علق كثير من العرب أملا على حرب الطوفان أن تحررهم من عدو لم يقدروا عليه، لكن طول الحرب وقد تجاوزت سنتها الأولى ودخلت في الثانية دون علامات على نهاية قريبة أصاب هؤلاء الآملين بنوع من الخيبة.. كانوا ينتظرون أن تنتصر غزة وتحقق معجزة فيستفيدون من تحليل بنوه قبل ذلك، في وضعية المتفرج المستريح في أريكته وبناء على تحليل كسول أن سقوط الكيان وفقدانه قوة التهديد في المنطقة سيطلق سراحهم في بلدانهم فينجزون تحررهم.
بقي الآن قليل من المنخرطين في المعركة من خارج غزة بشكل مكتوم يجمعون مالا قليلا ويحتالون في تسريبه إلى المحاصرين، وهؤلاء هم بقية من الإسلاميين الفاقدين للقيادة والتوجيه إلا بوصلة خفية من عقيدة.
هل علينا أن نخرج من وضع المتفرج ونساعد في المحلي؟ لو كانت هناك إرادة لكان الخروج؟ ولكن لنخجل على الأقل من غزة فلا نطلب منها فوق طاقتها، ستحارب بدمها متوكلة على رب لا يحسب حسابات السياسة العربية.
الاتفاق في التحليل والعجز عن الفعل
يتفق أنصار غزة من أرائكهم مع العدو في الميدان بأن حرب الطوفان تفتح على تغيير جذري في الخرائط، وأن اندحار العدو مرة هو الاندحار النهائي وفاتحة التغيير المؤدي إلى وضع دولي جديد؛ فيه عرب أحرار ولهم دول قابلة للتطور بإمكانياتها الذاتية، عرب يمكنهم بناء الديمقراطية وإنجاز التنمية
يتفق أنصار غزة من أرائكهم مع العدو في الميدان بأن حرب الطوفان تفتح على تغيير جذري في الخرائط، وأن اندحار العدو مرة هو الاندحار النهائي وفاتحة التغيير المؤدي إلى وضع دولي جديد؛ فيه عرب أحرار ولهم دول قابلة للتطور بإمكانياتها الذاتية، عرب يمكنهم بناء الديمقراطية وإنجاز التنمية. العدو في الميدان، ومنذ إنشاء الكيان يمنع حصول هذا الاحتمال وهو يقاتل بكل قوته ليبقى الوضع على ما هو عليه. جماعة الأرائك ينظرون للمعركة بخيال يرى هذا الاحتمال يتحقق لكنهم لا يقومون إليه، فيوسعون المعركة بطريقتهم فيتسع الفتق على العدو فلا يرتقه فيسلم بوضع جديد.
الحجج كثيرة وأكثرها وقاحة تلك التي تقول إن التظاهر في الشوارع لم يعد يجدي نفعا ولا بد من السلاح. وهذه مزايدة تثير القرف، فمن لم يستطع الأدنى لن يستطيع الأقصى، فالمظاهرة التي قد تسبب جروحا واعتقالات ممكنة، أما طلب السلاح الذي لا سبيل إليه فعذر أقبح من ذنب القعود، وباستثناء أهل اليمن لا نعرف شعبا عربيا يمكنه وضع يده على قطعة سلاح.
بعض القاعدين ينتظرون نصرا من إيران ويحملونها مسؤولية أقوى من جهدها، وينجرون لذلك إلى حرب طائفية تنسيهم الموضوع الأصلي؛ فإذا هم واقفون على آثار كربلاء يدافعون عن يزيد أو يناصرون الحسين وينسون غزة، وينهي بعضهم النقاش بأن إيران يمكنها أن تحرر غزة. انتظار إيران يخفف عنهم وزر قعودهم.. كم ستدفع إيران؟ هذا سؤال ثانوي لجماعات الأرائك.
في الأثناء صورة العدو/ الأعداء تزداد ووضوحا، كل سفارات الغرب عدوة وكل تجارة مع الغرب خيانة، ويمكن التأثير فيها بموقف شعبي تقوده نخب واعية بأهمية المعركة، وليس هذا إلا من قبيل توضيح الواضحات. لكن نخب الأقطار مثل حكامها؛ يخشون المغامرة بسنوات من الصبر والمسغبة حتى يكون تحرير شامل. إن نخب الأقطار في مواقع السلطة وفي مواقع النخب المعارضة قررت البقاء في أرائكها المريحة مكتفية بالتمني، والتمني لا يحرر أحدا لكنه يرسخ القعود الأزلي.
