شلاء في الشوارع تنهشها الكلاب ومعتقلون يستخدمون دروعاً بشرية ونساء يلدن تحت القصف
تاريخ النشر: 26th, October 2024 GMT
الثورة / افتكار القاضي
تعيش عشرات الآلاف من العائلات الفلسطينية، أوضاعا مأساوية وكارثية في مخيم جباليا وبيت لاهيا، شمال قطاع غزة، الذي يشهد حرب إبادة جماعية وحصاراً مطبقاً منذ 21 يوما، ويعيش قرابة 200 الف تحت النار الذي لا يتوقف والمجازر اليومية التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق السكان، ومنع دخول أي مساعدات غذائية للمحاصرين، واجبار الآلاف على النزوح القسري من منازلهم ومن مراكز ومدارس إيواء النازحين، الذين يطلقون نداءات استغاثة يومية للامة الإسلامية وللعالم لإنقاذهم من أهوال الاحتلال وجرائمه الوحشية التي خلفت اكثر من 850 شهيدا وآلاف الجرحى خلال ثلاثة أسابيع فقط
“الثورة” تسرد بعضا من الجرائم والفظائع الوحشية التي يرتكبها جيش الاحتلال الصهيوني بحق سكان شمال غزة بشهادات مروعة، من أفواه محاصرين يشارفون على الموت وناجين لفظهم الموت من بين فكيه.
أم عمر التي وضعت طفلتها خلال الحصار في مدرسة كانت تنزح فيها شمال القطاع، تقول “في فصل دراسي وعلى الأرض بعد أسبوع من الحصار، قامت سيدة بمساعدتي على وضع طفلتي، لقد مررت بأصعب ميلاد يمكن أن يمرّ على امرأة في العالم”.
قضت أم عمر بداية نفاسها وهي تحت وطأة الحصار، لم تتلق الطعام ولا الشراب ولا الرعاية المناسبة، وتقول “بعد أسبوع من ولادتي خرجتُ مع أطفالي الخمسة وحدنا، وتركتُ زوجي في الحفرة التي خصصها الاحتلال للرجال، كان الجندي يصرخ كلما حاول أبناؤه الاقتراب للبحث بين الرجال عن والدهم، ويقول “ورا ورا” (أي ابتعدوا للخلف)!
وهذا يوسف المصري زوجها، الذي فرّ من جنود الاحتلال بعد 5 أيامٍ من الاعتقال استخدموه فيها درعا بشريا، يروي تفاصيل اعتقاله التي فضح وجهه وإنهاك جسده فداحتها، حيث كان نازحا في مدرسة تؤوي مئات النازحين بجوار المستشفى الإندونيسي، حيث احتجزته قوات الاحتلال بعد التحقيق معه معصوب العينين ومكبّل اليدين.
يقول المصري : ” كانت القوات التي اعتقلتني تدفعني دفعا نحو مدارس النازحين وتجبرني على دخولها غرفة غرفة لتفقّد وجود مقاومين أو عتاد، “وبعد التأكد من خلو المدرسة من المقاومين والأسلحة كانوا يحرقونها كلها، حتى لا يعود الناس إليها”.
وبين مهمة وأخرى كانوا يعيدون عصب عينيه وتكبيل يديه، لكن أُذنيه كانتا مكشوفتين لتسمعا صرخات المئات من الفلسطينيين المعذّبين تحت وطأة وعذابات التحقيق الإسرائيلي.
ويضيف: قبيل الفرار ناداه ضابط صهيوني وسلمه مناشير (تهديدات ورقية) ليحملها إلى مستشفى كمال عدوان، تطالب من فيه بالإخلاء، ليتمكن هناك من الانخراط مع العشرات الذي أخلوا المستشفى والنجاح بالفرار معهم، لكن طائرة مُسيَّرة أطلقت النار عليه وأصابته في قدمه.
