المحكمة الجنائية الدولية شاهد على قبر النظام الدولي

السفير الصادق المقلي

( أ )… تطور العدالة الجنائية الدولية.

 ( ب) حرب ابريل والمساءلة الجنائية الدولية.

قدم كريم خان المدعي العام أمس السادس من اغسطس الجاري تقرير المحكمة رقم 39 الى مجلس الأمن.. والذي تحدث فيه عن الانتهاكات إبان هذه الحرب العبثية للقانون الدولي الإنساني ولجرائم ارتكبت من كلا طرفي النزاع ترقى الى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

. وهي احدى الجرائم الاربع المنصوص عليها في ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية..

وكما تناول مدى تعاون الحكومة فيما يتعلق بتسليم البشير ورفاقه ممن صدرت في حقهم مذكرات توقيف دولية.. من جهة وعن تحقيقات الحكومة فيما يتعلق بانتهاكات القانون الدولي الإنساني اثناء هذه الحرب العبثية..

فقبل الحديث عن انعقاد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على مواطني  السودان…

لا بد من  القاء بعض الضوء على تطور العدالة الجنائية الدولية وتتويجها  بإجازة ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية في عام 1998… ومن ثم دخول الميثاق حيز النفاذ عام 2002..

ومن ثم نعرج في الجزء الثاني من المقال على ما يلي السودان في هذا السياق..

في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية راودت منظمة الأمم المتحدة فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة والعمل على إحداث آليات تعاقدية تعنى بحقوق الإنسان الأساسية وبالقانون الدولي الإنساني الذى يعنى بالحروب والنزاعات فى العالم… الفكرة ولدت من رحم فظائع الحروب العالمية التى راح ضحيتها عشرات الملايين في أوربا و أصاب العديد من المنشآت الدمار و الخراب الذي تم درؤه فيما بعد من بفضل المبادرة الأمريكية المعروفة بخطة مارشال.. فكانت أولى هذه الآليات التعاقدية الملزمة للدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة.. الإعلان العالمى لحقوق الانسان و اتفاقية منع الإبادة الجماعية و كلاهما فى عام ١٩٤٨… ومن بعد ذلك اتفاقيات جنيف الأربع عام 1949 و التى الحق بها فيما بعد البروتوكولات الإضافية الثلاث  الاول والثاني عام 1977، تعنى بشئون جرحى و أسرى الحروب… والثالث عام 2005، الخاص بإضافة إشارة اضافية.. كريستالة تضاف لشارتي الصليب الأحمر والهلال الأحمر..

وقد انبثقت من اتفاقية منع الإبادة الجماعية  لعام 1948 هذه فكرة إنشاء محكمة جنايات دولية دائمة كلفت بها لجنة القانون الدولي. كنقلة نوعية فى تطور العدالة الدولية…

بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها تم من قبل الحلفاء تشكيل محكمتي  نورنبرغ في المانيا عام  1945 لمحاكمة الضباط النازيين و محكمة طوكيو عام 1946..وهي محاكم عسكرية ايجازية حيث كان الحلفاء هم الخصم و الحكم. The court of the victors..محكمة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية ضد المنهزمين..

ظروف الحرب الباردة عطلت من عمل لجنه القانون الدولي حتى نهايتها فى عام 1990.. عند سقوط الرايخ الثالث و استسلام ألمانيا… و شهدت الفترة  إندلاع حروب تمت فيها أبادة جماعية فى يوغسلافيا ١٩٩٣ و رواندا عام ١٩٩٤ دفعت مجلس الأمن الدولي إلى إنشاء محكمة خاصة ليوغسلافيا فى لاهاى و أخرى لرواندا فى اروشا كمحاكم غير دائمة…

واستأنفت لجنة القانون الدولي من بعد ذلك عملها في إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة… وبالفعل عقدت اللجنة ست اجتماعات تمهيدية Prepcoms… أعقبها  مؤتمر روما عام ١٩٩٨ للدول الاعضاء في الامم المتحدة.. و الذي تمخض فى الاول من يوليو ١٩٩٨ عن اجازة ميثاق روما بأغلبية ١٢٠ دولة و معارضة  سبع دول من بينها الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل. و امتناع ٢١ دولة عن التصويت..

