الثـقــافـة الـفـعـل والثقـافـة التـفـاعــل
تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT
الثّـقافـة فـعْـلٌ ذهـنـيّ وجمـالـيّ يقـوم بـه فـردٌ أو جمـاعـة للتّـعبيـر عـن فـكـرةٍ أو شـعـورٍ أو تـصـوُّر؛ وهـو فـعْـلٌ يـنـشـأ منـه أثـرٌ أو منـتـوج هـو عـيـنُـه المـعـبَّـرُ عنـه في تلك العـملـيّـة الـذّهـنـيّـة أو الجماليّـة التي نـصنّـفـها في خـانـة الثّـقافـة. إنّـها، إذن، تـشيـر إلى حـالتـيْـن: إلى الإنتـاج بـما هـو فاعـليّـة، وإلى المنـتـوج بوصـفـه ثمـرة تلك الفاعـليّـة.
لـكنّ الثّـقافـة ليسـت فـعـلًا، فحسـب، يقـوم بـه أفـراد (مفـكّـرون، مبـدعـون) وجمـاعـات (نـخـب ثـقـافـيّـة)، بـل هـي إلى ذلك عمـليّـةٌ من التّـفاعـل بيـنها وثـقافـاتٍ أخـرى عـدّة: في المحيـط المبـاشـر أو البـعيـد؛ في الزّمـن الحاضر أو في الزّمن الماضي. قـد يُـفْـصـح هـذا التّـفاعـل عـن نفسـه، في حـدٍّ أدنـى منـه، في اتّـخاذ ثـقـافـةٍ مّـا ثـقـافـاتٍ سابـقـةً أو مـتـزامنـةً مصادرَ لـها تـمـتـح منـها؛ وفي هـذه الحـال يكـون فـعْـلُ الانـتـهال شكـلًا من أشكـال التّـفاعُـل بين ثـقـافـةٍ تسـتـقـبـل التّـأثـير وأخـرى تمارسـه عليها. على أنّ الغـالـب عليه أنّـه تـفاعُـلٌ يُـفـصـح عـن نـفـسـه من طـريـق حـوارٍ مسـتـمـرّ، صامتٍ أو جـهيـر، بيـن ثـقـافـةٍ مّـا وغيرها من الثّـقـافـات. وليس شـرطـًا لأن يسـتـقيـم مـثـلُ هـذا الحـوار أن يـكون بين ثـقـافـات متـعـدّدة، بـل كـثيـرًا ما يجـري داخـل الثّـقافـة الواحـدة بين أزمـنـةٍ منـها مختـلـفـة، ومنـه - مـثـلًا - حـوار ثـقـافـةٍ مّـا مع تـراثـها. كمـا أنّـه ليس يُـشْــتَـرَط في ذلك التّـفاعـل أن يكـون بين ثـقـافـات متـعاصـرة، فـقـد يـنـشـأ بين أيّ ثـقـافـةٍ في الحاضـر وثـقـافـاتٍ أخـرى تـنـتـمـي إلى أزمـنـةٍ من الماضـي، ومن ذلك تلك الأشكال المخـتـلفـة من تـفاعُـل ثـقـافـات العالـم الحديثـة مع الثّـقـافـات اليـونانيّـة والهنـديّـة والصّـينـيّـة والرّومانـيّـة والعربـيّة. في كـلّ حـال، يـتـرتّـب على القـول إنّ الثّـقافـة تـفاعـلٌ وليس محـض فـعْـلٍ فـقـط اسـتـنـتـاجٌ مـفـادُهُ أنّ الفعـلَ الثّـقافـيّ نـفـسَـه غـيرُ مـمـكـنٍ أو هـو عـسيـرٌ، على الأقـلّ، إنْ هـو لم يُـبْـنَ على قـاعـدتـه الأساس: تـفـاعـلُ الثّـقافـة مع خـارجـها الثّـقـافـيّ.
