الجزيرة:
2025-08-02@22:01:12 GMT

كيف يتحرر المسلمون من سيطرة الغرب؟

تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT

كيف يتحرر المسلمون من سيطرة الغرب؟

أمام هول ما يقع في فلسطين من إبادة جماعية ومجازر بمباركة الأنظمة الغربية الرسمية، وعجز المجتمع الدولي والنظام العربي الإسلامي، تتوالد الأسئلة وتتكاثر في عقول ونفوس العرب والمسلمين. تتراوح هذه الأسئلة بين ما هو عام يتعلّق بتاريخ الصراع بين العالم العربي الإسلامي والعالم الغربي، وما هو وجودي يتعلّق بالعلاقات بين الذات والغير، وما هو سياسيّ يتعلق بما يجب فعله أو تركه في هذه اللحظات الحرجة من التاريخ.

من بين الأسئلة التي تفرض نفسها في هذه اللحظات العصيبة السؤال الذي طالما أرّق المفكرين والباحثين على امتداد القرن العشرين: كيف يمكننا كسر طوق الغرب المضروب حولنا؟ قد يبدو هذا السؤال أقرب إلى التجريد الفكري المنفصل عن الواقع، منه إلى الأسئلة العملية التي تتطلب تعيين سبل الفعل والعمل لمواجهة معاناة الأطفال الذين يتضوّرون جوعًا جراء الحصار.

يرى البعض أنّ مثل هذه الأسئلة الفكرية قد تعطل المقاومة على الأرض. وهذا قد يصحّ من بعض الوجوه، حيث إن الأسئلة الفكرية بطبيعتها متعلقة بالماضي والمستقبل، بمسببات الأحداث ومآلاتها، أكثر من تعلقها بتدبير الواقع السياسي واللحظة التاريخية الراهنة.

فالسؤال الفكري يستوضح الأسباب التي أفضت إلى تشكيل الواقع، ثم الأسباب التي قد تفضي إلى تغييره مستقبلًا. ولعل القاسم المشترك بين من ينشغلون بالإجابة عن هذا السؤال، هو أنّهم ينقلون الصراع من العالم الحقيقي المنظور، عالم الأعيان، إلى عالم الأذهان. وكثيرٌ من الناس يعجزون عن ربط عالم الأشياء بعالم الأفكار، ومن ثم يصعب عليهم ربط السؤال الفكري بالأسئلة المتعلقة بالواقع المرئي.

ومع ذلك، يظل السؤال الفكري مشروعًا وذا صلة بما يحدث. صحيح أن التقارير الإخبارية والتحليلات الصحفية تساهم في نقل ما يقع وتقريب حقيقته، لكن هذه التقارير لا ترقى إلى مستوى الإجابة عن الأسئلة الجوهرية التي تتطلب أخْذَ مسافة نقدية ونَفَس تحليلي وعمق فكري. هذه التقارير تظلّ مشدودة إلى الزمن السياسي وتقلباته، مما قد يصرف المتلقي عن الالتفات إلى أبعاد الصراع الوجودية والنفسية والعقدية والتاريخية والحضارية والثقافية.

حين نعمّق النظر في السؤال الفكري المتعلق بكيفية كسر طوق الغرب، نجد أنّ النخب التي عنيت بالإجابة عنه على امتداد القرن العشرين، قد انقسمت إلى فئتين متباينتين: فئة تنشد الالتزام بمقتضيات العقل والعقلانية الغربية وسيلةً لمناهضة الغرب ومجابهته؛ وفئة أخرى تنشد العودة إلى التراث العربي الإسلامي والأخذ بمنظومته التفسيرية وسيلةً لاستئناف دورة الحضارة الإسلامية استئنافًا يُمكّن من إثبات الذات في عالم تحكمه القوة. وكلتا الفئتين، كما نرى، تربط تحقق المبتغى، أي التخلص من قبضة الغرب، بشيء غير قائم في الواقع.