كان لدى المصري الذي روى لـ”الجزيرة” مُتسع للخروج من المدرسة التي يأوي إليها قبل حصارها، لكنه برر عدم خروجه بقوله “نحن مدنيون ولا ملجأ لنا إن خرجنا، كما أن زوجتي كانت على مشارف وضع جنينها ولا تستطيع السير وحدها مع أطفالنا الخمسة”.
جنود بلا أخلاق
“أشوف شعرك يا حلوة” قال جندي صهيوني لأم عبيدة، وهو يحاول مدّ يده لمقدمة شعرها المنسابة من تحت حجابها، لتشيح بوجهها وتصرخ، ويصرخُ زوجها المكبّل من أعمق نقطةٍ في قلبه، فيضرب الجندي ببسطارة قدمه المصابة بشظية قذيفة أطلقها جنود الاحتلال قبل هجومهم على المدرسة.
يتجول الجنود بين السيدات المحتجزات في ساحة المدرسة ويقذفونهن بألفاظ نابية ويتشمتون بهن “مش بدكم حماس؟ خلي حماس تنقذكم!”، صرخت إحداهن بصوت أعلى من أصواتهم “لا إله إلا الله”، فاقترب منها أحدهم وقال “اخرسي بلاش أقتلك!”.
تروي أم عبيدة هذه الشهادات، وعيناها تجوسان في الفراغ كأنها تصف مشهدا من فيلم رعب لن تتعافى منه كما تقول، “صارت طفلتي تبكي تريد ماء، طلبت من الجندي ماء وقد كان معهم كميات كبيرة منه، ليجيبني متهكّما: بعد يومين سأعطيكِ!”.
كان الخروج من المدرسة بمثابة ولادة جديدة للسيدة النفساء ولزوجها المصاب الذي سار متكئا على كتفها وباليد الأخرى تحمل طفلتها وحقائبهم، وهما يسيران مشيا على الأقدام لأنهما لا يملكان مالا يدفعونه لركوب مواصلات تُقلّهم لوسَط المدينة.
جلست أم عبيدة في ممر تحت درج المدرسة، وهو المكان الذي وجدته فارغا فيها خاليا من النازحين، وفي حِجرها تحمل ابنتها التي تعاني من سوء التغذية، وتقول “هربنا من الموت ولم نكن نفكر إلا بالنجاة منه، وحين وصلنا أدركنا أننا سنموت جوعا”، وتتابع: “وصلنا صفر اليدين لا نملك شيئا، استلفت من الناس حولي فرشةً لثلاثتنا ومن شقيقتي حليبا وحفاضات”.
قهرٌ مركب
بصوتٍ مرتجف، تروي أم محمود ما حدث معها وهي تحاول ابتلاع حزنها ودمعها، وتقول “نادت الطائرة المسيَّرة “الكواد كابتر” على من في مدرسة أبو راشد تمهلهم ساعة واحدة للإخلاء”، وتتابع: “قمنا بتحضير حقائبنا وهممنا بالخروج، حتى وصلتُ إلى الساحة مع زوجي وأولادي الستة، حتى انهالت القذائف على ساحة المدرسة لتفتك بـ3 من أبنائي!”.
قصة من جُمل قليلة، لم يكن هذا هو السطر الأخير فيها، تكمل أم محمود: “التفتَ إليّ زوجي وقال لي خذي باقي الأولاد واخرجي، كصاعقة نزل عليّ الأمر.. كيف تطلبُ مني أن أسير وأترك أشلاء قلبي ممزقة على الأرض!”.
قذيفة أخرى وصرخ زوجها باكيا “أقول لك اخرجي الآن”، دفعتها للرضوخ، لفّ الرجل جثمان ابنته بسجادة وحملها مع جثماني ولديه على عربة تجرها الحيوانات حتى تمكن من الوصول إلى مستشفى كمال عدوان، وبينما كان يواريهم الثرى سلكت الزوجة طريق نزوحها على قدمين رخوتين بجسد يجره من نجا من أبنائها جرا، وقلبٍ مثخنٍ دُفن لتوه معهم.
