أنا مع الإنصاف، ورد الاعتبار، ولو بأثر رجعي، وكل فعل، وكل طرح، وكل محاولة فى هذا الشأن تستحق التقدير، والتحية، والتشجيع.
وخيرا فعل المنصفون فى الساحة الأدبية عندما قدموا كتابات مغايرة غير نمطية استهدفت رد اعتبار لمظاليم من أهل الابداع، وهو ما ظهر مؤخرا فى كتابين جميلين لكاتبين مبهرين انطلقا من قيمة العدالة ونشطا تحت تأثير شغف الكشف.
أما الأول فهو كتاب «الكشف عن تشيكوف المصري» للروائى والناقد سامح الجباس، صاحب النص الجميل «جمعية كارهى سليم العشي» وغيرها من الابداعات، والذى يحاول من خلاله إعادة اكتشاف مبدع قصصى عظيم هو محمود البدوى (1908-1986).
كان شائعا وراسخا لدى الذهنية العامة أن يوسف إدريس (1927-1991) هو تشيكوف مصر، بمعنى أنه أول مَن طور فن القصة القصيرة، وسما به نحو سماوات الإجادة والإمتاع. ورغم اعترافنا بروعة ما قدمه يوسف إدريس من فن قصصي، إلا أن «البدوي» كان سابقا فى صناعة وتطوير فن القصة، والأعجب أنه حاز لقب «تشيكوف مصر» قبل سنوات من إدريس. وكان نجيب محفوظ نفسه هو من أطلق لقب «تشيكوف مصر» على « البدوي»، لكن انزواء « البدوي» وميله للعزلة – مثل كثير من المبدعين الحقيقيين- أتاح ليوسف إدريس التالى له، والأقل منه إنتاجا أن يختطف اللقب منه.
بدأ «البدوي» مشواره فى الثلاثينيات وزار سيجموند فرويد فى سنة 1934 وتأثر به، ودرس الطب، وكتب فى موضوعات جديدة على القص العربي مثل علاقات الرجل بالمرأة وعالم الفلاحين، وترك 375 قصة قصيرة، بينما ظهر «إدريس» لاحقا فى الخمسينيات، ودرس الطب أيضا مثل تشيكوف، وترك لنا 103 قصص قصيرة واهتم أيضا بموضوعات الفلاحين خاصة المقهورين منهم، لكنه تميز باختيار عناوين لافتة وجديدة لقصصه.
وخلص سامح الجباس إلى أن انشغال يوسف إدريس بالسياسة، واقترابه من دوائر الضوء، أهلّه لخطف الأضواء من منافسه الذى كان يفضل الانزواء. وفى المُجمل، فالكتاب يتضمن جهدا مُقدرا واستقراء عميقا ونقدا نافعا يستحق الالتفات والتقدير.
أما الكتاب الثانى فهو كتاب «سيد درويش.. المؤلف الحقيقى للنشيد الوطني» للكاتب النابه خيرى حسن، وقد صدر قبل أيام عن سلسلة «كتاب اليوم». وخيرى حسن مُبدع جميل معروف بدأبه وسعيه واهتمامه بالتنقيب فى الماضي، وله كتب مهمة ومؤثرة، تمتاز بالعذوبة.
وفى هذا الكتاب يحقق خيرى حسن فى جريمة سطو فنى تاريخية، قام بها شاعر غنائى هو يونس القاضى (1888-1969) بسرقة كلمات نشيد «بلادى بلادي» من نص سابق وضعه الموسيقار سيد درويش، ونسبه لنفسه وسجله فى جمعية المؤلفين والملحنين.
لقد تتبع المؤلف سجلات وزارة العدل، ومركز الدراسات القضائية، والشهر العقاري، ليؤكد عدم وجود أى وثيقة تثبت نسبة النشيد للشاعر يونس القاضى. كما لجأ المؤلف إلى أرشيف مجلة « التياترو» المصرية سنة 1925 ليثبت فيه الكلمات الحقيقية للنشيد الذى يقول: بلادى بلادي/ لك حبى وفؤادي/ مصر يا أم البلاد/ أنت غايتى والمراد/ وعلى كل العباد/ كم لنيلك من أياد/ مصر أولادك كرام /أوفياء يرعوا الزمام/ وستحظى بالمرام/ باتحادكم واتحادى..».
وجرت الجريمة عندما ترأس الشاعر يونس القاضى جمعية المؤلفين والملحنين خلال الفترة من 1926 إلى 1937، وادعى أنه مؤلف الأغنية بعد أن غير بعض الكلمات ليضيف «مصر يا ست البلاد/ أنت غايتى والمراد/ أنت لى نعم الوطن/ اشترى صفو الزمن/ ادفع الروح له ثمن/ وعلى الله اعتمادي». وفى الستينيات ادعى يونس القاضى أنه حرر وثيقة بتسجيل الأغنية قضائيا فى 26 يناير 1926.
لكن شقاوة خيرى حسن، دفعته للبحث والمراجعة ليكتشف أن 26 يناير 1926 الذى أشار إليه القاضى كتاريخ للتسجيل كان يوم جمعة تتعطل فيه كافة المصالح وعلى رأسها القضاء، كما أنه لم يجد أى وثيقة قضائية مسجلة بهذا التسجيل المزعوم.
وخلص إلى أن سيد درويش، لم يكن ملحنا فقط، وإنما كان فى بعض الأحيان يؤلف الأناشيد خاصة الحماسية منها فى وقت ثورة 1919، وكان هذا النشيد واحدا منها. ولا شك أن ذلك عمل عظيم يقدر.
والله اعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصطفى عبيد الساحة الأدبية
إقرأ أيضاً:
إتجاه ريح حكومة إدريس الجديدة
إتجاه ريح حكومة إدريس الجديدة:
في هردبيس السياسة السودانية يصعب التكهن بأداء كائن إستوزر بناء علي تاريخ أو إنتماء أيديلوجي سابق. فيا ما تولي الأمر يساري سابق طبق أشد السياسات الأقتصادية يمينية وإنبطح لإستعمار تظاهر بالوقوف ضده كل حياته. ويا ما زغرد للتطبيع عروبي سابق وهكذا. ويا ما تبنت أحزاب قحت برنامج إقتصادي كانت قد رفضته بدماء الشهداء حين أتي به معتز موسي.
وتتجلى صعوبة التنبوء بناء علي إنتماء سابق في إختلاف حاد في وجهات النظر حول السياسة الإقتصادية بين د. التجاني الطيب ود. إبراهيم البدوي وكلاهما من رجال حزب الأمة وكلاهما قضي جل حياته المهنية كإقتصادي بالبنك الدولي أو صندوق النقد. ولكن كل هذا التاريخ المشترك لم يمنع تبني الرجلان لرؤي حادة الإختلاف في طريقة إدارة الأزمة الإقتصادية في عصر ما بعد البشير.
ولكل هذا أعلاه، لا أستطيع التكهن بنوع السياسات التي ستاتي بها حكومة السيد كامل إدريس. وكما قلت فانا لا أدعم أو أعارض أشخاص شمولا. أركز علي الأفعال والسياسات وأرفض منها ما أرفض وأقبل ما أقبل.
معتصم اقرع
إنضم لقناة النيلين على واتساب