السؤال الفكري يستوضح الأسباب التي أفضت إلى تشكيل الواقع ثم الأسباب التي قد تفضي إلى تغييره مستقبلًا، مما يجعله ذا صلة بما يحدث

عند النظر في الموقفين الفكريَين نجد أن كليهما، على اختلاف منطلقاتهما الأيديولوجية، يؤجل الحسم في الصراع مع الغرب إلى المستقبل، إلى زمن تكتمل فيه الشروط اللازمة لتحصيل القوة الضرورية والأسباب الموضوعية لتحقيق الانتصار.

لقد تحول كل موقف إلى مشروع نهوض، يقوم إما على نقد التراث والعقل العربيين الإسلاميّين، أو على نقد الحداثة والعقل الغربيّين. وكلا المشروعين يصدر عن نفس المُسَلّمة العقلية التي تفترض تجانس موضوع النقد، سواء كان التراث أو الحداثة. فمنتقد التراث يجمده في صورة تختزل ماهيته وكأنه شيء لا يتحرك، مثل منتقد الحداثة الذي يجمدها في صورة تختزل ماهيتها في شيء ثابت لا يتغير. ولكن الواقع أن التراث والحداثة على حد سواء يظلان معطيَين تاريخيين بالأساس، قبل أن يكونا مقولتين جامدتين يمكن حدهما عقلًا.

اليوم، يبدو أن أصحاب مشاريع النهوض القائمة على نقد التراث أو الحداثة لم يسلموا من الوقوع في آفة الشمولية العقلية التي أسّس لها فلاسفة اليونان الأوائل، وعلى رأسهم أرسطو. فهم يصدرون عن اعتقاد عقلي راسخ في إمكانية تجميد الواقع في الذهن، ثم تحديد ماهية الأشياء، ثم إعادة ترتيب العلاقة بينها، قبل أن يعيدوا تحريك هذا الواقع من جديد.

فصاحب مشروع النهوض التراثي، مثلًا، يصدر عن صورة جامدة للإنسان المسلم، يشترط فيه أن يكون على مواصفات متعالية عن التاريخ، حتى إذا تَم التسليم له بهذه المواصفات، انطلق ليؤسس لعالم تسود فيه قيم المسلمين. ولا يختلف صاحب مشروع النهوض الحداثي عن صاحب مشروع النهوض الإسلامي في جوهر الأمر. إذ يصدر عن تمثّل جامد لماهية الإنسان الحديث، ويتحكم في تصوره لحداثة عربية إسلامية ناجحة على أرض الواقع.

لعل كثيرًا من المشتغلين بمشاريع النهوض في العالم العربي والإسلامي فاتَهم إدراك ما أدركه مثقفو الغرب وفلاسفته الذين عملوا على تفكيك الحداثة العقلية، وهم يرومون الانعتاق من أسر عقلانية غربية طوباوية. لم يدركوا أن الواقع مثل اسمه يقع، وأن كل تأسيس عقلي للوجود ينتهي إلى عالم ذي بعد واحد، إلى حضارة إنسانية ذات مدة صلاحية محدودة.

قد يصحّ القول إن الكتابات التي ظلت، من داخل الغرب، تنشد الخروج من مضايق الغرب ومتاهاته الفكرية الفلسفية، من قبيل ما كتب ميشيل فوكو عن الفكر الخارجي أو التفكير من الخارج، أو ما كتب كينث وايت عن وجوه من الخارج، هي كتابات لم تتخلص من المركزية الأوروبية. هذا ما تسعى إلى إثباته الفيلسوفة الألمانية ميكائيلا أوت في كتابها المعنون "ما المقصود بالخروج من الفكر/ خارج الفكر"، إذ تعيب على أصحاب هذه الكتابات أنهم لم يبوِّئوا رموز الفكر الآخرين، من العالم الخارجي، المكانةَ التي يستحقونها.

