"العِفَّةُ ليست مسألة حُسن خُلُقٍ فحسب، وإنما هي كذلك مَطلَبٌ من مطالِبِ حُسن الذائقة. إن تجليات الفجور عادة ما تكون كذلك تعبيرا عن ذائقة مُتدنية" (علي عزتبيغوڤيتش؛ هروب إلى الحرية)
على امتداد ثماني مقالات، وابتداء من المقال الذي عَنونَّاهُ بـ"كيف فسدت الذائقة المصريَّة"؛ تناولنا أمورا شتَّى تخصُّ الطعام من مُختلف جوانبه.
والمقاطعة لُغة هي ترك المواصلة القائمة أصلا، والامتناع عن المعاملة الجارية ابتداء، والإمساك عن المشاركة في شيء بعد اعتيادها؛ ومنها: المقاطعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهذه المقاطعة، بوصفها امتناعا إراديّا اختياريّا يهدفُ إلى تحقيق غاية معينة؛ تعني أن الإنسان المقاطِع مُستوعَبٌ ابتداء في مُعاملة مَنْ قاطَعَه، ومأسورٌ في هذا النمط من المعاملة، وإنما لجأ رغما عنه إلى هذا الإجراء الاحتجاجي "السلبي"، بوصفه سلاحا مؤقتا للضغط يتَّخذهُ أداة لبلوغ غرضٍ مُعيَّن. أي أنه -في الغالب- لا يرى فيما قاطعه بأسا اللهم إلا حادث طارئ، تتعيَّن إزالة أسبابه وتدارُك مآلاته؛ حتى تنتهي المقاطعة ويعود الوئام ثانية!
شجاعة الوعي وصدقه قد تُحول المقاطعة (المؤقتة بتعريفها) إلى خلاصٍ (دائم بطبيعته) من النمط الضار على كل المستويات، وذلك إذ يُغير هذا الوعي الصورة الذهنيَّة عن السلع، فإذا ازداد عمقا نفر حتى من الألوان والأشكال الموجَّهة دعائيّا التي يحرص عليها النظام الاستهلاكي الضار، والمقصود منها التلاعُب بغرائزه ومشاعره؛ فكان ذلك أول طريقه لتغيير نمط حياته وطريقة استهلاكه، واستعادة نفسه وإنسانيته
هذا اللون من المقاطعة يعني أيضا أن الكائن المقاطِع قد يكون مُستوعَبا داخل نظام خبيث مُؤذ من الاستهلاك؛ نظام خادع، يوهمه بأمورٍ ويُداعب أوهامه ويستغلها ضده، وأن هذا الكائن رغم غفلته الكاملة عن الأضرار الصحيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المباشرة، فإنه حين يتنبَّه -بين الحين والآخر- إلى المآلات اللاأخلاقيَّة غير المباشرة لهذا النظام؛ فإنه يَفزَع ويُقاطعه، بغير إرادة حقيقيَّة للتخلي الكامل عنه، بل وربما بغير شجاعة حقيقيَّة لبلورة وعي بالأضرار الموضوعيَّة للتركيب الخبيث لهذا النظام، وآثاره الكارثيَّة على شتى جوانب حياته. بيد أن هذا الانتباه الأخلاقي النبيل، وإن كان مُتقطعا وغير مطَّرد؛ يخلف أملا بإمكان تنبُّه "المستهلك" يوما إلى سائر أضرار النمط على حياته، ومجاهدة نفسه للخروج من دائرته.