أشلاء على الطريق
“كلبٌ ينهش ذراع شهيد على الأرض، يجزها بأنيابه ثم يسير بها” مشهدٌ لم تستطع الحاجّة عزة الكفارنة أن تتجاوزه، لذا فقد قررت في طريق نزوحها دفن شاب في قارعة الطريق حين رأت اقتراب كلب نحوه.
شهادة تتشابه مع شهادة الناجية أم فهمي وهي تروي مأساتها: “أُجبرنا على السير من بين عشرات الدبابات في طريق ضيق مليء بالجثامين والأشلاء، على مرأى مئات الأطفال الذين كانوا معنا”
حوصرت أم فهمي 15 يوما في مدرسة ببيت لاهيا، وفق شهادتها لـ”الجزيرة” . وتسرد تفاصيل الحصار التي عاشوها قائلة: “مع اليوم الأول للحصار قمنا بإخلاء الطوابق العلوية، وتجمع كل النازحين في الطابق الأرضي هربا من بطش القذائف”، وتتابع: “كنّا نخبز الصاج ونوزعه على أنفسنا، لا نأكل وجبة غيره طيلة النهار ونحاول أن نقيم بها صُلب أجسادنا”، أمّا عن الشراب فقد كان المحاصرون يبللون شفاههم وألسنتهم تبليلًا فقط لتبديد جفاف حلوقهم، كما تضاعفت معاناة المرضى الذين نفدت أدويتهم والأطفال لنفاد حفاضاتهم، حيث صارت الأمهات تمزق من ثيابها وتستخدمها بديلا عن الحفاضات. وأمّا عن الأطفال فقد كانت السيدات في كثير من الأوقات لعدم قدرتهن على الحركة يضعن “جرادل/أوعية” ليقضي بها أطفالهن حاجتهم، لاستحالة التحرك والخروج بهم إلى المراحيض.
معاناةٌ عاشها المحاصرون في تفاصيل الحياة تختلف عن صنف آخر من المعاناة التي تعيش فيهم، والتي تروي أم فهمي جزءا منها: “عندي عشرة أولاد، لم يبقَ منهم معي إلا واحد، وهم مفرقون ما بين الأسر في سجون الاحتلال والحصار في الشمال والنزوح في الجنوب”، تربت بيدها على قلبها وتمسح عبراتها وتختم “كله بيهون وفدا فلسطين”!
دور “الكواد كابتر”
أم صهيب فقدت الاتصال بزوجها بعدما فرّت بأطفالها الخمسة، من بين برميلين يأمر الجنود السيدات بالعبور خمسًا خمسًا على نقطة لقوات الاحتلال، يقومون بفحصهن عن طريق كاميرات، يغربلون الرجال بين “امرُق/اعبر” أو “أوقف ع جنب”!
تعود السيدة إلى لحظة ما قبل النزوح، حيث دخلت عليهم الطائرة المسيرة الحربية “الكواد كابتر” من النافذة في مركز الإيواء لتصوير مَن في الغرفة، تقول: “كنت أتكور مع أطفالي بعضنا فوق بعض في زاوية الغرفة خشية أن تطلق المسيَّرة علينا الرصاص”.
لعبت “الكواد كابتر” خلال هذا الحصار دورا يصفه الضحايا بـ”القذر”، حيث كانت تصدر صوت صراخ رجال يقولون: “الحقونا الحقونا”، أو بكاء أطفال أو نحيب سيدات، ليخرج الناس نحو مصدر الصوت، فتباغتهم بالرصاص، وقد كانت تصدر أصوات آليات قريبة لتستدرج المقاومين، ومؤخرا سمعها الناس في بعض المناطق تبث أغاني عبرية مرعبة، عدا عن مهمات التصوير والتجسس وإطلاق الرصاص.