من يطلب الانتصار على الغرب بوسائله، فهو بالضرورة عاجز عن الإبداع بعيدًا عن سقف العقلانية التي أنتجت الحضارة الغربية المهيمنة في عالمنا اليوم

إذا صحّ أن حديث الغربيين عن التوسل بالمغامرة وممارسة الجولان الفكري خارج حدود الغرب بقصد الانعتاق من أسْر المنظومة العقلانية الغربية يعكس تمركزًا حول الذات الغربية من بعض الوجوه، فهذا لا يعني أنّ الخروج من تاريخ العقل والعقلانية الغربية لا يجوز أن يكون مطلبًا عربيًا إسلاميًا. بل إن حاجة العرب والمسلمين إلى هذا الخروج أشد من حاجة هؤلاء المفكرين. ذلك لأنهم وهم يتوسّلون بوسائل الغرب العقلية إنما يزيدون انغماسًا في تاريخ هذا الغرب، وأقصى ما يمكن أن يطمحوا إليه هو أن يصيروا غربًا آخر.

توحي كتابات بعض المفكرين العرب والمسلمين أن هدف المقاومة في فلسطين اليوم هو بلوغ مركزية عربية إسلامية مكان المركزية الغربية. ولعل هذا مردّه إلى أنها كتابات تصدر عن عقلية لا تعي أنها تسعى للانتصار على الغرب بوسائله. من كان هذا حاله، أي يطلب الانتصار على الغرب بوسائله، فهو بالضرورة عاجز عن الإبداع بعيدًا عن سقف العقلانية التي أنتجت الحضارة الغربية المهيمنة في عالمنا اليوم.

هذه الحضارة التي استنفدت أغراضها وصار سقوطها حتميًا، كما يدل على ذلك عجزُها عن صناعة السلم والسلام وتسويغُها للإبادة، واكتفاؤُها باقتراح توازن الرعب بين القوى الكبرى كأقصى ما يمكن اقتراحه.

إن الحضارة الغربية المهيمنة مشروع طوباوي بدأ بفرض العقل على الواقع، متوسلًا في البداية بهذا العقل أداةً لتثبيت حقيقة الأشياء، ثم بالفلسفة نظرةً للوجود، ثم بالتقنية والتكنولوجيا آلةً لصناعة الواقع والتحكم في مخرجاته. وهذه الحضارة، مثل سابقاتها التي أرادت العلو في الأرض، هي اليوم على مشارف الانهيار.

وما يدل على هذا الانهيار هو ترّهات المرشحين لتولي رئاسة أعظم قوة في العالم. لقد بلغت الانتخابات الأميركية درجة من العبث دفعت الكثيرين إلى إعادة النظر في معنى الديمقراطية، حتى إن أصواتًا كثيرة صارت تعلن معارضتها مسلسل الديمقراطية وترى فيه مهزلة ومضيعة للوقت، ومجلبة للمضرة أكثر من المنفعة. هذا ما يرشح من قراءة كتاب "ضد الديمقراطية" لصاحبه جيسون برينان.

أمام نهاية النموذج الحضاري الغربي، يجد الفكر الفلسفي في السياق العربي الإسلامي نفسه في مأزِق حقيقي يصعب الخروج منه. فهو من ناحية مطالب بالاشتغال بمقتضيات المقاومة لهذا النموذج؛ سعيًا للتحرر من قبضته ودفعًا لتسلطه؛ كما أنه من ناحية أخرى مطالب بالاشتغال بمقتضيات التخليق للواقع الكوني؛ طمعًا في بلوغ نموذج حضاري يكون أقل تسلطًا وأكثر عدلًا.

توحي كتابات بعض المفكرين العرب المسلمين أن هدف المقاومة في فلسطين اليوم هو بلوغ مركزية عربية إسلامية مكان المركزية الغربية، مما يعكس سعيًا للانتصار على الغرب بوسائله

حين يشتغل المفكر الفيلسوف في السياق العربي الإسلامي بمقتضيات المقاومة وتحت سقفها، يجد نفسه يتقمص دور الخليفة، فيقفز على تناقضات الواقع العربي الإسلامي الذي يطبعه التمزق وإكراهات الدولة القُطرية، كي يستدعي مفهومًا ذهنيًا للأمة كوحدة متجانسة، بعيدًا عن الصراعات السياسية القائمة بين مختلف مكوناتها. وهذا في وقت يجب أن يكون أكثر واقعية حتى يتمكن من بناء تصور واقعي عن طبيعة الصراع قد يسهم في تسديد فعل المقاومة ومده بأفق لا يراه المقاوم في الميدان.