وهذا يعني أن شجاعة الوعي وصدقه قد تُحول المقاطعة (المؤقتة بتعريفها) إلى خلاصٍ (دائم بطبيعته) من النمط الضار على كل المستويات، وذلك إذ يُغير هذا الوعي الصورة الذهنيَّة عن السلع، فإذا ازداد عمقا نفر حتى من الألوان والأشكال الموجَّهة دعائيّا التي يحرص عليها النظام الاستهلاكي الضار، والمقصود منها التلاعُب بغرائزه ومشاعره؛ فكان ذلك أول طريقه لتغيير نمط حياته وطريقة استهلاكه، واستعادة نفسه وإنسانيته، عوضا عن الرغبة الكسول في إيجاد بدائل "صديقة" للعلامات التجارية "المعادية" داخل النمط الخبيث نفسه! وهو تغيير عميقٌ أشبه بتغيير الرؤية الكونية، بيد أن مقوماته قد صارت متوفرة في قطاعات سكانية كبيرة من العالم لا من أمة الإسلام فحسب. لكنَّ الأشق على الإطلاق ليس هو مجرد تغيُّر هذه الرؤية الكونية، بل هو الصدق في الاطراد مع النفس بغير فصام، وتغيير السلوك والنمط؛ للتحرُّر من آصار النظام العالمي الكفري بل ومن بدائله "الإيمانية" المزعومة!
وبالعودة إلى المتتالية القيمية التي سبق لنا الإشارة إليها؛ نجد أن الالتزام بما ينفع الناس، أي بالحركة داخل الدائرة الأضيق من الحلال البيِّن، الذي لا يؤذي النفس ولا المجتمع؛ لن يجعلنا نحتاج إلى اللجوء لسلاح المقاطعة، وذلك بما سوف نُحقق ابتداء من استقلال يقطع أيدي الاستغلال الاقتصادي والتوظيف السياسي، ويجعلنا نخلف مثل هذه الأنماط الخبيثة ورائنا ظهريّا؛ إذا كانت العفَّة ليست مسألة حُسن خلق فحسب، وإنما مطلب من مطلب حُسن الذائقة؛ فإن تخيُّر المأكول والحفاظ على طبيعته ليست حفظا للمجتمع وللمال فحسب، وإنما تحسين في الذائقة يستنقذ البدن المبتلى من استهلاك الرديء الذي هيمن عليه في هذا الباب الحيويإذ لن نأكل إلا ما نزرع، ولن نزرع الثمرة إلا في موسمها وأوانها؛ إيمانا بأن الله لو شاء لأنبتها طوال العام، وأنبت زرع الصيف في الشتاء وزرع الشتاء في الصيف، بيد أنه تخيَّر سبحانه لكل فصلٍ ما ينفعه، واصطفى لكل إقليم ما يُصلحه؛ فكانت مُعاكسة ذلك تفضيلا وتقديما وإبرازا لما لا ينفع الناس -بل ما قد يضرُّهم أضرارا صحيَّة شتَّى- إذ يدور مع صَغَار شهواتهم وفساد نفوسهم، ويُعيدهم ثانية إلى دائرة الاستغلال والتبعية. فإن الإمكان لا يعني الحِلَّ بالضرورة، فالحلال ليس هو ما حلَّ في يدك كما يتوهم كثيرون؛ بل إن الوفرة قد يعني الابتلاء بما هو ممكن!
ولعلَّ مقولة الراحل علي عزتبيغوڤيتش التي استفتحنا بها المقال تُعيد تركيب النموذج العرفاني المطلوب الذي حاولنا تجريد بعض عناصره. فإذا كانت العفَّة ليست مسألة حُسن خلق فحسب، وإنما مطلب من مطلب حُسن الذائقة؛ فإن تخيُّر المأكول والحفاظ على طبيعته ليست حفظا للمجتمع وللمال فحسب، وإنما تحسين في الذائقة يستنقذ البدن المبتلى من استهلاك الرديء الذي هيمن عليه في هذا الباب الحيوي. وعليه؛ فإن أنماط الاستهلاك الضارَّة ليست كارثة أخلاقيَّة واقتصاديَّة وعسكريَّة مؤقتة فحسب، وإنما هي كارثة صحية ونفسية واجتماعيَّة وسياسية دائمة. فهلُمَّ ننتقل من المقاطعة إلى الخلاص!
x.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المقاطعة السلع الاستهلاك الأخلاقي مقاطعة استهلاك سلع الأخلاق سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
المستشار بهاء أبو شقة يرد على مجدي الجلاد بشأن الوفد: قوة الأحزاب ليست بالصوت العالي
كتب- محمد شاكر:
أكد المستشار بهاء الدين أبو شقة، وكيل مجلس الشيوخ ورئيس حزب الوفد الأسبق، أن حزب الوفد هو أقدم حزب سياسي في العالم.