طوابير الأسى
تتعدى المأساة الغرف الموصدة، وتراها متجسدة في ممرات مركز النزوح وفي ساحاته، فهناك مئات الأطفال حُفاة الأقدام، يُمسكون بين أكفهم خبزا فارغا يوزعه سكان المنطقة على النازحين، يأكلونه بشراهة المحروم دهرا من طعام، وهم يصطفون طابورا حاملين جالونات المياه ينتظرون مرور سيارة تابعة لمحطات مياه الشرب.
يجلس مئات الذين وصلوا لتوّهم يحملون قهرا يفيض دموعا تحرق وجوههم الكالحة الشاحبة، وتبلل شفاههم الجافة المشققة، وتوحدهم الحيرة والتخبط، وتجمعهم ملامح وجع جديد لم يعيشوه طيلة عام من الحرب ونكبة جديدة رآها العالم -ولا يزال- على البث الحي والمباشر ويباركها إما بدعمه للاحتلال وجرائمه، أو بصمته المخزي، فصراخ الأطفال والنساء والشيوخ وآلام المصابين وجراحاتهم، وأشلاء الشهداء المتناثرة في كل مكان .. بات منظرا عاديا ومألوفا أمام عالم لا يستثيره ما يحدث، ولا يهمه ما يرى أو يسمع، وكأن لا حياة لمن تنادي .
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
مراسل ذي انترسبت يروي شهادته عن المجاعة التي تسبب بها الاحتلال في غزة
نشر موقع "ذي إنترسبت" الأمريكي، تقريرا، للصحافيين عفيف نصولي وستيفن ثراشر، قالا فيه إنه: "عندما سمع خليل وجيرانه في 10 حزيران/ يونيو أن شاحنة مساعدات وصلت على بعد بضعة كيلومترات من منزله في دير البلح، كان قد خسر 20 كغم من وزنه".
وبحسب التقرير الذي ترجمته "عربي21"، انطلق خليل سيرا، على الأقدام برفقة إخوته وصديق له. في طريقهم، سمع الشاب البالغ من العمر 26 عاما قصفا متقطعا، لكنه شعر أن الحصول على الطعام يستحق المخاطرة. قال خليل: "أصبح الجوع أقوى من الخوف".
عندما وصلوا حوالي الساعة 6:30 صباحا، كان حشد كبير قد تجمع عند نقطة الإغاثة في نتساريم. قال خليل: "لم أتناول طعاما جيدا منذ أيام. كنت أشعر بالدوار والضعف".
ووفقا للتقرير نفسه: "أدار موقع التوزيع مُقدِّم مساعدات جديد يعمل في غزة لبضعة أسابيع فقط. لاحظ خليل بسرعة وجودا عسكريا. قال خليل: رأينا الجنود الإسرائيليين بزيهم العسكري الكامل يقفون بجانب عرباتهم المدرعة. وصلنا ونحن نعلم أن المكان خطير. لكن لم يكن هناك أي اشتباك، ولا تهديد لهم".
وتابع: "وقف في الصف مع مئات آخرين. كان هناك أطفال ونساء وشيوخ. يتذكر قائلا: "كان بعضهم حافي القدمين، والبعض الآخر ينتظر منذ الليلة السابقة". بينما كانت مجموعته تقترب ببطء من النقطة التي كانوا يأملون أن يتمكنوا من أخذ طرد من الأغراض منها، دوّت طلقات نارية؛ فرّ خليل للنجاة بنفسه.
قال: "بدأوا بإطلاق النار مباشرة على المدنيين العُزّل". كانت الرصاصات تطاردنا كما لو كنا أهدافا في ميدان رماية، ولسنا مجرد جائعين. تفرقنا تحت وابل الرصاص. كنت أقرب إلى الموت في ذلك اليوم من كسرة خبز".