كما أن هذا المفكر الفيلسوف، حين يتماهى مع المقاوم الذي يطلب التسلح بأسلحة الحضارة المتسلطة كي يضع الذات الطاهرة المتخيلة مكان ذات غير المدنسة، لا يبدع شيئًا جديدًا يُذكر أكثر مما أبدعه المقاوم في الميدان. فهو لا يقوى على توسيع مفهوم المقاومة توسيعًا يخاطب الطالبَ في الجامعة الأميركية والمناضلَ في الحزب الأوروبي، والإنسانَ ذا الفطرة السليمة في السياق الكوني.

يجد المفكر الفيلسوف في السياق العربي الإسلامي نفسه ممزقًا بين مقتضيات المقاومة من أجل إثبات الذات تحت سقف الحضارة المهيمنة الغاشمة الظالمة، وبين مقتضيات تخليق الحضارة، وهو التخليق الذي يقتضي بلاغةَ وعظ وإرشاد وتذكير، بدل الانغماس في صنع التصورات الفلسفية، الواحد تلو الآخر، لإحلال الذات مكان الغير، أو ابتكار وسائل التدمير التقنية والتكنولوجية.

فما أحوج الخطاب الفكري الفلسفي في السياق العربي الإسلامي إلى تمثل صحيح لدور الفكر وقيمته المضافة في زمن المقاومة. فالمفكر ليس مقاومًا يحمل بندقية، وإنما هو مفكر ينظر في مسببات الأشياء ومآلاتها، ويجتهد من أجل المساهمة في فتح العالم على إمكانات غير منظورة. إذا كان المقاوم يرى في المقاومة هدفًا في حد ذاته؛ فإن المفكر يرى فيها وسيلة لغاية أخلاقية مثلى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الأسباب التی الخروج من أن یکون مشروع ا

إقرأ أيضاً:

الأطفال الجائعون وتفشي البلادة الأخلاقية

على مدى ما يقارب عامين، وغزة تُدمر على رؤوس ساكنيها أطفالا ونساء وكهولا في مشهد إجرامي تراجيدي همجي جبان، يفوق خيال أخصب المتخيلين بشاعة، وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع.

مشهد غزة الدامي وحده مَن رفع الستار وأزال الأقنعة عن كثيرين ممن ظلوا طويلا يلوكون مصطلحات التمدن والحضارة والإنسانية والحداثة السياسية وحقوق الإنسان وهلم جرا، وحتى ستار أولي القربى من إخوة الدين والعقيدة والدم والنسب.

إن مأساة غزة اليوم كبيرة جدا، وتتعدى حدود مأساويتها جغرافيا غزة الصغيرة، وتتخطى ذلك إلى كامل الجغرافيا الكونية، هذه المأساة هي بمثابة شهادة وفاة لكل شيء إنساني ذي قيمة في هذه اللحظة البشرية الأكثر قتامة وسقوطا وانهيارا لكل القيم والمسميات، وفي القلب منها سقوط الحضارة ودفنها وعودة الهمجية والبدائية والوحشية بأبشع صورها ومسمياتها.

لا شيء يفسّر ما يجري في غزة اليوم، سوى أن التدهور الأخلاقي قد بلغ ذروته، وأن خللًا عميقًا أصاب الضمير الإنساني، فلا تفسير لهذا الصمت المطبق إزاء إبادة جماعية تُرتكب بسبق الإصرار والترصد، سوى وجود تواطؤ مقصود، ورضا ضمني عمّا تقترفه آلة نتنياهو وعصابته الصهيونية. هذا التواطؤ لن يمرّ دون ثمن، وسيُعيد البشرية قرونًا إلى الوراء، متجاوزًا كل ما راكمته من قيم في مسيرتها نحو التحضر والإنسانية.

لسنا هنا بصدد التباري بحشد كل مصطلحات البلاغة اللغوية لتوصيف ما يجري فقد فاق ما يجري كل قدرة العقل البشري اللغوي على وصف الجريمة، فما يجري لا يفسره سوى السقوط والانحلال لكل مكتسبات إنسان اليوم في سُلم الرقي والتطور الأخلاقي، والارتداد إلى ما قبل كل ذلك.