وخلال تصريحاته ببرنامج "الطريق إلى البرلمان" مع الكاتب الصحفي محمد سامي عبر منصات "مصراوي"، قال أبو شقة: "الكاتب مجدي الجلاد صديق قديم، ولكننا أمام حرية الرأي والفكر. ولذا فإنني أرى أن رأيه حول تراجع حزب الوفد غير صحيح؛ لأنه كما يقول المؤرخون، حزب الوفد يمثل الحركة الوطنية المصرية في المائة عام الأخيرة".
وأضاف أبو شقة: "حزب الوفد قاد المعارضة، وكانت صراعاته كلها ضد الاستعمار والمطالبة بالاستقلال الوطني واحترام الدستور. ثم تم حل الأحزاب كلها عام 1952، والحكم على الأشياء حسب المنطق جزء من تصورنا. وبعد 25 عاماً، عاد حزب الوفد ليتصدر الواجهة مرة أخرى سنة 1978 بعد ربع قرن من الاختفاء وحل الأحزاب".
وتابع: "قوة الأحزاب ليست بالصوت العالي، وإنما في تبنيها للقضايا الوطنية. وعندما نرى التمثيل الحزبي في البرلمان الحالي وبرلمان 2015، هل يوجد مشروع قانون لم يشارك الوفد فيه؟ الناس يفهمون المعارضة على أنها تظل تنتقد وتثير الناس، وهذا أمر خاطئ.
وأكمل: يجب أن ننظر لمصر قبل وبعد 30 يونيو: كيف كانت؟ وكنا على شفا حرب أهلية لولا مساندة القوات المسلحة والشرطة للإرادة الشعبية. نحن نبني دولة مصرية حديثة.
وواصل: قارن أداء حزب الوفد وإسهامه في أي مشروع، وانظر هل كان له دور أم لا؟ ولا توجد مادة إلا وشارك فيها برأي. والعبرة ليست بالعدد، فقد يكون نائب أو اثنان ويؤدوا أفضل من مائة نائب. انظر لما قبل 30 يونيو، وكيف قاد جبهة الإنقاذ، وكيف كان لهذه الجبهة دور في 30 يونيو".
الطريق إلى البرلمان
انطلق مؤخرًا برنامج "الطريق إلى البرلمان"، من إنتاج مؤسسة "أونا للصحافة والإعلام"، وتقديم الكاتب الصحفي محمد سامي.
ويعرض البرنامج على منصات موقع "مصراوي"، وعلى جميع مواقع التواصل الاجتماعي، ويُعنى البرنامج بتغطية البرلمان بغرفتَيه (مجلس الشيوخ ومجلس النواب)، ويكشف من خلاله كواليس الدوائر الانتخابية.
ويستضيف برنامج "الطريق إلى البرلمان" شخصيات برلمانية بارزة، بالإضافة إلى قراءة في النظام الانتخابي والدوائر المشتعلة.
لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا
لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا
برنامج الطريق إلى البرلمان المستشار بهاء أبو شقة بهاء أبو شقة يرد على مجدي الجلاد قوة الأحزاب ليست بالصوت العالي محمد سامي عبر منصات مصراوي تراجع حزب الوفد غير صحيح وكيل مجلس الشيوختابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الأخبار المتعلقةإعلان
الثانوية العامة
المزيدأخبار رياضية
المزيدإعلان
المستشار بهاء أبو شقة يرد على مجدي الجلاد بشأن الوفد: قوة الأحزاب ليست بالصوت العالي
روابط سريعة
أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلامياتعن مصراوي
اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصيةمواقعنا الأخرى
©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا
القاهرة - مصر
36 26 الرطوبة: 30% الرياح: شمال المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب الثانوية العامة فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك