الكتابة في زمن الحرب (36): بعيد من الخوف قريب من الأمل
تاريخ النشر: 13th, August 2024 GMT
“ لا أنت بعيد فأنتظرك
ولا أنت قريب فألقاك
ولا أنت لي فيطمئن قلبي
ولا أنا محرومٌ منك لأنساك
أنت في منتصف كل شيء "
محمود درويش
مقدمة
يقول عبد الوهاب مطاوع: “أكبر أخطائنا في حق أنفسنا، هو القلق والاستسلام للاكتئاب والشعور بالإحباط”. في زمن الحرب، يبدو أن الخوف يحيط بنا من كل جانب، لكن علينا أن نتذكر الأمل كضوء يهدينا للخروج من دائرة الشر التي يمثّلها الخوف.
الخوف وتأثيره:
يعد الخوف من أقوى العواطف الإنسانية وأكثرها تأثيرًا على حياتنا. وهو يأخذ أشكالاً متعددة مثل الخوف من الرفض، الخوف من الفشل، وحتى الخوف من المجهول. هذه المخاوف يمكن أن تعيق تحقيق إمكاناتنا وتمنعنا من استكشاف ما نرغب في تحقيقه. لكن التحرر من الخوف هو الخطوة الأولى نحو الحرية والانطلاق.
الكتابة كفعل مقاومة:
في ظل الحروب، تصبح الكتابة أكثر من مجرد كلمات تُخط على الورق، بل تتحول إلى فعل مقاومة وصمود. تكتب الكلمات تاريخ الشعوب ومعاناتهم وآمالهم، وتساهم في إبقاء شعلة الإنسانية مضيئة وسط الدمار. الكتابة تمنح الناس صوتًا عندما تُخرس الأسلحة كل الأصوات، وتكون أداة للتعبير عن الألم والأمل في آن واحد..استوقفتني هنا كلمات للكاتب رامي أبو شهاب حين قال: “تبقى الكتابة جزءاً من المعضلة، فهل يمكن الكتابة في زمن الحرب؟ السؤال هنا معني بقدرة الإنسان على أن يتجاوز هذه الحرب كي يكتب عن رواية، أو فيلم، أو عن الحب مثلاً. لا تبدو الكتابة في هذا الزمن سوى رفاهية، نعم إنها رفاهية نخجل منها.”
الكتابة كوسيلة للتواصل والتوثيق:
من خلال الكتابة، يمكن للإنسان أن يخرج من قوقعة خوفه ويعبر عن مشاعره وأفكاره بحرية. إنها وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي، لنقل الحقائق وتوثيق الجرائم، ولإيصال رسائل السلام والأمل. الكتابة تجمع بين الناس رغم اختلافاتهم وتفتح أبوابًا جديدة للفهم والتعاطف.
في زمن الحرب، قد تُطمَس الحقيقة تماماً وتُخرَس الأصوات، لكن الكتابة تبقى شاهدةً على الأحداث، تحفظ ذاكرة الأجيال وتروي قصص الصمود والإصرار. إنها ليست مجرد كلمات، بل هي نبضات قلوب وأرواح تنبض بالحياة.
قوة الكتابة في زمن الحرب:
تتجلى قوة الكتابة في قدرتها على خلق روابط عميقة بين الكاتب والقارئ، بين الماضي والحاضر، وبين الأمل واليأس. هي وسيلة لتفريغ الألم والقلق، ولمشاركة الأحلام والرؤى. عبر الكتابة، يمكن للإنسان أن يجد معنى جديدًا لحياته ويعيد بناء نفسه، حتى وسط الفوضى والدمار.
الكتابة تُعتبر وسيلة لتعليم الأجيال القادمة عن التحديات التي واجهها السابقون، ولتذكيرهم بأن الأمل دائمًا موجود حتى في أحلك الظروف. إنها ترسم صورة مشرقة لمستقبل أفضل، وتلهم الناس للعمل من أجل تحقيق السلام والعدالة.
الخاتمة:
علينا أن نستمر في الكتابة، نكتب للأجيال القادمة، نكتب لكي لا تُنسى قصصنا، ولكي نظل قريبين من الأمل رغم كل شيء. فالكتابة في زمن الحرب هي شعلة تنير الظلام، وتحيي الأمل في غدٍ أفضل. إنها ليست مجرد توثيق للأحداث، بل هي أيضًا رحلة لاكتشاف الذات وإعادة بناء الروح. دعونا نحلم ونتجاوز الألم، ونستمر في الإيمان بأن الغد يحمل في طياته إمكانيات لا حصر لها، وختاماً علينا أن نكون أقوياء في مواجهة الصعاب ونتعلم أن الخير يكمن فينا، والأمل حتماً سيأتي وإن تأخر قطاره. الكتابة هي جسرنا إلى الأمل، ووسيلتنا لتحدي الخوف، ولنواصل السير نحو غدٍ أفضل.