(ب) تسييس العدالة الجنائية الدولية.

في اعتقادي أن إقحام مجلس الأمن في ترتيبات المحكمة الجنائية الدولية فيه تسييس للعدالة الدولية. اذ ان المادة الخاصة بالتصويت 27 في ميثاق الأمم المتحدة تحصن الدول دائمة العضوية في في مجلس الأمن ضد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية..إذ نصت علي ضرورة الحصول على موافقة كل الدول دائمة العضوية علي اي قرار يصدر من مجلس الأمن و عدم اعمال اي منها لحق النقض الفيتو ..و لذلك تم تحصين حليفة امريكا اسرائيل إذ لم يمر تقرير قولدن استون .. من جنوب افريقيا.رئيس اللجنة الدولية للتحقيق في غزو و حصار إسرائيل لقطاع غزة في عام 2009,,حيث اصطدم عرض التقرير علي مجلس الأمن بسبب الفيتو الأمريكي رغم أنه اشتمل على جرائم ضد الإنسانية و جرائم حرب في حق إسرائيل و توصية بالإحالة الي المحكمة الجنائية الدولية كما حدث في حالة دارفور لأن اسرائيل ليست طرفا في ميثاق روما.و لعل تصويت كل من روسيا و الصين بالامتناع  علي القرار 1593 لعام 2005  الذي احال الوضع في دارفور لاهاي، ادي الي تمرير القرار… وما اعقب ذلك عام 2009 الي اصدار مذكرة التوقيف الدولية في حق البشير و رفاقه..

الولايات المتحده الامريكيه لا تعترف اصلا بالمحكمة الجنائية الدولية. حيث بعد أن وقعت علي ميثاق روما، TC ، في إدارة بوش الجمهوريه  سحبت توقيعها في عهد كلنتون الديمقراطي…….

بل إن الولايات المتحدة الأمريكية عملت علي تحصين مواطنيها ضد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية حتي قبل  ٱنعقاد مؤتمر روما 1998 .. حيث خاطب رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الأمريكي رئيس وفد بلاده  ،،،قائلا..إن  انشاء اي محكمة  جنائية دولية دائمة في غياب فيتو امريكي سوف يصطدم برفض  لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي….

Any establiment of a permanent international court without a clear US Veto will be dead on arrival at the Senate Foreign Relations Committee

وهذا لعمري أحد أهم عوار النظام الدولي.. one of the main flaws in the international system..

ومرة أخرى حصنت واشنطن مواطنيها و حلفاءها ضد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية باستصدارها قرار مجلس الأمن 1422لعام 2002,اى بعد أيام قلائل من دخول الميثاق حيز النفاذ. و ذلك في ابتزاز للمجتمع الدولي حيث كان يومها تمديد بعثة حفظ السلام في البوسنة والهرسك … حيث هددت واشنطن بإيقاف مساهماتها في تمويل بعثات حفظ السلام.

..ولذلك فإن واشنطن تأخذ القانون الدولي ..كما تأخذ المؤسسات المالية الدولية بيدها.. شاء من شاء و أبي  من أبي … ولا غرو فالولايات المتحدة الأمريكية لا تعترف بوجودية  ما يسمى بالمجتمع الدولي… وذلك ما تجلي في تصريح لوزير الخارجية الأسبق  قونزاليزا رايس ..I quote. ( The foreign policy of the USA proceeds from the firm interests of the USA and not from the interests of an illusory international community…

فضلا عن أن هناك اتهامات و انتقادات طالت المحكمة من حيث تسييسها باقتحام مجلس الأمن في إجراءاتها و بحصر ملاحقاتها القضائية بصفة عامة في افريقيا… حيث تعالت الأصوات في داخل الاتحاد الافريقي بالانسحاب منها ..و من حيث غضها النظر عن  القادة في امريكا و اوروبا من شاركت بلدانهم في حروب خارجية ارتكب فيها جنودهم جرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية ،كما هو الحال لتوني بلير و بوش هو لحقوق الإنسان و للقانون الدولي الإنساني في سجون ابوغريب في العراق و معتقل غوانتانامو… كما أن المحكمة تفتقر إلى آليات ملاحقة للجناة و تعتمد في تمويلها علي الدول الأطراف.. فضلا عن أن دولا تشكل ثلثي دول العالم مثل الصين و روسيا و الهند و امريكا و اندونيسيا ليست بأطراف في ميثاق روما المؤسس لهذه اى الدولية..و دونكم الكثير من مذكرات التوقيف الدولية التي ظلت حبيسة الإدراج.

لكن تبقي الحقيقة أن المحكمة الجنائية الدولية مهيضة الجناح إذ تعتمد فقط علي تعاون الحكومات لتأدية مهامها في تحقيق عدالة منقوصة …فقد فقدت فعاليتها أن لم يكن السبب في وجودها… إذ ظلت ضحية لنظام دولي أسس بناينه علي الانتقائية و ازواجية المعايير.. بتسيس هذه العدالة باقحام مجلس الأمن في ترتيباتها… الأمر الذي جعل الدول الخمسة الاعضاء و حلفاءها محصنة ضد انعقاد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية علي مواطنيها ..و خير مثال لذلك أعمال امريكا لحق الفيتو ضد ملاحقة للمحكمة الجنائية الدولية لمواطنيها..بل وصل بها الحد لاصدار عقوبات ضد قيادة هذه المحكمة الجنائية الدولية..!! حيث اسقطت كافة مشاريع القرار و التقارير الدولية عن الانتهاكات الجسيمة و الممنهجة من قبل إسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة وبصفة خاصة في غزة والتي ترقي الي جرائم إبادة جماعية…

وكذاك الحال بالنسبة لسوريا و أوكرانيا…حيث دأبت روسيا علي إسقاط اي قرار ضدها أو ضد سوريا..

ولعل غزة الجريحة اليوم تقف شاهدا علي قبر النظام الدولي..

لكن رغم كل ذلك…. فإن عدم الإفلات من العقاب هو مطلب لدى كل الشعوب.. كما أن افلات بعض الدول عن العقاب وعن انعقاد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية علي مواطنيها… إذ تروض القانون الدولي وفق مصالحها و مصالح حلفائها..لا يبرر ارتكاب الاخرين لجرائم الحرب.

ولذلك كتب علي الدول المستضعفة أن يظل سيف المحكمة الجنائية الدولية مسلطا علي مواطنيها.. فمنذ انشاء المحكمة لم يستهدف من قبلها سوى أشخاص من العالم الثالث و خاصة مواطنى القارة الأفريقية.

في الجزء التالي من المقال.. نتحدث عن المساءلة الجنائية الدولية والاتهامات من قبل المنظمات الدولية و بعض الدول حول الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني و في ظل هذه الحرب العبثية..و كيف أن ليس من المستبعد أن تلاحق المحكمة الجنائية الدولية السودان.. وإمكانية أن تؤدي هذه الكارثة الإنسانية الى تدخل اممي سواء من مجلس أو من المحكمة الجنائية الدولية في حالة فشل كل المبادرات الرامية الى تحقيق حل سلمي تفاوضي يوفر فرصة للحيلولة دون انهيار الدولة..

الوسومإسرائيل السفير الصادق المقلي السودان الصين المحكمة الجنائية الدولية حرب ابريل 2023م دارفور روسيا غزة لاهاي ميثاق روما

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: إسرائيل السودان الصين المحكمة الجنائية الدولية حرب ابريل 2023م دارفور روسيا غزة لاهاي اختصاص المحکمة الجنائیة الدولیة الدولی الإنسانی القانون الدولی النظام الدولی إنشاء محکمة دولیة دائمة الدولیة فی مجلس الأمن فی میثاق من قبل

إقرأ أيضاً:

روسيا تصدر أحكاماً بالسجن بحق «المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية»!

أصدرت محكمة في موسكو حكمًا غيابيًا بالسجن خمسة عشر عامًا بحق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، وفرضت أحكامًا متفاوتة بالسجن على ثمانية قضاة آخرين يعملون في المحكمة، وذلك وفق ما أفاد به المكتب الإعلامي للنيابة العامة الروسية يوم الجمعة.

وانتهت المحكمة إلى إدانتهم بموجب مواد في القانون الجنائي الروسي تتعلق بملاحقة جنائية لشخص بريء، واحتجاز غير قانوني، والتحضير لاعتداء على أشخاص أو مؤسسات تتمتع بحماية دولية أو التهديد بتنفيذ هذا الاعتداء.

وأوضحت النيابة العامة الروسية أن الحكم الصادر بحق المدعي العام كريم خان يقضي بقضاء تسع سنوات من عقوبته داخل السجن، بينما تُنفّذ السنوات المتبقية داخل إصلاحية شديدة النظام. وذكرت أن أحكام السجن الصادرة بحق القضاة الآخرين تراوحت بين ثلاث سنوات ونصف وخمسة عشر عامًا، تبعًا لخطورة الاتهامات التي نسبت إلى كل منهم.

وأعلنت لجنة التحقيق الروسية الشهر الماضي انتهاء التحقيق في القضية الجنائية المتعلقة بالقضاة والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، الذين تتهمهم موسكو بانتهاك القانون الروسي عبر ملاحقة مواطنين روس بشكل غير قانوني.

ورفعت لجنة التحقيق الروسية القضية ضد المدعي العام كريم أحمد خان وقضاة المحكمة في أعقاب إصدار المحكمة الجنائية الدولية في مارس 2023 مذكرة اعتقال بحق الرئيس فلاديمير بوتين وبحق مفوضة حقوق الطفل الروسية ماريا لفوفا بيلوفا، استنادًا إلى اتهامات تصفها موسكو بالمفبركة والمتصلة بنقل أطفال من منطقة دونباس.

وفي تطور منفصل قبل أيام، أكدت المحكمة الجنائية الدولية أن مذكرة اعتقال بوتين تبقى سارية حتى في حال التوصل إلى اتفاق سلام في أوكرانيا، وأشارت إلى أن مجلس الأمن الدولي يستطيع أن يطلب تأجيل الإجراءات عند وجود مسار تفاوضي، إلا أن هذا التأجيل يظل مؤقتًا.

ويواصل الكرملين التأكيد أنه لا يعترف بالولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية، ويصف المذكرة الصادرة بحق الرئيس فلاديمير بوتين بأنها لاغية وباطلة.

وبدأ الخلاف القانوني بين موسكو والمحكمة الجنائية الدولية منذ إصدار مذكرة الاعتقال في مارس 2023، ما دفع السلطات الروسية إلى فتح مسار قانوني مضاد واستصدار مذكرات توقيف وأحكام غيابية بحق مسؤولين في المحكمة، ويأتي ذلك ضمن سياق التوتر المستمر بين روسيا والغرب منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في فبراير 2022.

مقالات مشابهة

  • بريطانيا المنافقة تتحرّش بـ"الجنائية الدولية" لحماية نتنياهو
  • فنزويلا تنسحب من «المحكمة الجنائية الدولية».. آخر تطورات التوتر مع أمريكا!
  • كاتب سعودي يطالب بإحالة جرائم الإنتقالي بحضرموت إلى الجنائية الدولية
  • محكمة روسية تعاقب كريم خان وقضاة في الجنائية الدولية
  • بريطانيا تهدد الجنائية الدولية بالانسحاب وقطع التمويل بسبب نتنياهو
  • مدعي الجنائية الدولية: بريطانيا هددت بقطع التمويل لمنع توقيف نتنياهو
  • بريطانيا تهدد المحكمة الجنائية الدولية بالانسحاب وقطع التمويل إذا صدرت مذكرة توقيف ضد نتنياهو
  • روسيا تصدر أحكاماً بالسجن بحق «المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية»!
  • ألمانيا تَطعن المحكمة الجنائية الدولية
  • ترامب يعين جنرالًا أمريكيًا لقيادة قوات الأمن الدولية في غزة