تكن إلا تنبيها بحقيقة الوعي والتدبر والفهم والالتفات إلى حقائق الخروج من وضع إلى وضع وتفترض حالة الوعي بمكونات ذلك الخروج، ونقطة البداية فيه. إن مبتدأ المشاريع الجادة الوعي، وإليه الإشارة بقول الله تعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ" (محمد: 19)، فبدأ بالعلم. ونريد بالوعي الحضاري هنا: الإدراك الكلي بوصفه شرطا من شروط البناء المقاوم".
"أَرَادُوا" التي تشير إلى الضلع الثاني يتعلق بالإرادة الحضارية: مجموع البواعث التي تدعو النفس لتحويل العلوم والمعارف إلى نزوع نحو العمل بمقتضى ذلك العلم. إن حظ المقاوم من هذه المعرفة تحولها إلى إرادة، فيما حظ مخالفيها البحث في هذه المعارف لتسويغ التقاعد والتخاذل، وإعلان الهزيمة والاستسلام.
القضية الأولى: اختلال الإرادة هذا ثمرة اختلال الإدراك أو توهم الإدراك: "ابْعَثْ لَنَا مَلِكا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا" (البقرة: 246). وكذلك اختبار الإرادة والعزم وانكشاف الوفاء بالعهد والميثاق: "منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" (الأحزاب: 23)، "الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ" (الرعد: 20).
القضية الثانية: فاعلية الإرادة وإرادة الفاعلية؛ فهذه الإرادة ليست ممكنة فحسب، بل إنها فاعلة وتحقق مكاسب وتثمر إنجازات، وهكذا يدفع الفعل المقاوم المؤمن بالقضاء والقدر والمستجيب للتكليف الإلهي؛ عقيدة الجبرية الذين ينفون إرادة الإنسان، ويستهولون قدرة البشر، ويرون أن الاستعمار والاحتلال قدر لا بد منه.
إن هذه الإرادة ضرب من الغرور في نظر فاقدي الإرادة بسبب اختلال وعيهم أولا، ثم اختلال إرادتهم، وهم باسم الواقعية يسلبون نفوسهم وجيوشهم وشعوبهم إرادتها، بل ويجهدون في أهم ثروة لأي أمة: الإرادة. إن إرادة القتال أعظم أثرا من حمل السلاح، فلا قيمة لسلاح لا إرادة معه، لأنه سيتحول في هذه الحالة كما هو الحال في اللحظة الراهنة إلى سلاح مكدس، كما تحولت المعرفة في المحور الأول إلى معرفة تفضي إلى الاستسلام والبحث عن مسوغاته ومستنداته في النظريات والتجارب والخبرات الإنسانية، "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (الحج: 46).
القضية الثالثة: انتصار الإرادة وإرادة الانتصار. وهنا يترقى الرواد ليؤمنوا بأن هذه الإرادة يمكن الانتصار بها، فهي ليست ممكنة ولا فاعلة فقط، بل يتحقق معها الانتصار، "قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" (الشعراء: 62). هذه الإرادة تحولت إلى عصا موسى عليه السلام وعصا "السنوار". إن فعل الإرادة الحضارية فعل مركب ومعقد تتعدد فيه المشاهد والشواهد؛ تتساند فيه العناصر والمستويات وتتضافر فيه إرادة الإمكان واختبار الإرادة والعزم؛ وإرادة الفاعلية والتأثير.
"الْخُرُوجَ" ليس مجرد كلمة؛ الخروج عمليات كبرى ومشروع استراتيجي وفعل حضاري ممتد يستحضر الإعداد والاستمداد والإمداد وحالة الاستعداد الحضاري الناهض بترجمة النداء القرآني الواسع والممتد، "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ" (الأنفال: 60)؛ إنها ممهدات عملية الخروج والإشارة إلى إمكاناته ومكناته؛ إلى صناعة المكانة على طريق التمكين والتزاماته. الخروج خريطة طريق في مسار التغيير تحدد بداياته كما تعين مقدماته وتشكل مقاصده وغاياته، إنه استحضار لاستراتيجية البناء على الموجود النافع المفعم بالخير، ومحاولة إيجاد المفقود الذي نفتقر إلى وجوده رغم أهمية بل وضرورات حضوره؛ وصولا للمنشود في غاياته القريبة والمنظورة التي تحرك الراكد صوب ارتياد كل مسلك الفاعلية والتجديد؛ بلوغا للمقصود في إقامة دين الله بمقتضى مناهج وطرائق الانبعاث الحضاري.