غزة احتمال مهدر في الأقطار
يوجد يوم تال في غزة وستخوضه وحدها مثلما خاضت حربها وحدها.. اليوم التالي في الأقطار سيكون فرح قوم بنصر لم يبذلوا فيها قطرة عرق واحدة ولا نقول قطرة دم، وسيكثر المزايدون لكن سيغلب على الأقطار السكون والانتظار.
لن يكون بإمكان الذين تخلوا عن المعركة في سعيرها أن يستغلوا انهيار الكيان وارتخاء قبضته على أقطارهم؛ لأن خذلان غزة كان ضمن خطة قعود ممنهجة وليس فقط انتظار نصر يحققه غيرهم. لم يؤمنوا بانهيار الكيان وهذا جوهر قعودهم، لكنه ينهار وهذه حقيقة المعركة ولو ارتفع فيها الثمن البشري.
بعد عام من الطوفان نجد أن أثر الطوفان في العرب سيكون محدودا، فالذين خافوا من نصر غزة نافقوه بالشفقة على ضحايا المعركة ولم يؤمنوا به، لذلك فإن أثر الطوفان يخيفهم لأنه يهدد وضعهم الكسول الذين بنوه بموالاة أنظمة يكتبون ضدها مطولات ثورية ثم يخضعون لها طواعية وسيدافعون عنها ضد مد محتمل يأتي من غزة
نعود من قعودهم عن غزة إلى قعودهم عن الديمقراطية، لم يؤمنوا بالديمقراطية ولم يسعوا في الحرية إلا بقليل من كلام نخب في صالونات لا تخرج إلى هجير الشوارع، والذين تخلوا عن الحرية في أقطارهم ليس لهم خيال يرى ما بعد انهيار الكيان، إنهم مبرمجون على الهزيمة واتباع السبل الآمنة المؤدية إلى الذل.
كنا نظن بناء على تنظيرات قديمة فُرضت علينا من أصحاب الأرائك أن العرب سيحررون أقطارهم من الأنظمة العميلة للغرب وللكيان، ثم يوجهون بنادقهم للكيان فيحررون فلسطين. في حرب الطوفان ظهر لنا أن التحرير يأتي من الأرض المحتلة ليصل إلى الأقطار. بعد عام من الطوفان نجد أن أثر الطوفان في العرب سيكون محدودا، فالذين خافوا من نصر غزة نافقوه بالشفقة على ضحايا المعركة ولم يؤمنوا به، لذلك فإن أثر الطوفان يخيفهم لأنه يهدد وضعهم الكسول الذين بنوه بموالاة أنظمة يكتبون ضدها مطولات ثورية ثم يخضعون لها طواعية وسيدافعون عنها ضد مد محتمل يأتي من غزة.
لكن سيبقى هناك أمل في أفق زمني بعيد، فالأجيال التي رأت نخب الآباء تتخلى عن الحرية في الأقطار بدأت تتحرر من هيمنة التنظيرات الكسولة، ونتوقع أنها ستفهم بعقولها الناشئة أثر الطوفان وستنخرط فيه بصفته معركة حرية في القُطري والمحلي. لقد نسف الطوفان كل المجلدات الكسولة ودفن كتّابها المرفهين، وهذا نصر صامت سيكون له ضجيج.
لقد خيضت المعركة بصمت، القاعدون عن الحريات قعدوا عن غزة وقعدوا عن مستقبلهم، وهذا خروج مخجل لكنه يحرر الطريق أمام الطوفان. لن نطلب من غزة أن ترفع وتيرة المعركة لكي يصل الطوفان، بعيدا هذا عيب أخلاقي في حق غزة.