وفي السياق نفسه، أشار التقرير إلى أنّه منذ أن انتهكت دولة الاحتلال الإسرائيلي وقف إطلاق النار مع حركة حماس، في منتصف آذار/ مارس، قُتل أكثر من 875 فلسطينيا أثناء بحثهم عن الطعام.
في تغطيته من داخل غزة، على مدار الأشهر القليلة الماضية، لاحظ موقع "إنترسبت" مجاعة يتم صنعها ونظام توزيع مساعدات مُصمم على ما يبدو للتسبب بمزيد من المعاناة والموت. دخل الصحفي الأمريكي، عفيف نسولي، القطاع، من خلال التطوع كعامل إغاثة في منظمة طبية غير ربحية.
عادة، خلال الحرب، لا يُدار توزيع الرعاية الطبية والغذاء على السكان المحاصرين من قِبل أي طرف يشن حربا ضدهم، ناهيك عن جيش محتل غير قانوني. وفي معظم الحالات، تتضمن عمليات الإغاثة عن كثب منظمات راسخة نشطة بالفعل في المنطقة.
بدلا من ذلك، أطلقت دولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة، مخطّطا جديدا، يتمحور حول منظمة تعمل جنبا إلى جنب مع الجيش الإسرائيلي نفسه المسؤول عن قتل أكثر من 230 صحفيا و1400 عامل في مجال الرعاية الصحية و17000 طفل فلسطيني في العامين الماضيين.
باستثناءات قليلة، مُرّت جميع المساعدات التي وصلت إلى غزة منذ أيار/ مايو عبر مؤسسة غزة الإنسانية (GHF)، التي أُنشئت في ولاية ديلاوير في شباط/ فبراير. وتلقت المؤسسة عشرات الملايين من الدولارات من الولايات المتحدة لتوزيع المساعدات في غزة، وورد أنها تلقت حوالي 100 مليون دولار من دولة لم يُكشف عن اسمها.
ومنذ أن بدأت عملياتها، انخفض عدد المواقع في غزة التي يمكن للسكان تلقي المساعدات فيها من حوالي 400 موقع إلى أربعة مواقع. فيما قالت منسقة المشاريع الرئيسية في منظمة العمل من أجل الإنسانية، ومقرها دير البلح، هانية الجمل: "أحيانا يكون هناك مركز واحد فقط يعمل بالفعل". وأضافت الجمل أن المواقع تُغلق أحيانا لأسباب أمنية، وأحيانا أخرى للصيانة.
ويؤكد خليل ذلك، بالقول: "ذهبت قبل بضعة أيام ولم يكن مفتوحا". ويقول إنه الآن يتفقد صفحة GHF على فيسبوك، التي تُطلع الناس على الجدول الزمني. وتقول الجمل إنها: "تعتقد أنهم يعملون بشكل شبه يومي لمدة ساعتين فقط في اليوم".
وصل موقع "ذي إنترسبت" إلى غزة في أواخر آذار/ مارس، بالتزامن مع خرق دولة الاحتلال الإسرائيلي لوقف إطلاق النار، وشهد بنفسه ما حدث لأكثر سكان غزة ضعفا بعد أن أوقفت الولايات المتحدة تمويلها للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) والأونروا، وسلمت عمل هاتين الوكالتين للجيش الإسرائيلي وGHF.
ووفقا للتقرير ذاته، استرسلت الجمل: "كانت اللحوم والخضروات والدجاج - وحتى الوجبات الخفيفة - في متناول اليد، وإن كان ذلك بسعر مرتفع بعض الشيء. ولكن كانت لدينا خيارات".
وفي 2 آذار/ مارس، قطعت قوات الاحتلال الإسرائيلي واردات الغذاء إلى غزة عندما فرضت حصارا. وفي 18 آذار/ مارس، وخرقت وقف إطلاق النار باستئنافها حملة الغارات الجوية. في ذلك الوقت، كانت المطابخ المجتمعية، مثل "شباب غزة"، تعاني من نقص في الطعام. حيث كان هناك حوالي 170 مطبخا مجتمعيا عاملا قبل إغلاق المعابر في أوائل آذار/ مارس. وبعد شهرين فقط، توقفت العشرات منها عن العمل.