عثمان يوسف خليل
المملكة المتحدة
osmanyousif1@icloud.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الکتابة فی زمن الحرب الکتابة ت الخوف من
إقرأ أيضاً:
من الإهداء إلى القارئ.. تمثلات المعاناة النسائية في «صديقة الأمل»
تعد مجموعة «صديقة الأمل» أول إصدارات الكاتبة وداد الإسطنبولي فـي القصة القصيرة. صدرت الطبعة الأولى فـي عام 2024 عن «دار الآن ناشرون وموزعون فـي الأردن»، وتضمنت تسع عشرة قصة، من أبرز عناوينها: «اختاري الأسود، خور روري، استنزاف، أمل، بعثرة، خربشات، لمن القبعة؟، خيانة، دهشة، أحمد، حب وضياع، العروس والحلي، الأطلال، صانع سفن، صانعة المصافات، صانع حلوى، أمي ترضع عنزًا، صندوق الأسرار، والمجمر». تسعى هذه المقالة إلى تحليل الأبعاد التفاعلية فـي العتبات النصية، وتفكيك تمثلات المعاناة النسائية فـي القصص.
فـي العتبات النصية يتمحور الخطاب حول الذات والقارئ. ينفتح الغلاف على رمزية الأمل بوصفه طاقة داخلية تنبثق من الذات، لا مجرد فكرة مستحضرة من الخارج. تتجسد هذه الفكرة بصريًا من خلال تصميم الغلاف، الذي يوظف عناصر كالفراشات بوصفها رمزًا للتحول والقوة الناعمة، وهو ما تنسجه الكاتبة لاحقًا فـي المتن السردي، كما فـي قصة «استنزاف»، حيث تقول البطلة: «الآن أنت تعلمين وجهتكِ، وخطواتكِ... غربت شمسٌ، وأشرقت شمسٌ أخرى»، أو فـي قصة «صندوق الأسرار»، حين تقول رحاب: «لم يكن الطلاق بالنسبة لي فشلًا، وإنما كان طاقة دفعتني إلى إثبات وجودي».
يلفت الانتباه أيضًا الإهداء الذي تصدرت به الكاتبة مجموعتها: «... إلى ذاتي، إلى صديقة الأمل، أقف قليلا هنا وينحني القلم، ويتوقف الكلام. إليها صديقة الأمل، ذاتي البهية المشبعة بالطموح والأمل، المؤمنة بالفجر...». فـي هذا النص القصير، تعيد الكاتبة تعريف ذاتها بصفتها «صديقة الأمل»، ما يدل على انقسام الذات بين «أنا» كاتبة موجِّهة، و«ذات» مؤمنة، حَالِمة، تتلقى الإهداء. تؤسس هذه الصيغة لإطار وجداني يستبق النصوص، وتمنح المتلقي مفاتيح شعورية مسبقة.
ولتعزيز هذا البعد التواصلي، تُفرد الكاتبة صفحة كاملة للقراء تقول فـيها التالي: «عزيزي القارئ... اغتنم هذا الكتاب واجعله صديقًا، وستشعر بدفء كلماته». يوحي هذا الخطاب برغبة واضحة فـي كسر الحاجز النفسي بين النص والمتلقي، من خلال التماس علاقة وجدانية مباشرة، هي فـي حقيقتها نوع من التعاقد العاطفـي، لا الإيهامي فقط، كما هو الحال فـي بعض النصوص الحداثية. إن محاولة بناء علاقة مع القراء قائمة على كسر الحاجز النفسي بين القارئ والنص، هي غاية مهمة، والكاتبة تهدف من خلال هذا إلى تكوين صداقة معهم، مهما كان مستوى ما جاء فـي المجموعة من اختلال أو ضعف. إن الخطاب الموجه إلى القارئ يؤشر على وجود مسبق فـي تأسيس ميثاق بطريق غير مباشرة لاستدرار تعاطفه، لا من موقع الضعف، بل من موقع مغامرة الذات الكاتبة خوض كتابة القصة والمكاشفة والتقدير الذاتي.