نحن نُظهر الآن لغزة كل الاحترام، ومنه أن نخجل من دمها ودموعها ولا نصمت عن القاعدين الراضين بالذل.. الخجل من غزة شرف صغير ندّعيه، لعله يشفع لنا عند أطفالها المنتصرين.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الطوفان غزة الديمقراطية نصر غزة ديمقراطية نصر طوفان مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة تفاعلي سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حرب الطوفان من غزة
إقرأ أيضاً:
هل آن .. الأوان .. لإحياء خِدمة الميدان
صراحة نيوز – عوض ضيف الله الملاحمة
المُستغرب ، والعجيب أن خطر الإحتلال أصبح داهماً ، ووشيكاً ، وعلى ( مقرط عصا ) كما يُقال عند البدو الأصلاء . بلدي وطني الأردن الحبيب خطر الإحتلال الصهيوني يداهمه ، ولا شيء يمنعه من تنفيذ تهديده . وخطره على الأردن ربما يأتي بإجتياح وإحتلال مباشر ، او ربما يسبق الإحتلال المباشر خطوة تتمثل في تهجير الفلسطينيين من فلسطين ال ٤٨ ، والضفة الغربية الى الأردن كمرحلة تسبق الإحتلال المباشر .
لا مجال لأن اتمنى ان يخيب ظني . فالعدو كشف عن أطماعه بكل صراحة ووضوح في أكثر من مناسبة ، وعلى لسان أكثر من مسؤول . وعندما تتفكر وتحلل ما يقولون ، وتركز في الوسائل الداعمة لتنفيذ مخططاته تجد انهم ( قول وفعل ) كما يُقال . وأكثر ، وأحدث ما أفصح عنه العدو الصهيوني خارطة الكيان التي يتغنى بها منذ عقود بأن مساحة الكيان ستتمدد الى جزء من سوريا ، وكل لبنان ، واجزاء من العراق واجزاء من السعودية ، واجزاء من مصر ، والغريب ان العدو لا يأتي على ذِكر الأردن كما لا يأتي على ذِكر فلسطين ، على إعتبار انه أمراً مؤكداً ومفروغ منه ولا داعي لذكره .
ومع تأكيد التهديد لأكثر من مرة من قبل العدو ، لا يُظهِر الأردن أي ردة فعل مطلقاً ، وكأن الموضوع يتعلق ب نيكارغوا مثلاً . وهنا أتساءل كمواطن وطنه مُهدد من كيان إستيطاني ، إحتلالي ، إحلالي . وإن الخطر ليس إستعماراً كما الإستعمار البريطاني او التركي او غيره . لأن الإستعمار التقليدي مصيره الزوال ولو بعد حين . فأتساءل عن الأسباب التي تجعل المسؤولين الأردنيين يلتزمون الصمت المُطبِق ؟
لماذا !؟ ماذا حلّ بنا !؟ وما الذي دهانا !؟ حتى لو وصلنا الى قناعة ان الإحتلال قادم لا محالة ، وان الأردن الحبيب الى زوال . لماذا نصمت !؟ لماذا ننخرس !؟ على الأقل ( نُهْمُرْ ) ، على الأقل ننفش ريشنا ، على الأقل ( إنْهَمْتِرْ ) ، على الأقل ( نْغَوِّش ) ، نعمل أي شيء .
في الواقع ان بإمكاننا عمل الكثير . علينا ان نستعد ، لنؤذي العدو ، لنوجِعه ، لنقاومه ، لنجعل إحتلاله لنا مُكلفاً ، ثقيلاً ، موجِعاً ، مؤلِماً . على الأقل ان لا يجتاحنا العدو الصهيوني ونحن مثل نسائنا ، خائبين ، خائفين ، مستسلمين .
على مدى التاريخ الإنساني المقاومة الشعبية ، هي التي تحرر الأوطان ، وتطرد المُحتل ، وتُجبره على النكوص والإنسحاب ، إذا أثخنت جراحه ، وأوجعته ، وضربته في مقتل .
حتى لا يكون إحتلال الأردن من قبل الكيان إحتلالاً سهلاً ( Soft Occupation ) . علينا ان نستعد للإحتلال القادم ، علينا ان نُعيد خدمة العلم او (( التجنيد الإجباري )) للشباب ، و (( الجيش الشعبي )) لكبار السن ، كما علينا ان نستمر في إخضاع (( المتقاعدين العسكريين )) لدورات سنوية حتى لا ينقطعوا عن إستخدام الأسلحة والتدرب على الحديث منها . وان يكون تدريباً عسكرياً حقيقياً في ميادين الجندية لينال الشباب شرفها . كما علينا ان نستفيد من تجربة خدمة العلم السابقة ونتجنب الأخطاء الكثيرة التي وقعنا فيها ، مثل خدمتهم كمراسلين في مكاتب كِبار الضباط .