هـذا يـتـأدّى بـنـا إلى القـول إنّـه ليس هنـاك إنـتـاجٌ ثـقـافـيّ يمكـن أمـرُه من دون منـتـوجٍ ثـقـافـيّ مُـتَـلَـقَّـى: إمّـا مـن الأقـدميـن أو مـن المعاصريـن. وبيـانُ ذلك أنّـه مـا مـن ثـقافـةٍ تـنـشـأ في بيئـةٍ بِـكْـرٍ خالـية من آثـار التّعـبـير الإنـسـانيّ، ولا هناك ما يمكـن أن يشبـه البـدايـةَ الصِّـفـريّـة في أيّ ثـقـافـة؛ بـل إنّ الثّـقافـة تـتـكـوّن بالتّـلـقِّـي والاستقـبال، وتـتـطـوّر بالإنـتـاج والإبـداع؛ إذِ الـفاعـل في حـاجـة دائمـة إلى مـا يُـغـذِّي مَـلَـكَـة الفـعـل عـنـده، على نحـوٍ يـبـني فيه اللاّحـقُ على السّابـق ويـتـزوّد مـمّـا خَـلَّـفه مـن الموارد. على ذلك، يـوجـد في كـلّ ثـقـافـةٍ شـيءٌ وافـدٌ عليـها مـن خارجـها حتّى وإن لم تُـدْرِك مصـدريّـتـه، أو لم تستـوقـفـها، وحتّى حينما تـنـجح في توطيـنـه فيـها؛ ذلك أنّ الوافـد ذاك - المستَـبـطَـن والمـنـدمـج فيـها- كـان مـن المـوارد التي بـها قامـت تلك الثّـقافـة وحَـصَل لها الوجـود. ولـمّـا كانت مناهـلـها متـعـدّدةَ اليـنابـيع ومخـتـلفـةَ الأزمنـة، كان لا بـدّ - بالتّـبِـعـةِ - مـن أن يَطْـفَـح حضـورُ مصـدرٍ مّـا من مصادرها، وأن يكـون له الأثـرُ الأَظْـهـرُ أكـثـر من غـيره كلّـما مـرّت تلك الثّـقافـةُ بحقـبـة زمنـيّـة جـديـدة من تـطـوُّرها أو انـتـقـلت من طـوْر زمـنـيّ إلى آخـر. أمّـا السّـبب فيـعود إلى الحاجـات الموضوعيّـة التي يفـرضـها الواقـع الاجـتـماعـيّ والإنسـانيّ على كـلّ ثـقافة في أيّ مـرحلـةٍ من مـراحـل التّـطوّر، فيحمـلـها على تغـلـيب مصـدرٍ على غيـره إنْ كـان فيه من مـوردٍ يساعـد في الجـواب عـن تلك الحاجات: فـكـريّـًا أو أدبـيّـًا أو فـنـيّـًا.
قـلنا إنّ التّـفاعُـل الثّـقافـيّ يـؤسِّـس الفـعـلَ الثّـقافـيّ ويـزوِّدهُ طـاقـةً لأنّ مبْـنـى الأخير على الأوّل. لذلك تـتـفاوت درجـاتُ قيـمة الفـعـل الثّـقافـيّ بـتـفـاوت درجـات ذلك التّـفاعـل الذي تـنـخرط فيـه الثّـقافـةُ مع غيـرها الشّـريك فيـه. ولمّـا كان التّـفاعـل الثّـقافـيّ متـراوحَ المـوارد والحصائـل بين تـفاعُـلٍ سلـبيّ يُـكْـتَـفى فيه بالاستـقـبـال والتّـلـقّـي والتّـأثُّـر، وتـفاعُـلٍ إيـجـابـيّ يَـبْـلُـغ عـتبـات الحـوار والتّـثـاقُـف وممارسـةِ الأثـر المعاكـس، كان على الفـعـل الثّـقافـيّ أن يتـحرّك بيـن الحـدّيْـن أيـضـًا. هـذا ما يفـسّـر لماذا قـد تبـدو ثـقـافـةٌ مّـا أدنى من رتبـة الإبـداع ويطـغى عليها الاتّـباع والاجتـرار، فيما تبـدو أخرى أَبْـعَـدَ خَـلْـقـًا وابـتـكارًا وأبـعـدَ أثـرًا في غيـرها؛ ذلك أنّ الأولى لا تُـنـتِـج إلاّ داخل دائـرة ما تَـلـقّـتـه سـلـبًا، أمّـا الثّـانيّـة فجـاوزت حـدّ التّـلقّـي السّـلـبيّ إلى حيث حـاورت غيـرها من الثّـقـافـات، وشـبّـتْ عـن طـوْق التّـلمـذة لبعضها فـنـاظـرتْـه مـنـاظَـرَةَ مَـن يملـك أن يعـطـيَ لا أن يـأخـذ فحسـب. إنّ خـروج ثـقـافـةٍ مّـا - في تـفـاعـلـها مع غيـرها - من لحـظة الـدّونيّـة والارتـفـاع بـقـدْراتـها إلى مـرتبـة النّـدّيّـة وحـدهُ يـرفـع مـن معـدّل الخَـلْـق والتّـأثـير في الفـعـل الثّـقافـيّ.
عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ـل الث ـقافـی الث ـقافـة ذلک أن
إقرأ أيضاً:
حماية المستهلك: سرعة التفاعل مع شكاوى المواطنين وتقليل زمن الاستجابة للشكوى ورقمنة كافة الخدمات المقدمة للمواطنين
عقب افتتاح رئيس مجلس الوزراء للمقر الرئيسي لجهاز حماية المستهلك بالقاهرة الجديدة
رئيس جهاز حماية المستهلك: دعم غير مسبوق يتلقاه الجهاز من رئيس الوزراء وما شهدناه اليوم يؤكد على اهتمام الدولة وأجهزتها المختلفة بالمواطن المصري وضبط الأسواق وأسعار السلع
ويُعلن عن جاهزية المقر الجديد للجهاز لاستقبال شكاوى المواطنين.. مؤكدًا: سيكون منصة حديثة لحماية الحقوق وشاهدًا على حجم التطور الذي يشهده الجهاز من بنية تحتية وتوسيع قاعدة الخدمات وتبني أحدث النظم الرقمية
أكد إبراهيم السجيني، رئيس جهاز حماية المستهلك، أن هذا اليوم يمثل محطة فارقة في مسيرة حماية المستهلك، مشيرًا إلى أن هذا المقر سيكون منصة حديثة لحماية الحقوق وشاهدًا على حجم التطور الذي يشهده الجهاز من بنية تحتية تكنولوجية مُجهزة بأساليب علمية حديثة، وتوسيع قاعدة الخدمات وتبني أحدث النظم الرقمية في تلقي الشكاوى والتفاعل معها، ومراقبة الأسواق، وتحقيق الاستجابة السريعة لحماية حقوق المستهلكين من أية ممارسات سلبية.
جاء ذلك خلال مؤتمر صحفي عُقد بمقر الجهاز الرئيسي بالقاهرة الجديدة، بحضور مختلف وسائل الإعلام والصحافة، وبحضور عددٍ كبير من قيادات قطاعات وادارات الجهاز المعنية.
واستهل رئيس جهاز حماية المستهلك حديثه، بالترحيب بالسادة الصحفيين والإعلاميين، مؤكدًا على أهمية هذا اليوم في مسيرة عمل الجهاز بعد حضور وتشريف رئيس مجلس الوزراء والسادة الوزراء شركاء النجاح والعمل الوطني الجاد، وإطلاع دولة الرئيس على المقر الجديد وما شهده من تجهيزات وبنية تحتية متطورة وآليات رقمية ذكية تهدف في النهاية إلى خدمة المواطن المصري بإعتباره محور عملية التنمية الشاملة، مؤكدًا أن هذا المقر سيُمثل انطلاقة جديدة لحماية المواطن، وضمان سلامة الأسواق، ودعم الاقتصاد الوطني، مؤمنون بأهمية بناء سوق ٍعادلة واقتصادٍ قوي لتحقيق التنمية الشاملة.
وأشار رئيس الجهاز، إلى أن الجهاز يعمل على عدة محاور ومنها ضبط الأسواق وأسعار السلع، ومنظومة تلقي شكاوى المواطنين، بالإضافة إلى المحور الثالث وهو التوعية ورفع وعي المستهلكين، فضلًا عن التطوير الإداري والتشريعي، بما يسهم في التفاعل مع شكاوى المواطنين وسرعة الاستجابة.
وفيما يتعلق بالمحور الأول وهو ضبط الأسواق وأسعار السلع، أكد رئيس الجهاز أن الجهاز لديه توجيهات واضحة من معالي رئيس الوزراء بتكثيف التواجد الميداني والتنسيق مع السادة المحافظين بمختلف المحافظات لرصد وضبط الظواهر السلبية الضارة بحقوق المواطنين، مشيرًا إلى أن الفترة من يناير 2024 شهدت تنفيذ نحو 13.1 ألف حملة على منشآت تجارية وطبية، أسفرت عن تحرير نحو 44.3 ألف محضر لمخالفات متنوعة، إلى جانب قيام الجهاز بإعداد وتشكيل وتنفيذ 10 حملات رقابية مُكبرة وموسعة بعدة محافظات، وتنفيذ جولات تفقدية على الأسواق بمصاحبة المحافظين، نتج عنها اتخاذ إجراءات قانونية حيال المخالفين، فضلًا عن رصد أسعار السلع ومتابعة مدى توافرها وإتاحتها لجمهور المستهلكين من خلال أفرع الجهاز المنتشرة بمختلف محافظات الجمهورية.