الناظر فـي قصص المجموعة يجد تميزها فـي تنوّع تمثلات المعاناة النسائية وتباين الموضوعات. يمكن تصنيفها إلى ثلاثة محاور رئيسية:-
أولا: قصص الموروث الثقافـي المادي فـي ظفار: من بينها «العروس والحلي، صانع سفن، صانعة المصافات، صانع حلوى، والمجمر». تعكس هذه القصص اهتمام الكاتبة بتوثيق الحياة التقليدية والحِرَف الصناعية المرتبطة بالمرأة والمجتمع المحلي، لكنها لا تتجاوز البعد التوثيقي فـي كثير من الأحيان إلى بناء حبكة سردية عميقة.
ثانيا: قصص اجتماعية ذات منحى نسوي واضح: مثل «اختاري الأسود» التي تتناول معاناة الأرامل، و«استنزاف» فـي تصوير الخيانة الزوجية، «حب وضياع» فـي تمثيل الصراع بين الأجيال، و«صندوق الأسرار» التي تسلط الضوء على ظاهرة الطلاق وعبء الأمومة بعد غياب الأب. تتسم هذه القصص بحساسية عالية تجاه قضايا النساء، لكنها تعاني أحيانًا من المباشرة، حيث تطغى الرسالة على البناء الفني.
ثالثا: قصص تأملية وجدانية: تميل بعض القصص إلى اللغة الوجدانية القريبة من المقالات الأدبية، كما فـي «بعثرة» و«خربشات». فـي هذه النصوص، تبرز المجازية العالية، وتغيب عناصر البنية القصصية المحكمة، مما يضعف من فاعليتها الفنية.
سأتوقف عند قراءة معمقة فـي قصة «أمي ترضع عنزًا». تُعد هذه القصة من أبرز القصص التي تجمع بين الصدمة فـي العنوان، وفـي الحمولة الرمزية، والطرح الاجتماعي الناقد. تروي القصة معاناة امرأة أرملة تضطر للعمل فـي مهن شاقة لإعالة أبنائها. حيث تعمل خيّاطة.. وخادمة فـي المنازل.. وبائعة أغراض.. وحلاّبة فـي حظيرة. فـي لحظة محورية، يُهدي صاحب المزرعة الأم عنزة مريضة فاقدة لأمها، وتعتني بها كأنها ابنتها، بل تُرضعها، وعدَّها أبناؤها أختهم من الرضاعة ما يثير غيرة ابنها عمر، الذي يقدم فـي النهاية على ذبحها بدافع الجوع. تكتب الكاتبة على لسان عمر: «... أصبحتُ ككلب مسعور لم يذُق اللحم منذ فترة طويلة. سال لعابي، «...» نعم ذبحت العنزة وشرختها...». تصل أمه وتقف وراء ظهره، فالتفتَ بسرعة إليها لتنفرج عيناه وهي تستلقي شاحبة بلا حراك، ودمعة حارقة تقف عند مدمع عينيها.
قال: مرتبكا: «مصيرها يوما سيكون الذبح، شئنا أم أبينا».
ينتهي النص بصدمة موت الأم وترك أثر وجداني عميق. إن العنوان يعمل على أكثر من مستوى: يثير فضول القارئ، ويصدمه، ثم يكشف تدريجيًا عن بنية اجتماعية قاسية. المشهد الذي تُمسك فـيه الأم بالعنزة وتُرضعها، ليس مشهد شفقة، بل هو إعلان عن علاقة بديلة للأمومة، نابعة من فقر الحرمان والحنين إلى الأنثى الغائبة «الطفلة». القصة توازن بين اللغة الشاعرية والبنية الدرامية، وتشكل مثالًا ناضجًا فـي المجموعة.
تكشف مجموعة «صديقة الأمل» أن وداد الإسطنبولي تملك طاقة شعورية عالية، وهمًّا إنسانيًا واضحًا، خاصة فـي تمثيلها لمعاناة النساء فـي مجتمع محلي متغير. ومع أن المجموعة لا تخلو من مواطن ضعف بنيوي فـي قصص كثيرة؛ كالاعتماد على بنية المقالة الإنشائية، أو غلبة الرسالة على الحكاية، واللغة التقريرية على السرد، إلا أنها تؤسس لصوت قصصي واعد. وقد تكون الخطوة القادمة فـي تجربة الكاتبة هي تعميق البناء الفني، دون أن تتخلى عن صلتها الصادقة بالذات والقارئ، وهي السمة الأبرز فـي هذه المجموعة.