وهو ما قد يُعجز البعض عن تفسير هذا الانحدار، لكن من يتأمل قليلا في مسرح الأحداث سيدرك جيدا أن كل ما يجري في غزة اليوم ليس سوى الحقيقة العارية التي ظل الغرب وأدواته طويلا يحاولون سترها وحجبها عنا.

إعلان

لهذا بدأت أصوات غربية تعلو رافضة لما يجري، ويفوق تصوراتهم عن بشاعة الجريمة، فهذا المفكر الفرنسي ديدييه فاسين والأستاذ في كلية فرنسا كوليج دو فرانس والذي لم يتحمل ما يجري فأصدر كتابا بعنوان: "هزيمة غربية"، وصف فيه الأحداث في غزة بأنها "أعمق هاوية أخلاقية سقط فيها العالم الغربي منذ الحرب العالمية الثانية".

مشيرا إلى أن دعم الغرب لإسرائيل وسط تدمير غزة واستهداف المدنيين، يعكس ازدواجية معايير وتواطؤا أخلاقيا، منتقدا الصمت الغربي إزاء قتل الأطفال، وتدمير المستشفيات والمدارس.

وهذا مواطنه الفرنسي باسكال بونيفاس الخبير في الشؤون الجيوسياسية، تحدث في كتابه: "رخصة للقتل: غزة بين الإبادة الجماعية والإنكار والهاسبارا"، عن تورط الغرب في التغطية على الأحداث، مؤكدا أن من ينكرون الإبادة "لا يريدون أن يعلموا".

صحيح أن ثمة أصواتا كثيرة أدانت هذه الحرب واصفة إياه بالإبادة من سلافوي جيجك إلى نعوم تشومسكي، مرورا بعدد غير قليل من الفلاسفة والنشطاء الغربيين، لكن هذه الأصوات لم تغير من حقيقة التوجه الغربي الرسمي شيئا تجاه ما يجري لأكثر من مليوني إنسان محاصرين بالقتل والجوع في غزة، فثمة صمت قاتل لا يقل جريمة عن سلاح القتل الذي تعربد به دولة الكيان الصهيوني، إن لم يكن هو سلاح الجريمة الأشد فتكا بالغزيين.

لكن دعونا من الغرب ونخبه ودوله وقياداته، فهم قد وصلوا إلى مرحلة من الانكشاف الذي لا يمكن ستره، وهو مفهوم في إطار المعادلة الكولونيالية الحاكمة للعالم، والتي يعيد الغرب تذكيرنا بها حتى لا ننساها أو نغفلها أحيانا، وهو أن هذه الرقعة الجغرافية بكل مشاكلها وإشكالياتها هي صنيعة غربية بامتياز.

السؤال الذي يبحث عن إجابة هو: أن صمت الغرب في هذا السياق ربما يعد مفهوما اليوم، لكن ماذا عن العرب والمسلمين اليوم حول العالم، كيف تواطؤوا هكذا ضد كل قيمهم وأعرافهم وأخلاقهم ومعتقداتهم التي تحض على مناصرة المظلومين ومقاومة الظالمين في كل وقت وحين حتى يكفوا ظلمهم عن الناس؟، ما الذي أصاب القوم ليلوذوا بكل هذا الصمت؟!

لا شيء يفسر هذا الحال المزري الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية، سوى أن الأمة قد أصيبت بالتبلد، وأن مشاهد القتل اليومي والدمار وقتلى الجوع، قد أصابت القوم بنوع من التطبيع مع هذه المشاهد، وهو ما يجعلهم يشاهدونها يوميا وكأنها مشاهد سينمائية وخدع بصرية ليس إلا.

إن هذا النقل المباشر للجريمة، بقدر ما يفترض أنه يحمي الضحية، بقدر ما يعطل حاسة الاشمئزاز والرفض والإنكار للجريمة التي من كثرة مشاهدها تطبّعت النفوس على التعايش معها، رغم كل ما فيها من وحشية وقسوة وإجرام يفوق التصور.