وفيما يتعلق بمنظومة شكاوى المواطنين، أكد رئيس الجهاز أن الجهاز يولي اهتمامًا بالغًا بشكاوى المواطنين، لا سيما في الشكاوى التي تحتاج إلى حلول لحظية، مشيرًا إلى أنه تم تلقى نحو 271.2 ألف شكوى، بخلاف الشكاوى المحولة للجهاز عبر منظومة الشكاوى الحكومية بمجلس الوزراء، وذلك خلال الفترة من يناير 2024 إلى مايو 2025 عبر مختلف القنوات، وتشمل الخط الساخن 19588 وخدمة الواتساب، والبريد الالكتروني، وتطبيق الهاتف المحمول، والهاتف، وشبكات التواصل الاجتماعي، وغيرها، لتصل نسبة تذليل الشكاوى وحلها لنحو 95.7% بمتوسط زمن استجابة يصل إلى 5 أيام وفي بعض الشكاوى يصل إلى 48 ساعة.
وفيما يتعلق بمحور التوعية، أكد ابراهيم السجيني، أن الجهاز يعمل وفق خطط واضحة ومحددة في هذا الملف وأن ما يشغلنا دائمًا هو أن نصل إلي المستهلك الواعي مما يسهم بوعيه في تحقيق مزيدٍ من الانضباط في الأسواق، مضيفًا أنه تم إطلاق مبادرة تجارة الكترونية مُنضبطة والتي كان هدفها هو رفع الوعي لدى المستهلكين في مجال التجارة الإلكترونية فضلًا عن توفيق أوضاع بعض منصات التجارة الإلكترونية غير المُنضبطة، كما تم اطلاق "دليل خدمات وحقوق المستهلك" بالتزامن مع اليوم العالمي لحماية المستهلك" في مارس الماضي.
وفي هذا السياق، أشار رئيس الجهاز إلى أننا قمنا بالتنسيق مع العديد من الكليات بمختلف الجامعات المصرية لتدريب الطلبة ورفع الوعي لديهم بحقوقهم الإستهلاكية ودمجهم في بيئة العمل فضلًا عن تعزيز الثقة بينهم وبين مؤسسات وأجهزة الدولة، مشيرًا إلى أننا قمنا بالتنسيق مع "الهيئة العامة للإستعلامات " وتم إطلاق حملة توعوية بحقوق المستههلكين استهدفت 23 محافظة بإجمالي عدد المستهدفين من الحملة 5355 مواطن والتي لاقت اهتمامًا كبيرًا بين المشاركين وجار استهداف المزيد خلال الفترة المُقبلة.
وفيما يتعلق بالتطوير المؤسسي والتشريعي، أكد ابراهيم السجيني، أنه بناء علي توجيهات ودعم معالي رئيس مجلس الوزراء تم دعم الجهاز بالعديد من الكوادر البشرية المتخصصة في مختلف المجالات كما تم اعتماد الهيكل التنظيمي والإداري من قًبل الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة مما ساهم في تحديد المهام والمسؤوليات وتحقيق مزيد من الحوكمة والرقابة الداخلية بمختلف قطاعات الجهاز، وأضاف رئيس الجهاز إلى أننا في طور الإنتهاء من تأهيل وتشغيل فروع الجهاز بمحافظات ( الغربية / مطروح / البحر الأحمر ) تمهيدا لافتتاحها أمام المواطنين نهاية العام الحالي.
وأشار رئيس الجهاز، إلي أن معالي رئيس مجلس الوزراء تفقد مركز التدريب الدولي بمقر الجهاز اليوم، وشاهد أحدث ما وصل إليه الجهاز من البرامج التدريبة لرفع كفاءة العاملين بالجهاز والشركات والكيانات الإقتصادية في السوق المصري، مشيرًا إلى أن هذا المركز أصبح منصة فاعلة لتبادل الخبرات بين الدول الإفريقية والعربية والأوروبية بالإضافة لتدريب العديد من طلبة الجامعات المصرية، كما أنه أصبح مركزًا محوريًا لإطلاق العديد من المبادرات مع كافة الشركات لا سيما في قطاع التجارة الإلكترونية كونها تمثل حجمًا كبيرًا من الاقتصاد المصري، لحل كافة شكاوى المستهلكين.
وفي ختام اللقاء، قال رئيس جهاز حماية المستهلك: اننا ماضون بخُطى ثابتة وفق توجيهات معالي رئيس مجلس الوزراء من خلال آليات عمل غير تقليدية تتفاعل مع شكاوى المواطنين واحتياجاتهم، وذلك بالتعاون المستمر والتنسيق التام مع مختلف أجهزة الدولة المعنية، وهو ما يعد الغرض الأساسي الذي أنشئ من أجله هذا الجهاز، بما يواكب المتغيرات والمستجدات على الساحة المجتمعية بفكر غير تقليدي في إطار توجيهات فخامة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، بتعظيم أداء الجهاز ليقوم بدوره في ضبط الأسواق، وتحقيق الحماية الاجتماعية للمواطنين.