إحياء خدمة العلم أصبح ضرورة مُلحة ولها فوائد وطنية جمّة . فبالإضافة الى انها تعزز الإنتماء الوطني لدى فئة الشباب تحديداً ، فإنها تساعد على صقل الشخصية ، وطبعها بطابع الجدية ، والإنضباط ، وتحفز الشباب لأن يخشوشنوا . كما انها تُشغل الشباب ، وتعبيء وقت فراغهم الكبير الذي يؤثر سلباً على نفسياتهم ، ويؤدي الى إنحراف البعض واللجوء الى تعاطي المخدرات وغيرها من السلوكيات غير السوية . فمثلما قال الشاعر أبا العتاهية : ( إن الشباب والفراغ والجِدة مفسدة للمرء أيُّ مفسدة ) .
أرى أنه لا حجة أمامنا ، لتأجيل إعادة خدمة العلم . لا يوجد سبب يمكن ان يقف أمام هذه الفكرة السامية التي غايتها الأساس حماية الوطن والدفاع عنه وتنشئة الشباب تنشئة صحيحة .
إنها مسألة وجود . فإما ان نستعد لنقاوم العدو ، ونجعله يفكر الف مرّة قبل ان يُقدِم على التقدم نحو وطننا . لأن المقاومة الشعبية ستكون سنداً كبيراً ، وقوياً ، وفاعلاً ، ومؤثراً لجيشنا البطل وأجهزتنا الأمنية الباسلة . ويتعاظم دور المقاومة الشعبية عندما يكون الإحتلال في بدايته وقبل ان تتمركز قوته العسكرية وتتعزز قبضته ويستبيح الوطن .
ويفترض ان يتم إعتبار المجندين كضباط وجنود إحتياط ، وان تضاف مدة التدريب الى خدمتهم المدنية . وان يتم إستدعائهم لأسابيع سنوياً ليواكبوا استخدام الاسلحة وتطورها .
من منظور مواطن يعشق وطنه ، ويرتعد رعباً وخوفاً عليه ، وهو يرى ، ويسمع ، ويتابع العدو وهو يهدد ، ويتوعد ، ويسن مخالبه .
أعتقد اننا تأخرنا كثيراً في التجهيز للخطر الماحق القادم . كل خوفي يتركز في ان يقع المحظور ، ونضرب كفاً بكف ، ونقول ونحن نادمين ياليتنا عمل كذا وكذا . عندها لا ينفع الندم ، ولا نجني شيئاً من عض الأصابع . وينطبق علينا المثل الذي يقول : ما ينفع البر يوم الغارة ، او ما ينفع ( العليق ) يوم الغارة . ومعناهما : ان فرسك التي تود ان تغزي عليها لا تنفع تغذيتها يوم المعركة . فالإستعداد والتحضير يجب ان يكونا قبل وقوع المعركة او الكارثة بوقتٍ كافٍ . وحتى لا نكون في خسران مبين ، ونقول يا ليتنا ، ونندم حيث لا ينفع الندم .
وأرى انه من الضروري ان أُذكّر بالآية القرانية الكريمة : بسم الله الرحمن الرحيم (( وأعِدوا لهم ما إستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَ اليكم وانتم لا تظلمون )) صدق الله العظيم .
وقد يقول قائل : انه ليس كل من هدد نفذ تهديده . وهنا أقول : العدو معروف عنه انه ينفذ كل تهديداته ، لأنه يمتلك كافة عناصر القوة والدعم الغربي ويعتبر ان المرحلة الحالية مثالية لتنفيذ أجندته التوسعية في زمن الإنحدار العربي غير المسبوق .
وأختم بثلاثة أبياتٍ من الشعر :—
— والحربُ يبعثها القوي تجبراً / وينوء تحت بلائها الضعفاءُ .
— ومن لا يعانِ الجِد في كل أمرهِ / رأى كل أمرٍ في العواقبِ خذلانا .
—العيش في سِعة الأوطان مفخرة / والذلّ ما بقيت في الذلِّ أوطاني .