منع الحصار دخول البضائع لأشهر طويلة، ومع استئناف القتال تعذر الوصول إلى المنتجات المحلية "بسبب أوامر الإخلاء الجديدة من الشمال ورفح ومناطق في خان يونس حيث زُرعت محاصيل جديدة"، بحسب الجمل.
أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أنّ: "إسرائيل دمرت 83% من الأراضي الزراعية في غزة وقيدت الوصول إلى بعض ما تبقى، مما جعل أقل من 5% من الأراضي الزراعية: متاحة للزراعة".
وقالت امرأة مسنة في مطبخها المؤقت شرق خان يونس: "كان سعر ثلاثة كيلوغرامات من هذا البصل ثلاثة دولارات فقط". وبحلول نيسان/ أبريل، بلغ سعر البصلة دولارا واحدا. وأصبح الدقيق باهظ الثمن بشكل لا يُصدق، حيث يُباع الكيس الواحد بمئات الدولارات. ولأن جميع فروع البنوك وأجهزة الصراف الآلي تقريبا لا تزال معطلة في غزة، لا يستطيع الناس إيجاد المال اللازم لشراء حتى كيس دقيق واحد.
ووفقا للتقرير: "حتى الدجاج أصبح يضع بيضا أقل من المعتاد، وفقا لأحد عمال الإغاثة الدوليين، حيث الأعلاف غير متوفرة. ومثل البشر، يعاني الدجاج أيضا من التوتر، فأصوات قنابل الجيش الإسرائيلي وطائرات الاستطلاع لا تنقطع".
اعتبارا من تموز/ يوليو، أفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية أن 100% من سكان غزة من المتوقع أن يواجهوا مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد. يشمل ذلك مليون شخص يواجهون مستويات "طارئة" من انعدام الأمن الغذائي، و470 ألف شخص يواجهون مستويات "كارثية" من انعدام الأمن الغذائي.
قال باسل، أحد الرجال في مطبخ شباب غزة المجتمعي: "لقد فقدت ما يقرب من 37 كغم". وعرض صورا لنفسه من عام 2023، عندما كان وزنه 112 كغم. باسل، الذي يبلغ طوله 189 سم، يزن الآن 75 كغم، ويبدو هزيلا.
إلى ذلك، تطوّع نسولي، مراسل إنترسبت، في غزة مع منظمة "غليا"، وهي منظمة طبية غير ربحية، من أواخر آذار/ مارس إلى أوائل حزيران/ يونيو. مع غيره من العاملين في المجال الطبي، كان يتناول وجبة واحدة يوميا - عادة الأرز أو العدس. أحيانا كان يتناول الطماطم أو الفلفل، وأحيانا التونة المعلبة. خلال تلك الفترة، خسر 5.4 كغم.
أصبح من الشائع أن يتسول الناس الطعام في السوق، أو يندفعون إلى سيارات عمال الإغاثة الدوليين على الطريق الساحلي، أو حتى يطرقون الأبواب بحثا عن الدقيق. أوضحت الجمل، عاملة الإغاثة، قائلة: "الآن، اقتصرنا على وجبة واحدة يوميا"، تتكون عادة من نوع من الشيء نفسه: العدس".
تأسست الأونروا عام 1949 لتقديم الإغاثة الإنسانية للفلسطينيين. في الأصل، كان الهدف منها توفير فرص عمل في مشاريع الأشغال العامة وتوجيه الإغاثة. تطورت الأونروا لتقدم التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية لشرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني، حتى أنها خدمت أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني مسجل وأحفادهم في الشتات.