إن علم الخروج الحضاري هو في مواجهة أزمة أو استجابة لتحدي، أو استشراف لعملية بناء في الحال والاستقبال. الخروج أيضا حالة عقلية جمعية تتبادر من معنى مخاطبة الجميع والجمع والمجتمع والقوم المتعلق بواو الجماعة في "أَرَادُوا"؛ العقلية الكاشفة، العقلية الفارقة، العقلية الناقدة المراجعة، العقلية الإيجابية البانية التي تنصهر لتأسيس عقلية فرقانية ناظمة جامعة رافعة دافعة.
"لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة".. نريد بالإعداد الحضاري والاستعداد الحضاري مجموع الجاهزيات التي تتخذها أمة من الأمم على ثغورها المختلفة بقصد مواجهة التحديات وصد الأخطار على مستوى الوعي والسعي، وفي جميع المجالات الحيوية للأمة والدولة، بما يحفظها ويستبقيها فاعلة وناهضة في العالم. وهي تقوم على ثلاث قضايا:
إن للانبعاث الحضاري شروطا لا ينبغي أن تهمل أو تغفل؛ من العمل الحضاري والفعل الذي يقرن بتسديد الوعي وترشيد السعي، وفعل الإحياء الحضاري وأصول الانبعاث الحضاري هي مشتل التغيير في مسيرة التغيير الحضاري المنشود والمقصود
القضية الأولى: سعة الإعداد مفهوما ونوعا ومجالا وأفقا. الإعداد في سياقه الحضاري لا يقف عند إلقاء المعارف، ولا خلق الإرادات، كما أنه لا ينحصر في بذل الجهد أي جهد، وصرف الطاقة أي طاقة، وجمع الأنصار أي جمع، بل هو تصريف للطاقة وتدبير للموارد وترتيب للعمل بمنهجيات تستوعب طاقة الأمة وإبداعاتها. الإعداد المنشود في السياق الفكري يعني بناء الأطر الفكرية الجامعة، ومأسسة المعرفة المتعلقة بدراسة الاحتلال ومنظومته الداعمة وقراءة في عقلهم الإستراتيجي بعقل إستراتيجي مقابل ومضاد. إن تعيين ثغور المرابطة المعرفية مهم للغاية من خلال تخصصات متنوعة وسياقات مختلفة ومتآزرة تصدر عن عقل استراتيجي.
القضية الثانية: محاضن مجتمعية ناهضة وعلى رأسها الأسرة بوصفها مستودعا ومستوى من مستويات الإعداد.
القضية الثالثة: التكافؤ في الإعداد، فالأنشطة لا تكفي في مواجهة مشروع، بل لا بد أن نحدث لكل فجور جهادا خاصا (تحدث للناس أقضية بمقدار ما أحدثوا من فجور)، ولا بد أن يفي الإعداد المنشود لسقف المقاومة، ولسقف الجريمة في الجهة الأخرى، ولسقف التحديات المختلفة. تلك الإضاءات التدبرية للدكتور النفار مع تصرف يسير حول آية الانبعاث، وكذا خواطرنا حول آية الإحياء تشكل مدخلا مهما في التعرف على معاني الإحياء الحضاري ومغازي الانبعاث الحضاري.
إنها عملية الخروج وثمرتها القائمة على العلم الممزوج بالعمل؛ العلم النافع هو الذي يتحول إلى عمل نافع مثمر، أما العلم الضار فلا يتحول إلا إلى عمل خبيث، "لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالا" (التوبة: 47). وكذلك الثبات هو انعكاس للاستراتيجية، إن الثبات رغم التحديات هو ثمرة إيمان عميقة واستراتيجية راسخة.
إن للانبعاث الحضاري شروطا لا ينبغي أن تهمل أو تغفل؛ من العمل الحضاري والفعل الذي يقرن بتسديد الوعي وترشيد السعي، وفعل الإحياء الحضاري وأصول الانبعاث الحضاري هي مشتل التغيير في مسيرة التغيير الحضاري المنشود والمقصود؛ هذا ما تعلمنا الآيات القرآنية التي كانت مجال اهتمام هذا المقال، ولعلنا نتبعه بمزيد من تدبر حول الإحياء والانبعاث.
x.com/Saif_abdelfatah