من النادر العثور على مفردة “الاستقالة” في قاموس المسؤولين والسياسيين في اليمن على الأقل في العقود الخمسة الأخيرة، مما يوضح كيفية نظرة المسؤول للمنصب حتى في الوقت الذي لا يقوم بواجبه على النحو الذي يجعل بقائه مصلحة شخصية أكثر من شيء آخر مهما حاول التدثر بعباءة المصلحة الوطنية.
إن الثقافة السياسية السائدة تجعل من المنصب غنيمة يتعين اغتنامها إلى أقصى حد ممكن، وهذا يعني إلغاء مفهوم الاستقالة في حالة الفشل بغض النظر عن انتماء الشخص وما إذا كان يحمل قيما إيجابية قبل توليه منصبه أم لا، وبذلك يتم ترسيم حدود استقالته في حالتين الأولى الوفاة والثانية إقالته من قبل الجهة التي اختارته.
وفي ظل هذه الثقافة، من المفهوم أن ترتبط الاستقالة بمعنى الفشل والجُبن والهروب من تحمّل المسؤولية، وهذا تعريف خاطئ في الغالب يُراد منه تكرّيس فكرة أن المنصب مغنم لا مغرم فعلا وأن الذي يستقيل فاشل ولو لم يكن كذلك، وبهذا انتقلت هذه الثقافة إلى الرأي العام الذي تأثر بهذا التحريف لمفهوم الاستقالة عند الفشل وبالتبعية يُصبح المسؤول المستقيل مُدانا بما ليس فيه كأن يُتهم بالفساد وسواه.
ومن أخطر ما رّسخته هذه الثقافة، هو اعتبار المسؤول الذي يتمسك بمنصبه وطنيا وشجاعا ومضحيا ولو ثبت عكس ذلك بالدليل القاطع، مما أعاد تعريف القيم بشكل سلبي؛ فأصبح الفاسد الفاشل ناجحا وطنيا لا لشيء إلا لأنه باق في مكانه، وبات الناجح الشجاع فاسدا فاشلا لمجرد استقالته رغم ندرة هذا النوع من المسؤولين، وقد قِيل هذا عن المهندس فيصل بن شملان حين استقال من منصبه كوزير للنفط والمعادن بعدما تأكد له أنه غير قادر على محاربة الفساد المتفشي بدعم رسمي من أعلى هرم الدولة وأن بقائه يعني إما التماشي مع الوضع ومخالفة مبادئه أو ترك منصبه وهو ما فعل.
وفي هذا السياق، قد يسأل سائل وهل المطلوب أن تكون الثقافة السياسية هي الاستقالة بما تنطوي عليه من مخاطر على عمل المؤسسات والجواب ليس كذلك طبعا، لكن ما يجب ترسيخه هو تطبيق مبدأ إذا فشلت أو عجزت عن أداء مهامك لأسباب خارجة عن إرادتك ولم تستطع التغلب عليها، ينبغي أن تستقيل، وهذا الحال ينطبق على أولئك الذين يستشعرون مسؤولياتهم الوطنية ويحرصون على سمعتهم النزيهة فقط، أما عداهم فلا يفيد الكلام بشأنهم.
إن التخلي عن المنصب أيا كان ليس جبنا ولا فشلا طالما كان الشخص نزيها لديه بصمات جيدة في عمله، ولو أن هذه الثقافة النادرة وجدت طريقها بين المسؤولين لكانت من أدوات الضغط والمحاسبة على أداء المسؤولين ولتحوّلت إلى خيار لا فكاك منه لأي فاشل أو فاسد لأن الرأي العام والنخبة السياسية ستتعامل مع رفضه الاستقالة نوعا من إصراره على الفشل والفساد وتهديد المصلحة الوطنية مما يستوجب عزله.
من مؤشرات هذه الثقافة السياسية، سيطرة الأعذار واللجوء إليها لتبرير ما لا يُمكن تبريره مما يعني ضمنا تحصين الفاشل والفاسد من المسؤولية واعتباره ناجحا حتى عندما لا يكون كذلك، ونسب المسؤولية لجهات أخرى وهكذا يتم ترحيل الإخفاق لغير أصحابه بدلا من الاعتراف به ودفع الثمن.
يتولى أحدهم رئاسة الحزب أو أمانته العامة عقود من الزمن ويصاحب ذلك أخطاء وفشل ونكبات لا حصر لها تتجاوز تأثيراتها أعضائه وجماهيره لسواهم ومع ذلك لا يستقيل من نفسه ولا تنشئة حزبه تدفعه إلى هذا الخيار، بل ويتم التبرير له والدفاع عنه بحق وباطل وعادة ما يُطلق عليه لقب “رجل المرحلة” مع أنه بشر يُخطئ ويصيب ولديه قدرات محددة وعُمر محددا أيضا للعطاء.
يترتب على هذه الثقافة تحصين هؤلاء السياسيين والمسؤولين معنويا في أذهان الرأي العام حتى إذا ما تعرّضوا للنقد لفسادهم أو فشلهم يتم اتهام من يقوم بذلك بأنه إما حاقد أو مصلحي وربطه بكل نقيصه ولو كان خلاف ذلك، والمهم الدفاع الأعمى من قبل الأتباع وغيرهم نتيجة تأثرهم بالتعبئة والتنشئة الحزبية والفكرية والثقافة السياسية عموما.
عندما يبقى أي شخص في منصبه السياسي أو الحكومي أكثر مما يجب، فهو يؤثر سلبا على هذه الجهة والمستفيدين منها ويمنع التغيير وتداول المناصب ويحرم فئة الشباب من حقوقهم الأساسية في الترّقي والقيادة والمشاركة في صنع القرار، وهو ما لا يُدركه البعض من الشباب نتيجة تأثرهم سنينا بتلك الثقافة.
إن بقاء شخص في منصب مؤثر على حياة الناس سواء قليلا أو كثيرا له أمرٌ كارثي فكيف وحالنا زاخر بهذا النموذج السائد والذي يجعل ملايين الأشخاص في حالة يُرثى لها بينما قلة قليلة ممن يديرون الأمور لا يتغيرون بأي شيء والأسوأ من هذا أن يدافع عن بقائهم الضحايا.
ينبغي أن نتذكر أننا في وضع لا أثر فيه لأي مؤسسة رقابية أو محاسبية سواء البرلمان أو الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة أو هيئة مكافحة الفساد أو نيابة الأموال العامة أو غيرها، مضافا لذلك غياب ثقافة الاستقالة أو التشجيع عليها، وهذا يحتم على كل صاحب ضمير حي أن يدفع باتجاه توعية الرأي العام بأهمية مراقبة مسؤوليهم وسياسييهم ودفعهم للاستقالة عند الفشل الذي لا يُحتمل والفساد الذي يؤثر على حياتهم واعتبار الذي يفعل ذلك شخصا محترما ومن يرفض فهو سيء ومنبوذ.
هذه مسؤولية عامة يُمكن المشاركة في تأسيسها لأجل المصلحة العامة وهذا يتطلب تجاوز التعصب الحزبي والمناطقي والمصلحي والأهم أن يعرف كل مواطن أن مصلحته في ذلك أكبر مما يعتقد أنها في بقاء المسؤول أو السياسي الذي يتفق معه في الانتماء أو المنطقة.
بقاء المسؤول المشهود له بالفساد والفشل كارثة على الدولة والشعب لا العكس، ولا يجب تصديق فكرة أن الاستقالة ليست حلا أو الهروب لسؤال وماذا بعد وكأنه لو حدثت الاستقالة سيحدث الأسوأ، مع أنه في أحسن الأحوال لن يسوء الوضع أكثر مما هو قائم وبالتالي فلا مبرر لأي عذر الإقدام على مثل هذه الخطوات.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق كتابات خاصةنور سبتمبر يطل علينا رغم العتمة، أَلقاً وضياءً، متفوقاً على...
تم مشاهدة طائر اللقلق مغرب يوم الاحد 8 سبتمبر 2024 في محافظة...
يا هلا و سهلا ب رئيسنا الشرعي ان شاء الله تعود هذه الزيارة ب...
نرحو ايصال هذا الخبر...... أمين عام اللجنة الوطنية للطاقة ال...
عندما كانت الدول العربية تصارع الإستعمار كان هذا الأخير يمرر...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: الثقافة السیاسیة الأرصاد الیمنی الرأی العام الحوثیین فی هذه الثقافة فی الیمن
إقرأ أيضاً:
واشنطن تبرر اتفاقها مع الحوثيين وقائد عسكري يحذر من الاستخفاف بهم
قال وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث في مقابلة مع فوكس نيوز إن الولايات المتحدة لن تكرر ما فعلته بالعراق وأفغانستان، مشيرا إلى أن ما فعلته واشنطن مع الحوثيين في اليمن حماية للملاحة على حد تعبيره. من جانبه حذر القائم بأعمال رئيس العمليات في البحرية الأميركية جيمس كيلبي من الاستخفاف بالحوثيين، مؤكدا أنهم يشكلون تهديدا.
وأضاف هيغسيث أنه إذا خصصت واشنطن وقتنا لتغيير النظام في اليمن فإنها لن تركز على المصالح الأساسية على حد قوله. وأوضح في هذا السياق "لم ندمر الحوثيين تماما ولدينا أمور أخرى نحتاج للتركيز عليها مثل إيران والصين".
وأشار وزير الدفاع الأميركي إلى أن الرئيس دونالد ترامب حدد هدفا للحملة في اليمن "وهو أن نجعل الحوثيين يقولون لقد انتهينا". لافتا إلى أن الحملة الأميركية في اليمن كانت دؤوبة في السعي لتحقيق الأهداف العسكرية على حد قوله.
وخلال جلسة نقاش بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي في العاصمة واشنطن قال القائم بأعمال رئيس العمليات في البحرية الأميركية إن جيش بلاده يراقب سلوك الحوثيين.
وأضاف كيلبي "من الخطأ الاعتقاد بأن العدو سيكتفي بالصمت ويواصل النهج ذاته. سيغيرون تكتيكاتهم. لذا علينا أن نراقب ذلك ونفكر مليا فيما سيتغير حتى نتمكن من الاستعداد".
إعلانوتابع القائد العسكري الأميركي "لقد شهدنا تزايدا في سلوك الحوثيين. أحيانا أسمع البعض يتحدثون عنهم باستخفاف. إنهم ليسوا الصين، لكنهم يشكلون تهديدا، وهم يطاردون سفننا. لذا، فإن فهم ذلك وعدم الاستخفاف به والاستعداد هو ما نركز عليه".
وفي تطور مفاجئ، أعلنت الولايات المتحدة قبل أسبوعين عن وقف ضرباتها ضد جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، مقابل توقف الجماعة عن استهداف السفن الأميركية في المنطقة، وهي خطوة -وفق محللين- تعكس تحركا أميركيا بمعزل عن إسرائيل في بعض الملفات الإقليمية.
وخلال مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء الكندي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن التوصل لاتفاق مع الحوثيين يقضي بتوقفهم عن استهداف السفن في البحر الأحمر مقابل توقف سلاح الجو الأميركي عن مهاجمة الجماعة. كما تحدثت الخارجية الأميركية عن استسلام الحوثيين وعدم رغبتهم في مواصلة القتال.