كما قدمت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية دعما ماليا للشعب الفلسطيني في مشاريع تنموية وإنسانية مختلفة. منذ عام 1994 قدّمت الولايات المتحدة أكثر من 5.2 مليار دولار كمساعدات للفلسطينيين. توقف هذا التمويل بعد أن وعد وزير الخارجية ماركو روبيو في مارس بخفض المنح الخارجية للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بنسبة 83% قبل إغلاقها بالكامل في الأول من تموز/ يوليو.
اعتمد جزء كبير من النشاط الاقتصادي في القطاع على البنية التحتية للمساعدات، حيث لعبت الأونروا تحديدا دورا حاسما في توزيع الغذاء حتى قبل بدء الحرب. كما لعبت المطابخ المجتمعية دورا حاسما في توزيع المساعدات في غزة. انتقلت مورين كعكي، رئيسة بعثة غليا، وهي أمريكية من أصل فلسطيني، من تكساس إلى غزة قبل أكثر من عام للمساعدة؛ ولم تغادر قط. كما تتطوع في منظمة شباب غزة في خان يونس.
تشير كعكي إلى أن المطابخ المجتمعية في جميع أنحاء غزة كانت تنتج 250,000 وجبة يوميا، تُطعم حوالي 800,000 شخص - حوالي 45% من سكان القطاع. في ذلك الوقت، كانت المطابخ المجتمعية قادرة على الحصول على الطعام بشكل موثوق من خلال التبرعات والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. لكن الآن، أصبح من الصعب للغاية تشغيلها.
لا تزال المطابخ المجتمعية موجودة اليوم، لكن قدرتها الاستيعابية انخفضت من 250,000 وجبة يوميا إلى حوالي 25,000، كما تقول كعكي، لأنها ببساطة لا تستطيع الحصول على الإمدادات. وتقول إن المجاعة الحالية "هي الأسوأ التي رأيتها، بلا شك".
توقف مطبخ وورلد سنترال، الذي أسسه الشيف خوسيه أندريس وأحد أشهر موزعي الأغذية في غزة، والذي قُتل عماله في غارة جوية إسرائيلية عام 2024، بعد نفاد الإمدادات، واستأنف عملياته مؤخرا. وواصلت منظمات المساعدة المتبادلة الأصغر حجما، مثل مشروع سمير، تقديم أكبر عدد ممكن من الوجبات، حتى بعد مقتل منسق المخيم التابع لها مصعب علي.
انخفضت قدرة مطبخ شباب غزة على تقديم وجبات الطعام من 15,000 وجبة يوميا إلى 3,000 وجبة في حزيران/ يونيو، وبحلول تموز/ يوليو اضطرت إلى إيقاف عملياتها لأن الأرز أصبح باهظ الثمن. وتأمل المجموعة في استئناف عملياتها في أقرب وقت ممكن.
قال ماجد جابر، وهو طبيب فلسطيني متطوع في غرفة الطوارئ عمل في عدة مستشفيات في جنوب غزة: "منذ البداية، وُضعوا في مناطق خطرة - وخاصة في جنوب غزة، وتحديدا في رفح".
وأضاف: "في مستشفيات ناصر والهلال الأحمر، حيث كنت أعمل خلال تلك التوزيعات، كنا نستقبل بانتظام ما بين 50 و100 جريح في يوم واحد.. كانت الإصابات مروعة. أطراف مبتورة برصاصات من عيار ثقيل. أعضاء حيوية مثقوبة - قلوب، وأبهر، ورئتين. رأينا عددا كبيرا جدا من الطلقات في الرأس، ولا يمكننا وصفها بالصدفة".
في 17 حزيران/ يونيو، وردت تقارير تفيد بأن الدبابات الإسرائيلية استهدفت أكثر من 50 فلسطينيا أثناء انتظارهم شاحنات المساعدات في خان يونس جنوب القطاع. وفي 16 تموز/ يوليو، قُتل أكثر من 20 فلسطينيا في موقع توزيع تابع لمؤسسة GHF جنوب غزة.