الجانب الآخر والأخطر في هذا الصمت العربي والإسلامي، هو حالة التطبيع مع توجهات الأنظمة الحاكمة تجاه ما يجري في غزة، والتعلل بأن كل حكومة لها ظروفها الخاصة وتقديراتها للأمر، مع أن هذه الحكومات لا تملك قرارا خاصا بها بقدر ما تنفذ كل ما يملى عليها غربيا، وأن الشعوب المطبعة مع هذه الحكومات، لا يمكن أن تجد مبررا أخلاقيا أو سياسيا أو قل ما شئت من المبررات، يمكنه أن يعفيها من الغضب والمسؤولية الملقاة عليها، أخلاقية أو إنسانية كانت.

إعلان

ليس مبالغة اليوم القول إن ما يجري لغزة شيء من خارج التاريخ الإنساني كله، فالتاريخ البشري مليء بالأحداث التي تحكمها سياقاتها الزمنية والمكانية المختلفة، لكن هذا التاريخ ربما لم يسجل سابقة كسابقة غزة اليوم، حيث يتم إبادة الأطفال والشيوخ والحوامل بالسلاح والجوع والوحشية، وأمام أعين الكاميرات والهواتف.

لهذا كله، فإن الصمت اليوم لم يعد مقبولا ولا معقولا، وأن هذا الصمت هو سلاح الجريمة الأشد فتكا من كل أسلحة الكيان الصهيوني، لما يمثله من مشاركة ورضا ضمني بما يجري من إبادة، فالجميع اليوم على امتداد الجغرافيا الإنسانية مسؤولون عما يجري لغزة وأهلها، ولا شيء يبرر هذا الصمت تجاه كل هذا الإجرام مطلقا، فإن صمتت الحكومات، وهذا عهدنا بها، فكيف بالشعوب أن تصمت، فالصمت لم يعد مجرد خيانة، وإنما جريمة مركبة في عالم اليوم المفتوح؟!

ندرك جيدا أن الغرب أطلق لدولة الكيان العنان، وندرك أيضا أن حكوماتنا العربية تقوم بواجبها المنوط بها غربيا، لكن لا يمكن سريان ذلك على الشعوب، التي لا تعرف الحسابات السياسية الدقيقة، وإنما تستجيب لمشاعرها وتحدياتها المحيطة بها، ولا يمكن تدجينها إلى هذا الحد من الذل والخضوع.

فما يجري شيء يدعو للحيرة والعجب معا، وخاصة أن غزة ليست سوى حائط الصد الأخير لطوفان الإجرام الصهيوني والغربي، وأن إبادة غزة ليست سوى البروفة التحضيرية لما بعدها من إبادات لن تستثني أحدا في حدود هذه الجغرافيا العربية المستلبة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الأطفال الجائعون وتفشي البلادة الأخلاقية
  • إدارة الإعلام والاتصال في وزارة الدفاع لـ سانا: تقوم وحدات الجيش العربي السوري في هذه اللحظات بتنفيذ ضربات دقيقة تستهدف مصادر النيران التي استخدمتها قوات “قسد” في قصف قرية الكيارية ومحيطها بريف منبج، وقد تمكنت قواتنا من رصد راجمة صواريخ ومدفع
  • أعيش في ريب من أمري بين واقعنا الهادئ.. وآراء زوجي على المواقع
  • من النص إلى الواقع.. جدلية التربية وحقوق الإنسان في العالم العربي قراءة في كتاب
  • شرطة الشارقة: سيطرة كاملة على حريق الصناعية العاشرة دون تسجيل إصابات
  • أوكرانيا تنفي سيطرة القوات الروسية على مدينة استراتيجية
  • ما هو الاعتراف الدولي بالدول وأنواعه وماذا يعني الاعتراف بفلسطين؟
  • علي الفيل: سيطرة أندية الشركات «خسارة» للدوري
  • شيخ العقل عرض مع زواره موضوع السويداء: لفك الحصار ومعالجة الواقع الإنساني
  • بعنوان: التحولات الإقليمية والدولية: الواقع والمآلات.. ندوة حوارية لمركز ن في مركز طبارة في بيروت